دراساتدراسات وأبحاث عربيّة

إصلاح التعليم الديني من منظور ابن خلدون

ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وضَيَّقَ عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحَمَل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلَّمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقًا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن وهي الحَمِيَّة والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس و عاد في أسفل السافلين، وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر و نال منها العسف”.

ابن خلدون


تمهيد:[1]

تبدو قضية التعليم عموماً والديني خصوصاً من أهم عناوين الإصلاح التي طرحت محلياً وعالمياً، لا سيما بعد أحداث العنف التي افتتح بها هذا القرن الجديد، وأصبح تغيير المناهج من الخطط الاستراتيجية للقوى المهيمنة في العالم، وبالخصوص من خلال مشروع (الشرق الأوسط الكبير)، لكن هذا الطرح العالمي للموضوع لا يضيف جديداً غير كشف حقيقة ما يعانيه التعليم في العالم العربي والإسلامي، فالتأمل فيما آل إليه التعليم الديني بالخصوص من نتائج عملية على صعيد الواقع يجعل الحديث عنه يحتل صدر الأولويات، فهو في معظمه إما مغرق في نمطية تاريخية بعيدة عن الواقع شكلاً ومضموناً، أو يؤدي بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تطرف فكري أو تسطيح لفظي لا يمس العمق أو عزلة عن حركة الحياة المعاصرة دون فاعلية فيها.

فذكريات الطالب حول مقرر التربية الإسلامية هي الأسوأ بين المقررات الأخرى فهو الأقل أهمية واعتباراً ومدرسوه هم الأقل كفاءة واحتراماً، نظراً لطبيعة العلاقة بين الطالب والأستاذ القائمة على التسلط والأمرية، فضلاً عن المكانة الثانوية التي تحتلها المادة بين مختلف المقررات، وذاكرة الطالب عن حصص ذلك المقرر قلَّما تحمل معلومة بقدر ما تحمل طرفاً يتندر بها الطلاب، فهو مقرر ممتهن رسمياً في معظم الدول العربية، ولا ينتظر والحال هذه أن يتخرج طالب من المدارس وهو يحمل حصانة علمية ضد أي تيار يمكن أن يجرفه إلى ممارسة العنف ضد الآخرين (الإرهاب) باسم الجهاد، أو ضد نفسه (الرهبنة) باسم التصوف.

لذلك يكاد يجمع المعنيون بالتعليم الديني على وجود أزمة فيه، مع اختلاف في طبيعتها وتشخيصها وطرق معالجتها، فإصلاح مناهج التعليم عموماً والديني خصوصاً هو ضرورة ذاتية قبل أن يكون مطلباً عالمياً، وإصلاح التعليم هو واحد من بين ملفات كثيرة فتحت للنقاش في العالم العربي والإسلامي، وصادفت خللاً حقيقياً يستحق المعالجة، ومما أجج الجدل حول الموضوع ما اتخذ من قرارات بهذا الشأن في وزارات التربية في دول عديدة لا سيما في مغرب الوطن العربي وخليجه، فتم تقليص ساعات مقرر التربية الدينية أو إلغاؤها في بعض المراحل أو دمجها بمواد أخرى، أو غيرت مضامينها سيما تلك التي تتصل بمفاهيم الجهاد وغيره.

ما يستحق التنبيه في هذا المجال أن رجال الإصلاح كانوا هم أول من تنبه إلى تردي التعليم الديني من جميع نواحيه، وقدموا مشاريع لإصلاحه، نجد ذلك لدى محمد عبده وراغب الطباخ والطاهر بن عاشور وغيرهم، هذا في العصر الحديث أما في العصور الماضية فكان دعاة الاجتهاد يركزون بالخصوص على مراجعة مناهج النظر والبحث الفقهي، وكان ابن خلدون من أبرز من طرح مشكلات التعليم الديني صراحة وصفاً وتشخيصاً، ومقترحات علاج، وراهنية الحديث عن إصلاح التعليم تستدعي استحضار منظور ابن خلدون للموضوع كونه أبرز مفكر في التاريخ الإسلامي عالج القضايا الحضارية من منظور شامل، فقد أعطى للعلم والتعليم الدور الوظيفي الذي يؤديه في العمران، وربط بين التعليم والممارسة، وقدم في مقدمته رؤية حول العلم والتعليم مشخصاً مشكلاته ومقترحاً عناصر للعلاج، وسنعرض رؤيته من خلال ثلاثة عناصر تتناول:

أولاً- التعليم والعمران:

ثانياً- تشخيص مشكلات التعليم في عصره:

ثالثاً- مقترحات ابن خلدون في علاج مشكلات التعليم.

أولاً- التعليم والعمران:

يعتبر ابن خلدون أن تعليم العلم صنعة من جملة الصنائع لا بد لحصولها من ملكة في الإحاطة بمبادئ العلم وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله، وهذه الملكة هي غير الفهم و الوعي الذي يشترك فيه الجميع، ويستدل على ذلك باختلاف الاصطلاحات في العلم، فلكل إمام من الأئمة المشاهير اصطلاح في التعليم يختص به شأن الصنائع كلها فدل على أن ذلك الاصطلاح ليس من العلم، و إذ لو كان من العلم لكان واحداً عند جميعهم.[2]

فنظريته تقتضي أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران و تعظم الحضارة، فـ “الصنائع إنما تكثر في الأمصار. وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة لأنه أمر زائد على المعاش. فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان وهي العلوم والصنائع. ومن تشوف بفطرته إلى العلم ممن نشأ في القرى و الأمصار غير المتمدنة فلا يجد فيها التعليم الذي هو صناعي لفقدان الصنائع في أهل البدو”. [3]

فثمة علاقة عضوية بين ازدهار العلوم والعناية بها وبين استمرار العمران وازدهاره واتصال سند التعليم في البلاد. (يستشهد لذلك بحال الأندلس والمشرق).

ويصنف العلوم الواقعة في العمران -مقيدًا هذا التصنيف بزمنه- تحصيلًا وتعليمًا إلى صنفين: الأول: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره، هي العلوم الحكمية الفلسفية التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها حتى يقفه نظره ويحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر، والصنف الثاني: نقلي يأخذه عمن وضعه، وهي العلوم النقلية وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي، ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول لأن الجزئيات الحادثة المتعاقبة لا تندرج تحت النقل الكلي بمجرد وضعه فتحتاج إلى الإلحاق بوجه قياسي، ثم يستتبع ذلك علوم اللسان العربي الذي هو لسان الملة وبه نزل القرآن، وأصناف هذه العلوم النقلية كثيرة لأن المكلف يجب عليه أن يعرف أحكام الله تعالى المفروضة عليه وعلى أبناء جنسه، وهذه العلوم النقلية كلها مختصة بالملة الإسلامية وأهلها. [4]

ثانيًا- تشخيص مشكلات التعليم في عصره:

يحاول ابن خلدون في تحليله لوضع التعليم الديني في عصره التركيز على الأسباب التي تحول دون تحول التعليم إلى ملكة لدى المتعلم بحيث تسهم في العمران، ويمكن تلخيص تلك الأسباب التي يراها أضرت بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته فيما يلي:

أولاً: طول مدة التعليم، ويعزو طولها إلى قلة الجودة في التعليم خاصة، لا سيما وأن تلك المدة التي يقضيها الطالب إنما تتم دون نقاش وحركة فيها، فبعد ذهاب الكثير من أعماره الطلاب في ملازمة المجالس العلمية تجدهم سكوتاً لا ينطقون ولا يفاوضون، وبالتالي لا يحصّلون ملكة. [5]

ثانيًا: الخلط بين الملكة العلمية والحفظ: فالعناية بالحفظ أكثر من الحاجة، وظنهم أن الحفظ هو المقصود من الملكة العلمية و ليس كذلك.[6]

ثالثًا: كثرة التآليف في العلوم: وذلك لأن كثرة التآليف تشكل عائقاً عن التحصيل، وذلك من زاوية مطالبة الطالب بتحصيلها والوقوف عليها فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها ومراعاة طرقها، ولا يفي عمره بما كُتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها فيقع القصور ولا بد دون رتبة التحصيل.[7]

رابعًا: اختلاف الاصطلاحات في التعاليم وتعدد طرقها، ومطالبة المتعلم باستحضارها.[8]

خامسًا: كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم: فقد ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والأنحاء في العلوم يولعون بها ويدوّنون منها برنامجاً مختصراً في كل علم يشتمل على حصر مسائله وأدلتها باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن، وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير والبيان فاختصروها تقريبًا للحفظ، وصار ذلك مخلًا بالبلاغة وعسِراً على الفهم. وهو فساد في التعليم وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأن فيه تخليطاً على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لم يستعد لقبولها بعد و هو من سوء التعليم، ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم، لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح عن الوقت. ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده ولم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة ما يقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة.[9]

سادسًا: تحويل علوم الآلات إلى علوم مقصودة لذاتها: كما فعل المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق وأصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها وأكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها من المقاصد وربما يقع فيها لذلك أنظار ومسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو وهي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد ؟ فكلما خرجت عن ذلك خرجت في المقصود و صار الاشتغال بها لغوًا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها. وربما يكون ذلك عائقًا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم والعمر يقصُر عن تحصيل الجميع.[10]

أمثلة يوردها ابن خلدون لما ذكر:[11]

1- نموذج الفقه المالكي: يضرب ابن خلدون لما ذكر مثلاً من الفقه في المذهب المالكي والكتب المدونة فيه وما كتب عليها من الشروحات الفقهية لكثيرة، ثم مطالبة المتعلم بتمييز الطريقة القيروانية من القرطبية والبغدادية والمصرية وطرق المتأخرين عنهم والإحاطة بذلك كله وحينئذ يسلم له منصب الفتيا، وهي كلها متكررة والمعنى واحد، والمتعلم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها والعمر ينقضي في واحد منها.

ولو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط لكان الأمر دون ذلك بكثير وكان التعليم سهلاً ومأخذه قريبًا، ولكنه –كما يصف ابن خلدون- داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها و لا تحويلها.

2- نموذج اللغة العربية: ويمثل أيضًا بعلم العربية من كتاب سيبويه وجميع ما كتب عليه وطرق البصريين والكوفيين والبغداديين والأندلسيين من بعدهم وطرق المتقدمين والمتأخرين مثل ابن الحاجب وابن مالك وجميع ما كتب في ذلك، فكيف يطالب به المتعلم وينقضي عمره دونه ولا يطمع أحد في الغاية منه إلا في القليل النادر.

فالظاهر أن المتعلم ولو قطع عمره في هذا كله فلا يفي له بتحصيل علم العربية مثلا الذي هو آلة من الآلات ووسيلة فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة.

ثالثًا- مقترحات ابن خلدون في علاج مشكلات التعليم:

ينطلق ابن خلدون في تصوره لعلاج مشكلات التعليم التي تطرق إليها من تصوره لمكانة التعليم في العمران ودوره كصنعة أساسية لا تحققها الطرق السائدة في عصره، لذلك نجده يقترح في هذا المجال ما يمكن تلخيصه في العناصر التالية:

أولًا: التركيز على تحصيل المَلَكة، وأهم طرق تحصيلها وأيسرها فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرّب شأنها ويحصل مرامها، وقد أشار إلى كون طرق التعليم الممتدة تعتمد على الحفظ والتلقين ويغيب فيها الحوار ويقضي الطالب وقتاً طويلاً وهو ساكن لا يتحرك، ويتخرج وهو لا يجيد الكلام والحوار.[12]

ثانيًا: اتباع وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته: يقترح في هذا المجال اتباع ما يلي:

1- التدريج في التعليم شيئًا فشيئًا وقليلاً قليلاً:ش فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجاً وذلك بـ:[13]

– البدء أولاً بمسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب.

– ثم شرحها على سبيل الإجمال ويُراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرِد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية و ضعيفة، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله.

– ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفى الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته.

-ثم يرجع به وقد شد فلا يترك عويصاً ولا مهمًا ولا مغلقًا إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات.

2- عدم تداخل المسائل ببعضها: فلا ينبغي للمعلم أن يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه المتعلم من أوله إلى أخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذُ في غيره، لأن المتعلم إذا حصّل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل وهجر العلم والتعليم.[14]

3- تقصير مدة التعليم: فينبغي لك أن لا تُطوِّل على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها، وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولاً وأحكم ارتباطاً وأقرب صنعة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه.[15]

4- عدم خلط العلوم ببعضها: فمن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معاً فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معاً ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة. وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصراً عليه فربما كان ذلك أجدر لتحصيله.[16]

ثالثًا: التوسع في العلوم المقصودة بالذات دون علوم الآلات: كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام، وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة، وذلك بتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار فإن ذلك يزيد طالبها تمكناً في ملكته وإيضاحاً لمعانيها المقصودة، والاقتصار في العلوم التي هي وسيلة وآلة لغيرها كالعربية والحساب والمنطق فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط، و لا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل لأن ذلك يخرج بها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير.[17]

رابعًا: التحذير من الشدة على المتعلمين لأنها مُضرّة بهم، لأن الشدة من سوء المَلَكة، فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب. يقول ابن خلدون شارحاً أثر الشدة في التعليم وما يورثه في العمران عموماً: “ومن كان مرباه بالعسّف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وضَيَّقَ عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحَمَل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلَّمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقاً وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن وهي الحَمِيَّة والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس و عاد في أسفل السافلين، وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر و نال منها العسف.[18]

الخاتمة:

إن ما أورده ابن خلدون في تشخيصه لقضايا التعليم وما اقترحه من علاج لمشكلاته إنما هو جزء من تصوره لمكانة التعليم في العمران كصنعة أساسية من صنائعه، وكأن ابن خلدون فيما نظَّره قبل ستة قرون إنما يتحدث عن سنّة حضارية ندرك آثارها اليوم، فالعلاقة بين التعليم والتنمية اليوم وما يطرح في هذا المجال ما هي إلا صياغة حديثة لما أورده ابن خلدون حول العلاقة بين التعليم والعمران، وأهم مشكلات التعليم المعاصر تحوُّله من ملكة وصناعة فاعلة إلى تلقين وحفظ وسنوات طويلة تقضى بالدرس والامتحان بغض النظر عن جدواها

ولا يتم تقييم أثرها في العمران والتنمية، وبالخصوص في مجال التعليم الديني الذي لم يكن منفصلاً عن غيره، حيث ما يزال وصف ابن خلدون لأحوال التعليم الديني والمتعلمين في عصره – والذي نجد للمصلحين وصفًا شبيهاً به لأحوال التعليم في القرن العشرين [19] صالحاً اليوم لا سيما في المعاهد الشرعية التي تخرج حفظة للمتون والمعارف النقلية بغض النظر عن حصول الملكة في التعامل معها وتوظيفها في الحياة، بل وإن المحاورة والجدل الذي اعتبره ابن خلدون هو الذي يفتق الملكة لدى المتعلم يبقى الغائب الأساسي في التعليم اليوم سواء في المدارس أو الجامعات وبجميع الاختصاصات، وما اقترحه ابن خلدون من علاج لهذه الأدواء التي شخصها إنما هي قواعد عامة تمثل سنة حضارية لا تتخلف عبر العصور.

فهل تكون استعادة فكر ابن خلدون بعد ستة قرون على رحيله مؤشرًا على بداية جادة للنهوض الحضاري أم تبقى مهرجانًا كسائر المهرجانات الثقافية تفاخر بماضيها وتؤكد عجز التعليم والفكر العربي والإسلامي عن إيجاد شخصية بوزن ابن خلدون.


ورقة قدمها الدكتور عبد الرحمن حللي في ندوة عن ابن خلدون بعنوان “إصلاح التعليم الديني من منظور ابن خلدون” وكانت نشرت حينها في مجلة محلية في حلب وهي غير متوفرة على الاإنترنت، وقد أكرمنا بها الدكتور لنشرها في “زدني للتعليم”.

[1] ورقة قدمت في: ندوة ” ابن خلدون  600 سنة على وفاته”، والتي عقدت في كلية الآداب بجامعة حلب، يومي 27-28/3/2006

[2] انظر: ابن خلدون، المقدمة، دار القلم- بيروت ط:11/ 1992، ص:430.

[3] المقدمة، ص:434.

[4] المقدمة، ص:435.

[5] المقدمة، ص:432.

[6] المقدمة، ص:432.

[7] المقدمة، ص:531-532.

[8] المقدمة، ص:531.

[9] المقدمة، ص:532-533.

[10] المقدمة، ص:537.

[11] المقدمة، ص:531-532.

[12] المقدمة، ص:431.

[13] المقدمة، ص:533 وما بعدها.

[14] المقدمة، ص:534.

[15] المقدمة، ص:534.

[16] المقدمة، ص:534.

[17] المقدمة، ص:536-537.

[18] المقدمة، ص:540.

[19] هو ما أورد الشيخ راغب الطباخ مثلاً في كتابه “الثقافة الإسلامية” وصفاً لأوضاع المدارس الشرعية هي أشد سوءاً مما وصفه ابن خلدون، وما قام به الشيخ راغب الطباخ من إصلاح لهذه المدارس في الإدارة والمناهج هو أفضل من حالها اليوم.

د.عبد الرحمن حللي

كاتب وأستاذ جامعي سوري مقيم في ألمانيا، متخصص في الدراسات القرآنية، ويعنى بقضايا الفكر الإسلامي والتعليم الديني، شغل عدداً من المناصب العلمية، صدرت له عدة كتب منها: “رسالات الأنبياء: دين واحد وشرائع عدّة”، مركز نماء للبحوث والدراسات– الرياض 2015، دراسة وتقديم لكتاب “البيان في التمدن وأسباب العمران” لرفيق العظم، صدر عن مكتبة الاسكندرية، 2012، “التفسير العام” كتاب جامعي محَكَّم، مديرية المطبوعات والمنشورات الجامعية- جامعة حلب، 2012، سلسلة المفهومات القرآنية، دار الملتقى – حلب، 2011، أزمة التعليم الديني في العالم الإسلامي، بالاشتراك مع د.خالد الصمدي، (سلسلة حوارات لقرن جديد) دار الفكر – دمشق 2007، حرية الاعتقاد في القرآن الكريم، المركز الثقافي العربي – بيروت – الدار البيضاء 2001. كما نشر عدداً من الدراسات في المجلات العلمية تعنى بالخصوص بالتفسير وعلوم القرآن والتأويل، إضافة إلى عشرات المقالات الفكرية والثقافية المنشورة في عدد من الصحف والمجلات العربية، ومواقع الانترنت المتخصصة. وهو من مؤسسي الملتقى الفكري للإبداع، ومشارك في مؤسسات وأنشطة علمية متنوعة.
زر الذهاب إلى الأعلى