رأي الوالدين

أبطال الصّف الأول

  …وأنتهى الأطفال في روضة ابني من تحضير المخاريط الجميلة بأيديهم، واضعين لمسات أحلامهم وطفولتهم والشّوق إلى عالم المدرسة، الألمان يفضلون دائمًا العمل اليدويّ لهذه المخاريط، علمًا أنّه تتوفّر مخاريط جاهزة في الأسواق برسوم مُحبَّبة للأطفال، ولكن تبقى للصّناعة اليدويّة طعم آخر وذكريات لا تفنى.

ثمّ تبدأ مرحلة تحضير الحقائب المدرسيّة، واهتمت روضة ابني حينها بعمل محاضرة من قبل مختصّة، تشرح فيها مواصفات الحقيبة المدرسيّة الصّحيّة وكيفية حملها للأطفال، وعمومًا الحقائب المدرسيّة في ألمانيا غالية الثّمن، ولكنّها ذات جودة عالية من ناحية وزنها، الّذي لا يتجاوز الكيلو غرام الواحد، والاهتمام البالغ بمواصفات المنطقة الملاصقة للظّهر والعمود الفقريّ وحملات الكتف المتوازنة المحشوّة ، وكذلك العاكسات على أطراف الحقيبة، وهي ضروريّة خصوصًا في فصل الشّتاء، حيث يكون النّهار قصيرًا جدًّا، وبالتّالي فإنّ هذه العاكسات مهمّة لسائقي السّيارات، عدا أنّ الحقيبة تدوم لسنوات، وهناك عادات نادرة عند بعض العائلات الألمانيّة بتوريث حقيبة الأب للابن وحقيبة الأمّ للبنت لفترة قصيرة …

لا بدّ أن أشير إلى أنّ الأهالي ذوي الدّخل المحدود في ألمانيا، يُصرَف لهم من صندوق التّعليم مبلغًا ماليًّا خاصًّا لتحضير طفل الصّف الأوّل، وبهذا يتمّ تحقيق المساواة بين الأطفال، ولا يشعر الطّفل أنّه أقلّ من غيره.

أمّا العرس المدرسيّ لاستقبال الصّف الأوّل، فله ترتيبات تبدأ بشهور قبل بداية العام الدراسيّ، وعادة يُحضّر لهذا العرس المدرسيّ أهالي طلّاب الصّف الثّاني، ويهتمّون بكافة التّفاصيل الخاصّة بالاحتفال من زينة ومقاعد وفقرات فنيّة وتحضير البطاقات، الّتي تُلصَق على المقاعد المخصّصة لأبطال الصّف الأوّل، كما سبق وأن تم ّ الاهتمام بهم عندما كان أطفالهم في نفس المرحلة.

أبطال الصّف الأوّل يدخلون المدرسة بعد أسبوعين من بداية الدّوام المدرسيّ، فيُستقبَلون استقبال الفرسان، وعندما سألت ذات مرة حول خلفيات  هذا التّنظيم ، أُخبِرت بانّه حتّى يتمّ الاهتمام بهم على أكمل وجه، ولتجنّب الخلط بينهم وبين بداية الدوام، الّذي لا يخلو من بعض الضّغوطات، وإعادة الطّلّاب إلى التّوازن المدرسيّ بعد عطلة صيفيّة طويلة، وبذلك يدخل طلّاب الصّف الأوّل بنفسيّة هادئة ومستقرّة، وبترحاب كبير من جميع العائلة المدرسيّة.

وبدأت أجراس الاحتفالات ترنّ في الأجواء، الأطفال كلّهم يعبرون السّاحة إلى قاعة الاحتفالات في أبهى حُلّة، يحملون حقائبهم الفارغة على  ظهورهم، وكذلك الكيس المخروطي المليء بالمفاجآت، وتكاد الدّنيا لا تسع فرحتهم وابتساماتهم العريضة المرسومة على وجوه الجميع وكأنّه ـ والله ـ يوم عيد حقيقيّ، المدير يقف على البوابة مُستقبلًا، يصافح كلّ طفل قادم، ويربت علي رأسه بابتسامة عريضة، ويتكلم معه متلفظًا باسمه، مرحّبًا به بحرارة في بيته الجديد.

وهنا ألفت الانتباه إلى أمرين مهمّين، أوّلهما: إنّ هذه الحفلات تُعقَد في يوم سبت حتّى يتسنّى للهيئة التّدريسيّة والأطفال المشاركين في العروض المسرحيّة الحضور والمشاركة بدون إضاعة يوم دوام مدرسيّ، وثانيهما: إنّ العائلات المسيحية تذهب في الصّباح الباكر إلى الكنيسة القريبة من المدرسة ليبدأ الأطفال يومهم الأوّل بمباركة الرّب، قبل أي إنسان، ويقوم “البابا” المسؤول هناك بتوزيع الحلوى عليهم، ومن خلال هذه المقالة، أتمنّى أن يكون للمسجد والكنيسة ـ في بلادنا العربيّة ـ دورًا إيجابيّا في تشجيع الطّالب المقبل على المدرسة.

أمّا ابني، فكان يبدو عريسًا بملابسه، والجميع لبس أحلى ما عنده لهذه المناسبة السّعيدة،  وانطلقنا سويًّا إلى المدرسة المجاورة لبيتنا، حيث السّاحة المزيّنة بألوان وبالونات مُبهِجة، وما أثار دهشتي أكثر، هو بهجة الاستقبال من قبل المدير ومربّيات الصّف الأوّل، وعمل الأهالي يدًا بيد مع الإدارة المدرسيّة لإنجاح الحفل، أخذنا ننظر إلى المقاعد باحثين عن المقعد المخصّص لشعبة ابني وعن رمز صفّه، وعادة تختار الهيئة التّدريسيّة رموزًا للصّفوف يكون لها ارتباطات بشخصيّات معروفة لدى الأطفال، حيث أنّ الألمان لديهم شخصيّات معيّنة متوارثة أبًا عن جدّ، وهي بالنّسبة لنا جديدة لا نعرف عنها إلّا من خلال التّلفاز أو القراءة، وأشير هنا إلى أنّ المدرسة تقوم بإرسال رسائل إلى أهالي طلّاب الصّف الأوّل بعد تسجيلهم في مدرسة الحيّ، حيث تُبعَث للأهل رسالة من وزارة التّعليم يتمّ فيها تعيين المدرسة الّتي يجب أن يُسجَّل فيها الطّفل، وتكون عادة المدرسة الأقرب لعنوان البيت، وبعد التّسجيل وقبل بداية السّنة الدّراسيّة الجديدة، يتلقّى الأهل رسالة أخرى من إدارة المدرسة ومربّية الصّف، تتضمّن معلومات عن مربّية الصّف والشّعبة المدرسيّة، وموقعها في المدرسة، وكذلك الأدوات المدرسيّة المطلوبة كاملة خلال السّنة الدّراسيّة، وموعد وعنوان الاحتفال المخصّص لاستقبال أبطال الصّف الأوّل. 

جلس ابني مع باقي الأطفال الّذين لا تستطيع أن تزيح عينيك عن جمالهم، والاستمتاع ببريق الفرح والشّوق لما هو قادم، واتّجه الأهالي للمقاعد الخلفيّة ليكون الأبطال وحدهم فقط في المقدّمة.

بدأ المدير بكلمة يرحّب فيها بهؤلاء الأطفالّ وبلغة بسيطة محفّزة، ومن ثمّة يقدّم الفقرات الّتي تكون مخصّصة للتّرحيب بالصّف الأوّل، والّتي عادة ما تكون  عملًا مسرحيًّا يدوم تحضيره سنة كاملة من سيناريو وموسيقي وكلمات وملابس، ويرتبط العمل المسرحيّ دائمًا بعبر ورسائل للطّفل وهي باختصار: ” من جدّ وجد”، ” ومن سار على الدّرب وصل”، وأنّ العلم يكون بالتّفكير والبحث عن الحقيقة، وفي نفس الوقت أن يعيش المرحلة بكلّ حذافرها… طبعًا، هذا كلّه من خلال قصص بألوان زاهية وضحك ومرح…

والفقرة النّهائية، هي فقرة خفقان القلوب، وفيها تتّجه العيون بتركيز إلى المسرح، حيث يقف المدير، ويبدأ بمناداة مربّية الصّف ومساعدتها إلى المنصّة، ويعرّف بهما ويرحّب بهما، وتحمل مربّية الصّف معها رمز الشّعبة على هيئة دمية، وقد كان رمز صفّ ابني آنذاك”Janosch “وهو كرتون معروف منذ العام 1931 ، وتوجد له قصص ودلالات مهمّة لدى الألمان.

وبعد التّرحاب بالمعلّمة ومساعدتها، يبدأ المدير بمناداة الطلّاب الّذين ستدرّسهم تلك المعلّمة، ويُطلَب منهم الصّعود إلى المنصّة، وما أجمل تلك اللّحظات والأطفال يصعدون واحدًا تلو الآخر، حاملين الحقائب وأكياسهم المخروطيّة، وعندما يكتمل العدد الّذي لا يتجاوز (25 ) طالبًا، تؤخذ لهم صورة تذكاريّة، ومن ثمّة يقال لهم:”الآن ستنطلقون مع المعلّمة لتأخذوا أوّل حصّة مدرسيّة في حياتكم”، ويُطلَب من الأهالي حينها أن يستمتعوا في “البوفيه” المفتوح، الّذي هو أيضًا من إعداد أهالي طلّاب الصّف الثّاني، وأن لا يقتربوا من الصّفوف حتّى لا يربكوا هؤلاء الأبطال…

 في هذه اللّحظة الّتي نزل فيها الأطفال في “طابور” وراء المعلّمة والمساعدة، وهم يلوّحون بأيديهم الصّغيرة إلى الأهالى، خارجين من البوّابة باتجاه الصّف، انهمرت دموعي فرحًا، وانتابتني غصّة ألم عميقة لأنّ ابني ـ هذا الطّفل الصّغيرـ بدأت في حياته أوّل خطوة لتحمّل المسؤوليّة وصناعة المستقبل …

 تجلس المربّية مع الأطفال مدة عشرين (20 ) إلى ثلاثين (30) دقيقة، مرحّبة بأطفالها الجدد، وتعرّفهم بنفسها وبقوانين الصّف البسيطة، وخصوصًا طريقة الثّواب والعقاب التّربويّة، والمليئة بالألوان والتّحفيز للبقاء دائمًا في منطقة مميّزة، وسأتطرّق لهذه الأساليب الرّائعة في مقال آخر، وأيضًا يعرّف الطّلّاب أنفسهم لبعضهم البعض، بأن يلتفت الأوّل للثّاني، ويقول له مثلاً: “ أنا اسمي أحمد وأنت ما اسمك؟” فيجيب الثّاني، ثمّ يلتفت إلى الثّالث، وهكذا في سلسلة حتّى آخر طفل، وأخيرًا توزّع المعلّمة ورقة الواجب المدرسي الأوّل في حياة الطّفل،  وهو أن يرسم شخصه في المربّع ويكتب اسمه.

بعد انتهاء الحصّة، يُطلَب من الأهالي أخذ أطفالهم من الصّف وإكمال الاحتفال مع البقيّة، ويعود الطّفل إلى البيت كبطل، وفي عقله أجمل الذّكريات لأوّل يوم مدرسيّ في حياته، وكلّه شوق لفتح الكيس المخروطيّ المليء بالمفاجآت…

ملاحظة: أنا أكتب عن مدرسة الحيّ الحكوميّة المجانيّة.

علياء كيوان

طالبة دكتوراة في الأحياء الجزيئية وناشطة اجتماعية. مقيمة في ألمانيا، أم لثلاث أطفال، أعمل في بحوث السرطان، هوايتي الكتابة والقراءة، همي هو النهوض بالمرأة العربية في المجتمعات الأوروبية ويكون لها بصمة ومكانة، أسست مجلة المرأة العربية في ألمانيا وهي أول مجلة إلكترونية ناطقة باللغة العربية في ألمانيا تهتم بشؤون المرأة والأسرة العربية بشكل عام.
زر الذهاب إلى الأعلى