مدرستي والحجاب: الحريّة أول درس !
8 مارس , 2011


بداية، مع نهاية العام الدراسي علمت المديرة برغبتي بارتداء الحجاب، فكان التهديد بعدم القبول للعام المقبل، وأي عام؟ إنه التوجيهي! سألتها عن ورقة التسجيل التي لم أستلمها خلافاً لبقية زميلاتي، فقالت لي بحزم وتهديد: إذا أردت التسجيل للعام القادم فعليك التوقيع على تعهد بعدم إرتداء الحجاب. راجعها والدي في ذلك بعدها فأنكرت أشد الإنكار ما قالته لي.
انتهت عطلة الصيف وعدت لها على ظهري حقيبة المدرسة، ويدي خالية من ورقة تسجيل رسمية وعلى رأسي حجاب، كان قرارها صارماً: ممنوع الحجاب! كان الحل الوحيد أمامي: خلع الحجاب داخل أسوار المدرسة. كنت في كل يوم بعد أن أدخل مبنى المدرسة أخلع حجابي وأعاود ارتداءه مع انتهاء الدوام المدرسي. حينها كنتُ أبصر الأمر بعيني ابنة الستة عشر عاماً فأراه: حرباً بيني وبين تلك المرأة التي جاوزت السبعين، ماذا تريدين مني؟.. أنا لا أؤذيك بحجابي.. عيشي حياتك ودعيني اعيش حياتي..
بينما كانت غيري من المحجبات – اللواتي بدأن بالإزدياد في ذلك العام – يحاولن كل صباح أن يتجنبن أية مشاكل معها، وكما قالت لي إحداهن ذات مرة: أدعو في كل صباح أن لا أجد المديرة تقف على الباب في انتظارنا! كنت أنا أتمنى أن أراها كل يوم، كان عندي شغف بالتحدي، وشعور بأن المشاكل ستجعلني أكثر ثقة ويقيناً. لا أخفيكم، كنت أستلذ في مقارعتها، وأشعر أنها لا تجد شيئاً واحداً تعاتبني عليه فأظنها تفتعل أي نقاش، وتحتار في قول أي شيء لمجرد القول، وكان ذلك ممتعاً بالنسبة لي.
ومع ثورات العالم العربي المشتعلة هذه الأيام رجعت بي الذاكرة إلى تلك الأيام المدرسية. سألتني إحداهن – ممن تقل متابعتها لأخبار السياسة – لماذا يثور الناس في الدول العربية؟ على أي شيء يعترضون؟ بماذا يطالبون؟ كان سؤالها بديهياً جداً، كانت فعلاً لا تدري شيئاً عن أوضاع الحريات وحقوق الانسان. شرحت لها، وضربت مثلاً عما عاناه المصريون من حكم الإستبداد وبعدها تأملت حركات وجهها، يبدو أن الشرح كان فضفاضاً، يبدو متعلقاً بالسياسة وبالناشطين فيها، وما لنا نحن؟ هكذا يبدو من بعيد، ولكن هل هو فعلا كذلك؟ سريعاً تذكرت موضوع الحجاب هذا، عادت بي الثورة إلى تلك المشاكسات، لا لا، موضوع مصر والثورات ليس عنا ببعيد! إنه الموضوع ذاته! إنها الحرب ذاتها بأشكال متعددة.
إذن يبدو أن معركة الحجاب كانت معركة صغيرة من سلسلة حروب كبيرة تجري في العالم، كلها لأجل قيمة واحدة “الحرية”. الآن فهمت القصة أكثر.. الآن أراها بعين أوسع..لم يكن الأمر شخصياً فحسب، لم يكن الأمر مجرد قضية حجاب وعجوز تعاديني فيه فحسب. الآن أراها بمجهر كبير، أراها حربا بين الحرية والاستبداد، حرباً بين كرامة الاختيار وذل الاجبار. أبصرتُ أننا نُغذى منذ صغرنا على نقيض الحرية، من أصغر خيار في حياتنا، من قمعنا لنرضى بقرارت الكبار دون نقاش، الآن شعرت بمتعة مقارعة المديرة أكثر فأكثر وأنا أقارنه بشغف ثوار ميدان التحرير.
سألت نفسي بعدها: هل أُحدثُ تلك الفتاة السائلة عن انتهاك الحريات في مصر والعالم بأسره؟ نعم، ولكن أحدثها كذلك عن القيم التي نغذيها في أطفالنا منذ الصغر، عن انتهاك الحريات في أول العمر. مدرسة مرموقة تربى فيها الفتيات ويكبرن في جو من التوتر بسبب الحجاب؟! أي قيمة تكبر فينا في هكذا جو؟ على أي شيء تربي مدارسنا جيل المستقبل؟ الاستبداد يبدأ من أصغر خلية في مجتمعاتنا، ينمو وينمو حتى يصل أعلى الهرم.
أربطها أكثر بواقعنا الفلسطيني، أنت ممنوعة من الحجاب وعليك تقبل الأمر، طيب وماذا عن الاحتلال؟ إن كان الحجاب حقاً بسيطاً جداً ويقهر لهذه الدرجة، فما بالنا بحق أكبر وأكبر كحق فلسطين؟ أندرس ليل نهار عن تاريخ فلسطين ونتغنى بها، ومن ثم تحرميني من حريتي وتقمعيني؟ كيف تتوقعين من جيلي أن يثور لأجل فلسطين؟ ألم تخف مديرتي أن تربي فينا نزعة الرضى بالواقع والقبول به.. ألم يكن قبولنا بمنع الحجاب تربية غير مباشرة على القبول بقمع أكبر وأكبر.. الآن أستذكر كلماتها لنا وأكاد لا أصدق، كيف تقولين لنا بناء الوطن وتشددين على قيمة العلم، أي وطن وأي علم بلا حرية؟ سنبني الوطن بأرواح مقموعة، بعقول لم تشبع من فقه التعايش وتقبل الاختلاف مع الآخر؟!
يا مدارسنا .. رجاء علمونا الحرية من أول حرف .. اجعلونا مجتمعاً متماسكاً تحترم كل أطيافه فعلاً وقولاً .. عاقبونا إن أطعناكم بلا مشاورة عقولنا.. اجعلونا فعلاً جيل التغيير ..
الكرامة غالية، وكلنا على ثغر من ثغور الدفاع عنها، ومتعة الحرب لأجلها لا توصف! هذا أجمل ما خرجت به من مدرستي العزيزة.
شكرا للثورة المصرية، شكرا للثورة التونسية، وشكرا لمديرتي التي أشعرتني بقيمة الحرية.
التعليقات 10 تعليقات
يريدون منا حفظ الكتب، ومن المعلمات إنهاء المناهج في الوقت المحدد!
ماذا بعد؟ أين القيم؟ أين روح الدين؟ أين الفكر الحر؟ أين الإبداع والتعبير عن الرأي؟ أين بناء القادة؟ أين روح البحث العلمي؟
كل هذه المفاهيم أكبر من أن يفهمها (أغلب) الإداريين في المدارس.
حين يتحدثون أشعر أني أفكر بمفاهيم لكوكب آخر!
(إن مدرسة تحشو دماغ التلميذ بشتى المعلومات من صالحة وطالحة ولا تعلمه قيمته كإنسان لمدرسة لا فرق بينها وبين السجن) (ميخائيل نعيمة)
أصلح الله الحال وقوى هممنا وبصيرتنا.. وجزاك خيرا..
جميل جدا ياهنادي
اشكرررك وبشدة :))
منذ فترة قصيرة كنت افكر بكتابة موضوع عن الحجاب و لكن لحظة، مدرستك تمنع الحجاب منعا باتّا أمّا مدرستي لا تهتم بأمره كثيرا( في مدرستي يمنع دخول الرجال لذا فان الطالبات يخلعن الحجاب ) فقد حدث معي ثلاثة مواقف او اربعة و هي: ان بعضا من العاملين يأتون للتّصليح في المدرسة و لكن المشكلة تكمن بان العاملين يدخلون و يخرجون من دون ان يكون لدينا علم بهذا ..
اشكرك عزيزتي علي هذا الموضوع الجميل جدا، دمت..
مشينا بسرعة كبيرة من أمامها، من أمام عينيها، وتحركشت بها سائلة عن حالها.. ولكنك أردت فقط أن تريها حجابين يدبان على الأرض، وأية أرض، انها أرض الجامعة وأرض جبل المشارف المحتلة في القدس.. التي منحتك حرية الحجاب بينما حرمتك منه هي!!!!
وظلم ذوي القربي أشد مضاضة من وقع الحسام المهند
لنا العزمات رغم القيد إنا بقيد الشرع أحرار نسير .
أي حرية أفضل من التي ارتضاها لنا ربنا ؟ولك ولأهلنا في فلسطين تحية إكبار .