خواطر مغترب في طلب العلم

أين اختفى الطلاب الثوار.. في أوربا؟ خاطرة في عزوف الطلاب عن السياسة!

عندما زار الشيخ علي الطنطاوي ألمانيا عام 1971 رأى في مدينة آخن جمهرة من الشبان والشابات يملؤون الساحات قاعدين على الأرض، ينامون على البلاط يأكلون ويشربون وهم قاعدون، يتكوم بعضهم على بعض، يطيلون شعورهم ولا يُبالون بنظافة أجسادهم.. مما جعله يستنكر أحوالهم ويسأل من معه عنهم فقيل له أنهم “الهيبيون“ وأن منهم من يحمل أعلى الشهادات وله قلم ولسان وله في قومه منزلة، ولم تمض أيام حتى التقى بهم وناقشهم طويلًا في أحوالهم فتبيّن له أنهم متأثرين بما صنع الطلاب في فرنسا على عهد ديغول عام 1968 وقد ألهمتهم هذه الثورة للخروج على الحضارة الماديّة التي يفاخر بها آباؤهم.

الطلاب ما بين 1968 والآن!

كانت ثورة 1968 قد ظهرت بسبب مُشكلة البطالة في فرنسا؛ حيث بدأت السلطة بالتفكير في الحد من عدد الطلاب الذي يدخلون الجامعة، لأنها عاجزة عن توفير العمل لهم بعد التخرج، ومع احتدام تحركات الطلبة لم تعد المُشكلة في البطالة فقط، بل ازداد سقف المطالب للمطالبة بإسقاط النظام الذي يدعم الكيانات الاقتصادية التي تدعم الاستهلاك والاستغلال.. والمهم أن أثر هذه التحركات الطلابية لم تتوقف عند فرنسا، بل انتقل صداه لبلاد أخرى في العالم، ولا تزال تُذكر في شتى مناحي العالم للتذكير بأحوال دور الطلبة بين الأمس واليوم.

ففي مدينة آخن نفسها التي كانت تعج بالطلبة المُحتجين المتأثرين بزُملائهم الطلاب في فرنسا، حين زارها علي الطنطاوي عام 1971، تحوّل الأمر بشكل واضح، حيث يكاد لا يُسمع للطلاب أي “صوت“ في المدينة، باستثناء أصواتهم وهم يتفكهون ويتندرون بينما هم يأكلون البوظة ويشربون الجعة “البيرا“ في ساحات المدينة بعيدًا عن أجواء الدراسة والامتحانات التي أثقلت كاهلهم، وقد نشرت صحيفة مدينة آخن المحلية تقريرًا تتحدث عن الفرق بين طلاب اليوم وطلاب 1968 “الثوار“.

ولملاحظة الفرق يذكر الكاتب كيف أن الطلاب الذي يزورون مساق “أدبيات 1968″ يشعرون بأنهم لا يعرفون كيف يتعاملون مع هذه النصوص لغرابتها عن أحوالهم وهمومهم اليوم، وهي بعيدة كُل البعد عن الروح الثورية الموجودة في نصوص تلك الفترة، الأمر الذي يجعل هذا المساق بعيدًا عن اهتمامات الطلاب ولا يزورونه غالبًا.

فما الذي يجعل الطلاب عازفين عن الثورة وأفكارها؟

قد يكون السبب في أن الطلبة الألمان يشعرون برضى عن أوضاعهم المادية ويرغبون في الحفاظ على ما لديهم، وبالتالي ليس لديهم سبب للثورة. ولكن هذا الكلام ليس دقيقًا، فهناك الكثير من الأسباب التي تستدعي تحركًا واحتجاجًا ولكن الطلاب يُبعدون أنفسهم عن السياسة بشكل متواصل، لدرجة أن مُشاركة الطلاب في انتخابات مجالس الطلاب لم تعد تزيد إلا عن 20%، كما يُشير التقرير إلى ما هو أخطر، وهو أن الطلبة أصبحوا يدرسون من أجل الحصول على النقاط الدراسية Credit-Points، لا من أجل فهم ما يدرسونه.

فما السر في كُل هذه التغييرات؟

بالنسبة للباحث الألماني Biermanns فإن مشروع بولونيا Bologna-Reform هو السبب، فمن خلال هذا المشروع تم العمل على اختصار وقت الدراسة، فبعد أن كان الطالب يضطر للدراسة لمدة خمسة أعوام ويتخرج بلقب دبلوم، أصبح نظام التعليم الألماني مبنيًا على أن يتخرج الطالب في 3 أعوام فقط، أي 6 فصول فيحصل على بكالوريوس ثم يكمل ما يشاء بحسب رغبته، وهذا النظام الذي شجعته الشركات الرأسمالية، أدى إلى أن الطالب بات يشعر بأن الوقت يطارده وأنه ليس لديهم وقت للتعمق فيما يدرسه أصلًا!

فكيف سيجد وقتًا للسياسة والثورة؟ وهو عليه أن يتخرج بأسرع وقت ممكن.. لأن سوق العمل بانتظاره، فلا وقت لتضييعه في السياسة!

عمر عاصي

عُمر عاصي، فلسطيني من الـ 48، من قرية صغيرة إسمها كُفربرا، وُلد عام 1988، درس الهندسة التطبيقة في السيارات، والآن يدرس الهندسة البيئية في ألمانيا، عمل في شركة Intel، يكتب منذ عام 2005، دخل الجزيرة توك عام 2008، حاز على شهادة الصحفي الشامل من مركز الجزيرة في الدوحة عام 2011، وحصلت مُدونته على أفضل مُدونة شخصية لعام 2012.
زر الذهاب إلى الأعلى