الأدب

إمرأة على شاكلة وطن

كانت تمشي في سلام، عازفةً عن كل ما يخدِش إحساس النظام، لا تنظر يمنة و لا يسرة لا تنظر إلا للأمام، لا تبلع ريقها، ولا ترمي قناع الابتسام، وصلت إلى الحاجز التي كانت تعلم مسبقاً انه سيزيد أوجاعها، فجنينها في سجنه اللحمي يعذّبها حدّ البكاء، مُنِعَت من المرور، ظلت تلح حتى كادوا ينفجرون ضجرا ًمنها، نزل العكسري بزيه الكريه من مدرعته لما تعالت الاصوات كان يمشي رامياً نظرات تحمل معاني الذل لكل من تقع عينيه عليه، فتشت نظراته جسدها، وقال بنزق: –  لماذا تريدين المرور؟ ابتسامة سخرية غطت ملامح خديجة، ظلت تنظر للأمام رغم أن كتفي الضابط يحجبان الأفق تنهدت لتتكلم، لكن سبقتها المقاومة وجاوبت عنها بصرخة (الله أكبر) التي كانت تخالط دوي الطلقات، دعوات من كل ركن في الشارع، وضعت يدها على بطنها لتخبئ حقيقة مستقبل الجنين عنه، وقف الإشتباك، ثلاثة قتلى، رائحة النتانة تفوح منهم، وفي الأمام قضى نحبه شهيد، تناثرت منه رائحة المسك الطيب، قد حملوه على أكتافهم. هذا هو ذنبها (إلهاء السلطات و التعاون مع المقاومة حتى تكتمل العملية الإرهابية –كما يسمّونها- )، شُدَّت في وسط الشارع ودعوات خرجت من فيه خديجة بقيت ذاكرة ملونة بالسواد تحوم في سماء غزة, كانت غزة تختفي شيئاً فشيئاً في منعرجات الطرق الصاعدة إلى السجن، وحقول الزيتون تغيب وتبعد، وهي جالسة في المدرعة بصمت تخفق مرتجة مثل سمكة هلامية عل الارتجاج يرجعها إلى الموج الذي رماها فوق رمل الشاطئ، والسيارة تصعد لاهثة فوق التراب الندي واصوات الناس من بعيد كأنها تحية الوداع. نظرت إلى الجدران التي تلتحف بالبرد المخيف، كان هناك شيء يراودها لا تستطيع تفسيره، ربما هي كثرة الآلام، أو إن كثرة الأفكار المخيفة التي تتسلل لمخيلتها تجعل الخوف يسيطر عليها للحظات طويلة، أم إن منظر إغلاق باب الأمل عليها كل يوم، وغياب الشمس المتفائلة كل ليله، ووجه القمر الشاحب الذي يطل مع كل ليله هو الذي يزيد جدران الزنزانة التي تحمل ذكريات المساجين كآبة، أعادت النظر للجدران الفارغة، أحست بالوحدة، ذلك الشعور الذي يخرج كل شيء من خبايا الذاكرة لتؤنسه اللحظة، أحست بصداع يسيطر على رأسها لم تجد سبيلاً للتخلص منه حتى نامت. امرأةٌ شقراء طويلة، دخلت الزنزانة التي لم يدخلها الضوء منذ أشهر، جلست على كرسي خشبي مهترئ بعد أن رمت له نظرات استعلاء، بدأت بسؤال خديجة عن حالها وحال الجنين بعد ان عرفت عن نفسها (مفتشة من جمعية حقوق الإنسان)، قالت خديجة : ماذا عساي ان أقول لكم؟ ومن أين أبدأ؟ أأبدا بأني بريئة ومسالمة؟ أم أبدأ من حيث العويل والبكاء وكلمات الاسترحام ؟ أم أكمل طريقي كامرأة…كوطن…بشموخه وثبوته. قالت كل هذا في جوفها لأنها راودها الخوف من أن تكون ألعوبة من الجيش القذر، حافظت على صمت الزنزانة كما كانت حتى خرجت الشقراء تاركة خديجة تنظر للأمام و الوحدة شريك وحيد لخديجة. ها هو البيت…بلا زوجة…بلا حنان…بلا طعم ، الزوج راقد يضم حسرته، ويبكي دماً، يصوم ويفطر …وزوجته خلف القضبان…يستذكرها مع كل حركة وسكنة…مع كل لقمة…بل يترك مكانا فارغا لها على مائدة الافطار، لا زيارات فهو في غزة…والحركة منها وإليها ممنوعة، جلس حسن ينظر من نافذة البيت ولا يرى الأفق بسبب ستائر الكآبة و الوحدة والضياع. ”  ما بالك؟ المصائب تقوي الرجال لا تضعفهم ” قال له الآخرون في محاولاتٍ عديدة لتخفيف آلامه. وكيف يجيب ولا أحد يفهمه, كان يحاول أن يجيب لكن يوقف صوته غصص تجمعت في حلقه وقلبه، وكلما كان يريد ذلك الحديث خذلته حباله الصوتية ليبقى صوته في جوفه يمضغه في صمت. تسعة أيام لم يسمع من الزنزانة غير صوت الملاعق حين تطرق الصحون في وقت الفطور، حتى السابع عشر من رمضان حين خدش صمت الزنزانة صرخات هزت السجن بأكمله، حملوها إلى العيادة ، وضعت على الكرسي مكبلة في مخاضها، نسيت كل الفرحات التي تأتي للأم في الولادة، هو فقط الحزن ذلك الإحساس الذي يجعلك ككرة صوف متداخلة لا تعرف من اين خيطك الأول. ها قد جاء…خرج من سجنه اللحمي إلى السجن البشري، لم تتراقص الفراشات كعادتها، ولم تشعر خديجة بأحاسيس لتعطي الموقف معنىً لطيفاً ملوناً، الكل قالوا اسمه قد جاء معه، وهل هناك من ذكرى أجمل من معركة بدر إذن سموه (بدر)، وأبت امه إلا أن تسميه (يوسف) ، وكيف تسميه بدر، تلك فرحة للمسلمين، وهذه نكسة لهم، ولكنه كيوسف عليه السلام، بدأ مستقبله في جب ، وظلم في صغره، ولكنه ولد بلعنة ان تكون سجون الإحتلال مسقط رأسه. صودرت طفولته…براءته…بدلت بلوحة من القوانين، فهي نصف ساعة لكي يعيش في حضن أمه ويشبع جوعه للغذاء وزاداً من الحنان قد لا يكفيه لليوم التالي، حرم من العيون المليئة بدموع الفرحة التي كانت تنتظره من عائلته، يمنع دخول الهدايا والدمى للطفل، فيوسف يهدد بدُماه ( بضم الدال) أمن إسرائيل القومي، يوسف…ذلك الإرهابي…ذلك المجرم…ذلك المذنب…ذلك الفلسطيني. شعرت لوهلة انها لم تضع ولدها بعد، لكن صوت بكائه في الزنزانة المجاورة كان ناقوس يدق في أذنها ليذكرها أنه هناك, جالسٌ هناك وحيداً…حزيناً…بلا أم…بلا حنان، دقت الساعة الواحدة والنصف فزادت خفقات قلب أم يوسف، جاءت السجانة حاملة بيدها يوسف، وضعته في حضن أمه، رفعت أم يوسف رأسها فلمعت عيناها الممتلئتان بالدموع، نظرت إلى وجهه الشاحب المرسوم عليه كل الأحزان بألوان الأسى، هزته في حضنها كي يحس بقربه من أمه ويطمئن، أخذت تغني له أغنية لينام، كانت لحن الأغنية التي طالما سمعته من امها يغلب عليه اللحن الحزين، ثم يغلبها البكاء، فلم يعد جفناها قادرين على تحمل الدموع، الثانية إلا ربع كان قد نام يوسف بحضن أمه بكل براءة، جاءت السجانة ونزعت يوسف من حضن امه فأيقظته، فأخذ يبكي بأعلى صوته، فلم تدرِ السجانة أكان صوت بكاء الولد أم صوت بكاء الأم, ظلت تلح ام يوسف أن يبقى عندها لخمس دقائق فلم تشبع من عينيه بعد، لكن السجانة لم تسمع ، كان صوت بكائهما يعلو و يعلو لكن الجدران الإسمنتية السميكة تمنع عويلهما من الوصول للأفق. أمسك أبو يوسف الجريدة الصباحية على استعجال، قلبه صفحة تلو صفحة عله يرى شيئاً يسر الخاطر، ها هو خبر استبدال الأسرى يقفز مصادفة من مربع صغير في الجريدة إلى العين…إلى القلب…يتوقف الزمن…قرأه على مهل متخيلاً أهازيج الفرح تقاسمه اللحظة، أصيب بشلل الذهول وصاعقة المفاجأة التي لا تصدق. قرأ أسم زوجته وابنه الذي لم يره, صحيح الخبر ، صدر القرار بخروج ثمانية عشر اسيراً وإمرأتين مقابل شريط مصور عن حال أسير لدى المقاومة. تعلق يوسف بصدر أمه كانت تحضنه وهو ينظر الى الوراء، إلى السجن، حملته على كتفها و أدارت رأسه للأمام ليستقبل رشقة من ضوء الشمس الضحوك  طالب في مدرسة خاصة في الأردن الصف الحادي عشر 

زر الذهاب إلى الأعلى