الانعكاسات الثقافية والاجتماعية على العمارة الإسلامية
بصفتي طالبةً سابقة في قسم الهندسة المعمارية في الجامعة الأردنية، كان أول اصطدام حقيقيٍّ لي مع مصطلح “العمارة الإسلامية“ حين قال لي الدكتور –غير المسلم– أنَّه لا وجود لشيء اسمه: “العمارة الإسلامية“ من الأساس، وقد يكون هناك ما يسمَّى بـ عمارة المسلمين فقط.
لم آخذ كلامه وقتها على محمل الجد، ونسيت الأمر حتى حين، لكنه علق بي. لاحقًا حين تعمَّقت في البحث، فهمت الثغرة التي كان الدكتور يشير إليها. وفهمت كيف كان بإمكاني أن أناقشه.
إذن كيف استطاع المسلمون بعمارتهم أن يحلُّو مشاكل تخصهم دون الآخرين بالعمارة؟
كيف أثَّر نمط حياتهم في عمارتهم؟
وكيف أثَّرت عمارتهم من بعد ذلك على نمط حياتهم اجتماعيًا وثقافيًا؟
وما الذي خسرناه بغياب هوية محلية فاعلة في عمارتنا الآنية، وتخبط البناء بين خيارات غير محدودة يتيحها ويطرحها العالم المتقدم أمامه اليوم؟
نبحث خلال هذه الأسئلة في هذا المقال. ونحاول توضيح مفاهيم رئيسة ترتبط بالعمارة الإسلامية وتزيل اللبس عن بعض تفاصيلها.
مفهوم العمارة الإسلامية:
ربما يقع مكمن الجدل في مفهوم العمارة الإسلامية بتفسير كلمة “الإسلامية“؛ فالبعض ربطها بالأيديولوجيا. بحيث إن العمارة الإسلامية تتبع –كما يفعل كل شيء في المجتمع الإسلامي سابقًا– للفقه، وتلتزم به.
وبناءً على هذا الأساس استنتجوا بعضًا من المبادئ التي تحتكم لها العمارة الإسلامية، وأبرزها؛ الحفاظ على الخصوصية.
يرى البعض أن ذلك قد يشمل فصل النساء عن الرجال بالمناطق العامة. وابتداع التجريد في الزخارف وذلك بدافع أساس لإيجاد بديل عن التجسيد المحرّم للحيوانات والبشر في التماثيل والمنحوتات التي تستخدم في تزيين واجهات المباني.
يوضح الدكتور هاني القحطاني عدم استساغته فكرة ربط العمارة الإسلامية مباشرة بالأيديولوجية. فطبيعة الهندسة المعمارية العملية أكثر تعقيدًا من طبيعة الأيدولوجيا النظرية.
إذ إن الظروف التي تحكم بناء العمارة –من طقس ومواد وأيدي عاملة وغيرها– ظروف معقدة ومتشابكة وتعد الأيدولوجيا التي يعتنقها الناس إحداها؛ فليس من الحكمة حصر العوامل والخصال التي ساهمت في تشكيل العمارة الإسلامية بالأيديولوجيا فقط.
فالعمارة الإسلامية بمفهومها الأكاديمي الشامل:
هي العمارة التي أنتجتها المجتمعات التي تدين بالإسلام. منذ ظهوره –بدءًا بالمسجد النبوي– وحتى اليوم. ورغم امتداد العالم الإسلامي واتّساعه وصعوبة حصره إلا أن العمارة الإسلامية امتازت بنمط متشابه ذي نسق خاص في قلب العالم الإسلامي؛ وذلك بسبب تشارك هذه المناطق الواسعة بالتعامل مع الظروف الصحراوية القاسية ذاتها.
ويجدر الذكر أن أكبر امتداد صحراوي بالكرة الأرضية يقع في أراضي العالم الإسلامي. وعلى الأطراف المترامية له تبدأ أنماط البناء بالتحول والتنوع والاختلاف؛ متأثرة بالثقافات التي تحدّها.
ما هي الانعكاسات الثقافية والاجتماعية على العمارة الإسلامية؟
بهذا المفهوم الشامل عن معنى العمارة الإسلامية نتساءل: ما هي الانعكاسات الثقافية والاجتماعية على العمارة الإسلامية؟
ونناقش الإجابة من خلال عناوين أربعة رئيسة:
- الخصوصية؛ ثنائية الاحتواء والظهور.
- الانسجام والتجريد.
- النزعة الهندسية.
- دور اللغة.
الخصوصية؛ ثنائية الاحتواء والظهور
قد يفهم عموم الناس العمارة الإسلامية بصورة نمطية تعلق بمخيلتهم بربطهم لها بمظاهر من مثل: الأقواس المختلفة، المقرنصات، القبب، والزخارف الهندسية؛ خصوصًا تلك التي تحتوي على آيات قرآنية.
لكن الدارسين للعمارة يتوغلون بعمق تلك المظاهر ليستخلصوا المبادئ التي استدعتها وساهمت في تشكيلها.
ومن أبرز المبادئ التي أوردها العديد من الباحثين في وصف العمارة الإسلامية هو مبدأ الاحتواء.₍₁₎ وهو المبدأ المعني بالحفاظ على خصوصية الفراغات، من خلال الفصل الحازم بين الفراغ العام والفراغ الخاص.
على نقيض ما قد نجده في أنماط العمارة الأخرى من امّحاء الحدود بين الفراغات العامة والخاصة.
ولفهم أعمق لانعكاس هذا المبدأ –أي الخصوصية– من حياة الناس إلى عمارتهم سنناقش تاليًا ثلاثة من مظاهر تجسده: المشربية، والفناء الوسطي، والامتداد “العضوي“الذي امتازت به المدينة الإسلامية.
المشربية:
يوازي مفهوم “المشربية“ مفهوم “الشرفة“. فهي بروز ظاهر من المبنى أشبه ما يكون بالشرفة المغلقة، والتي تحوي في جدارها على العديد من الفتحات الصغيرة التي تمكّن سكّان البناء من رؤية الخارج، وتمنع –في المقابل– كشف الخارج على الداخل. وتحافظ بذلك على خصوصية القاطنين.
نلاحظ هنا تناسب وظيفة المشربية مع ثقافة المجتمع الإسلامي فيما يتعلق بمفاهيم من مثل: الحشمة والستر.
ولكن –وكما وضحنا آنفًا– التفسير الاجتماعي وحده يظل قاصرًا عن تفسير العوامل التي أدت إلى ظهور المشربية في العمارة الإسلامية. ويظل سياق ظهورها أكثر تشابكًا.
إذ إننا حين نعود لعوامل المناخ نجد أن التعامل مع المناخ الصحراوي يحتم ضرورة أن تكون الفتحات في الواجهات المعمارية صغيرة قدر الإمكان؛ لتمنع دخول الحرارة العالية من الخارج إلى المنزل. فالعمارة الإسلامية بمعظمها عمارة صحراء، وقد طُبّقَ فيها –منذ القدم– العديد من مفاهيم الاستدامة الحديثة.
كما نرى فالعمارة الإسلامية عمارة احتواء بالأساس؛ تقي قاطنيها لهيب الشمس وتحافظ على خصوصيتهم.
الفناء الوسطي
انتقالًا من الخارج المنغلق للمباني الإسلامية إلى داخلها المفتوح نحو السماء بفناء وسطيّ تتحول العمارة الإسلامية من مبدأ الاحتواء إلى مبدأ الظهور.
ورغم أن الاحتواء هو المبدأ الطاغي الذي تصبغ بصبغته إلا أنهما –أي التحول والظهور– من مبادئ العمارة الإسلامية الأساسية أيضًا. إذ تعمل المبادئ الثلاثة معًا لتحقيق التوزان والاكتمال.₍₁₎
تكمن الأهمية البيئية للفناء الوسطي بما يوفره من تهوية طبيعية للمبنى وفناء مظلل –إذ يحده البناء من جهاته الأربعة–. بالإضافة إلى نوافير المياه التي يتم إلحاقها عادة بهذه الأفنية يساهم بترطيب الهواء الجاف الذي يدخل الفناء وتلطيف حرارته. وهي إحدى آليات البناء المستدام الأخضر. مما يوفر حديقة داخلية مريحة ومفتوحة إلى السماء.
ويحمل توجه الفتحات المعمارية فيها إلى الأعلى دلالته الرمزية أما على الصعيد الاجتماعي فيحفظ هذا النمط من البناء الخصوصية للقاطنين.
ونلاحظ هنا ميزة مهمة ومتكررة في هذا النوع من البناء وهو؛ زُهد المظهر الخارجي مقارنة بالغنى الداخلي للفراغات؛ كانعكاس من ثقافة أهل المنطقة.
الامتداد العضوي للمدينة الإسلامية
تحافظ المشربيات والأفنية الوسطية على الخصوصية في داخل البيت الواحد، أما على مستوى الحضري الواسع فتبنى الممرات بشكل متعرج وغير مستقيم بهدف الحفاظ على الخصوصية ضمن نسيج المدينة الممتد؛ فلا تطل فتحات البيوت بعضها على بعض، ولا يُفتح باب بيت على بيتٍ آخر.
إذا رغبنا بعقد مقارنة بهدف التوضيح بين نسيج المدينة الإسلامية ونسيج المدن الأوروبية، سيقع التشبيه بصورة المستنقع الذي جفّت ماؤه، وصورة المرآة المكسورة.
فحين يجف الماء في المستنقع تتشقق أرضه بأشكال عضوية غير منتظمة، وتتعرج الخطوط بينها وتنكسر فلا تجد خطوطًا مستقيمة؛ وهذه الصورة تعبر بشكل دقيق عن نمط بناء ونمو المدن الإسلامية.
إذ تبدأ عادة من المسجد الذي يأخذ شكل المربع –والمربع شكل محايد لا يملك محورًا طاغيًا– وتمتد البيوت والأبنية منه في كل الاتجاهات بممرات عضوية –متعرجة– وبتلاصق وتقارب بين الأبنية.₍₁₎
على الصعيد الآخر؛ يتم تشبيه المدن الأوروبية بالمرآة المكسورة. فالعديد منها تأخذ تنظيمًا شعاعيًا؛ حيث تبدأ المدينة من كنيسة ذات محور واضح واسعة عامة أمامًا وتبدأ الكثافة السكانية بالتناقص تدريجيًا كلما ابتعدنا عن المركز، وتبدأ المسافة بين البيوت والشوارع تزداد.
أما على مستوى البيت الواحد في هذه المدينة؛ فزواياه عادة ما تكون حادة والفناء لا يكون أكثر مما تبقى من قطعة الأرض من غير بناء، وعادة ما يكون خلفيًا ويستعمل لترك مسافة بين المباني المتجاورة.₍₁₎
تذكّرنا عضوية المدينة الإسلامية مع اتجاه معماري –حديث نسبيًا– لاقى صدى واسعًا يسمّى: التفكيكية. مؤسسه نظريًا فيلسوف جزائري الأصل يدعى جاك دريدا.
ومن أشهر المعماريين الذين تبنوا هذا الاتجاه في البناء: دانيال ليبسكند. ومن مبادئه الأساسية ألا تكون الخطوط متعامدة ومستقيمة؛ بل مائلة ومنكسرة وهو ما كانت عليه الحال في المدينة الإسلامية.
بهذه الأمثلة الثلاثة – المشربية، الفناء الوسطي، والامتداد العضوي– يظهر انعكاس سمة الخصوصية –أو الاحتواء– من الحياة الاجتماعية إلى العمارة الإسلامية ضمن سياقها التاريخي والبيئي.
الانسجام والتجريد
ننتقل هنا من مفهوم الخصوصية إلى مفهوم آخر ارتبط بالعمارة الإسلامية هو الانسجام. حين نعود إلى أصل كلمة “عمارة“ باللغة العربية نجدها تعني الحضور في المكان وملازمته.₍₂₎
أي أنها مرتبطة بالإنسان مباشرة أكثر من ارتباطها بالمنتج المادي. فالعمارة تصبح عمارة لوجود سكانها فيها.
ويبدو منطقيًا بهذه الحالة من تهميش للعنصر المادي حتى بالتسمية ذاتها أن نوضح ما امتازت به العمارة التقليدية في المدن الإسلامية من بساطة وزهد. وبانسجامها مع بيئتها –الصحراوية بالغالب– بحيث لا تبدو المباني غريبة أو زائدة على محيطها، بل تبدو كأنها جزء لا يتجزأ منه؛ وهذا هو الانسجام.
لنمط حياة العرب في الصحراء دور أساسي في تشكيل العمارة الخاصة بهم كتجمعات صغيرة منفصلة بجانب تجمعات المياه وبعيدة بعضها عن بعض، وغير مستقرة بالغالب.
ويوجد العديد من أطلال المدن التي هُجِرَت لعوامل عديدة قد يكون الجفاف والغزو أشهرها. وبالتالي لم يكن هناك اهتمام بالبناء بصفته شاهدا ماديًا طويل الأمد. بل بصفته حالة متغيرة بتغير الظروف ومكان السكن.
حتى لفظ “دولة“ باللغة العربية؛ مشتق من مفاهيم التبدل والتغير ويعبّر عن انتقال الحكم من يد لأخرى مؤكدًا حالة من عدم الاستقرار.
بهذه الظروف تماهت العمارة مع محيطها وامتازت بنوع من البساطة. سنحاول آتيا تتبع مبدأ الانسجام في تجليات ثلاثة: العنصر اللوني، والامتداد الأفقي، والتجريد.
العنصر اللوني
متماشيةً مع محيطها الصحراوي؛ تغلب الألوان الترابية على طابع العمارة الإسلامية. ويجدر بنا التأكيد مجددًا على الاختلاف بين عمارة قلب العالم الإسلامي وتلك التي على أطرافه.
فحين وصل المسلمون لمناطق ذات مناخات بيئية مختلفة وطبائع وثقافات جديدة تغيّرت عمارتهم وانصهرت بالثقافات الجديدة صانعة عمارة ذات أطباع مختلفة ومتنوعة وتحولت كثير منها من مبدأ الاحتواء إلى مبدأ الظهور. وصار الظهور ميزتها.
وقد تأثر المسلمون –فيما يخص الألوان– بثقافتهم الإسلامية؛ فنجدهم يعدّون الأخضر أبو الألوان.₍₃₎ إذ يكثر ذكر اللون الأخضر في القرآن في وصف لباس المؤمنين في الجنة وفي وصف الجنة ذاتها، إذ ارتبط هذا اللون بالمعاني الإيجابية ويرمز لجنان الخلد. ويكثر ظهوره إلى جانب الألوان الترابية في العمارة الإسلامية.₍₃₎
الامتداد الأفقي
كما تمتد الصحراء أفقيًا بمساحات واسعة؛ امتدت المدينة الإسلامية أفقيًا. وكانت البيوت تتلاصق بعضها ببعض، وأحيانًا أخرى تنزل تحت الأرض؛ هربًا من الحرارة، ومنعًا لها من دخول البيوت.
وبهذا الامتداد الأفقي يكوّن البناء صورة منسجمة متماهية مع المحيط تعكس تصالحًا مع الذات والمكان.
التجريد
سبق القول بالميل إلى الزهد والبساطة في العمارة الإسلامية، وبالتوازي تميل الزخارف الإسلامية لأن تكون ثنائية الأبعاد أكثر منها ثلاثية الأبعاد متأثرة أيضًا بطبيعة الصحراء التي تنبسط بهدوء دون تعددية غنية بالتضاريس والكائنات الحية المتنوعة الأشكال والألوان.
وتتكون الكثير من الزخارف الإسلامية من أشكال هندسية وهي متشابكة ومتّصلة ومتكررة؛ وكأنها تذهب إلى اللانهاية.
وقد أشار بعض الباحثون أنها –باتصالها وتجريدها وتكرارها وامتدادها– تعبّر عن الإله بنظر المسلمين؛ الممتد إلى اللانهاية؛ حيث يعبّر التجريد عن الطبيعة التي لا يمكن تصورها أو تجسيدها للإله فهي طبيعة ما ورائية بالكامل.
ويجدر بنا التنويه هنا إلى أن عملية التجريد لم تكن يومًا حكرًا على المسلمين فقط، لكن الفارق بين التجريد بالعمارة الإسلامية وغيرها فرق بالمعنى أكثر مما هو فرق بالمبنى.
إذ إن الحضارات كانت تستخدم التجريد للتعبير عمّا هو مجسّد وللترميز له. بينما امتاز التجريد في الحضارة الإسلامية بأنّه تعبير عمّا لا يمكن تجسيده من الأساس، ولا التعبير عنه إلا رمزًا.
وقد تفسّر هذه الظاهرة أيضًا بالصحراء وطبيعتها الصامتة والتي تختبأ المعاني ببواطنها لا بظواهرها. إذ تحثّ الصحراء النفس على التأمل العميق لما يختبئ خلف السطوح الشاسعة من الرمال الصامتة.
العمارة الإسلامية عمارة تماهي في مجملها سواء أكان ذلك من خلال العنصر اللوني أو الامتداد الأفقي أو التجريد الذين أتينا على ذكرهم أو غيرهم من العناصر التي لم يتم ذكرها.
ولعل التجريد يعد مدخلًا ممتازًا لفهم النزعة الهندسية التي تعرف العمارة الإسلامية بها –خصوصًا في زخارفها– والتي سيتم تناولها في العنوان التالي.
النزعة الهندسية
لا يغيب عن مطلع قوة النزعة الهندسية وظهورها بكافة نتاجات الفن الإسلامي (من العمارة إلى الزخرفة، والتصوير، والخزف، وغيرها من الفنون الحرفية والصناعية الأخرى).₍₄₎
يشير الفيلسوف والكاتب البريطاني آلان دو بوتون في كتابه بنيان السعادة إلى اهتمام المسلمين بالرياضيات والأشكال الهندسية في عمارتهم إذ يعبّرون من خلال ذلك عن طبيعة الإله الذي يعبدونه، ويؤمنون أنهم لا يعرفوا كنهه ولا يمكن تصور صفاته.
وتمتد هذه النزعة الهندسية لتصل الخط العربي، إذ تمت استخدام الأشكال الهندسية بكتابة الأحرف وصناعة الزخارف باستخدام الخط الكوفي القديم وغيره في تزيين المباني والمساجد.
مما يأخذنا إلى الظاهرة الأخيرة التي سيتحدث عنها هذا المقال: وهي الاستخدام اللافت للغة العربية في العمارة الإسلامية.
دور اللغة
امتازت حياة العرب وعمارتهم بالبساطة والتنقل والزهد. وحتى في تدوين التاريخ نجد غيابًا واضحًا في وصف ما يخص البيئة المبنية.₍₂₎ وكثير ممن نقل عن العمارة الإسلامية كانوا مستشرقين وليسوا عربًا.
لكن حين نأتي على ذكر الفصاحة والبلاغة والشعر نجد –على النقيض– الثراء والتبحر والاهتمام من قبل العرب ومؤرخيهم. فلا عجب إذا في تداخل الخط العربي واللغة العربية بفن العمارة الإسلامية. وظهور العديد من العبارات سواء أكانت أحاديث نبوية أو آيات قرآنية أو عبارات شعبية على المباني المختلفة.
تأكيدًا على ما سبق أذكر في قراءتي للسيرة الذاتية الروائية للأديبة غادة السمان بعنوان: “الرواية المستحيلة“، كيف تصف غادة بيت جدتها الدمشقي القديم بفنائه الوسطي، وتسهب في الحديث عن الحديث النبوي المعلق بالفناء والذي يقول: “الحكمة ضالة المؤمن“. وكيف أثرت بها هذه العبارة وعاشت معها ومن خلالها في ذلك البيت.
وأذكر شخصيًا بيتًا قديمًا فقيرًا في المدينة التي أسكنها وأنا صغيرة. يعلق المالك على بابه عبارة متقنة تقول: “الله يدافع عن الذين آمنوا“ وقد كان هذا البيت بفعل هذه العبارة هو الأبرز من بيوت المدينة والذي أتذكره بوضوح وأتأثر به.
لقد أحب العرب لغتهم كثيرًا، وأصبح من الصعب فصل لغة العرب عن أي شيء يتعلق بهم، ويشمل ذلك عمارتهم.
خاتمة
في النهاية أقول: كان بإمكان الحروف أن تخرج بشكل مختلف في هذا المقال؛ لكنها هكذا خرجت. الأشياء تحدث. ثم تبدأ بعدها مهمتنا المستحيلة بملاحقة أسبابها والسيطرة على نتائجها.
بعض منّا يتركون الأشياء لتتطاير بعشوائية حولهم آملين أو غير مدركين لما سيترتب على عدم اكتراثهم.
والبعض يحاول دائمًا أن يفهم. فيبني فوق ما فهمه. لبنة فوق لبنة. يمشي الأول بعشوائية وقد يجد نفسه يدور في دوائر مغلقة، أو قد يضطره عماه الفكري للحاق الحرفي بخطى الآخرين حتى لو لم يرد أن يذهب إلى وجهتهم.
بينما يرى الثاني لنفسه امتدادًا في الماضي ويأمل بمن يأتي بعده أن يكمل امتداده للمستقبل.
وكذلك الأمر في العمارة. فالعمارة تراكم، لكنها في كثير من المناطق الإسلامية في عالمنا الحديث للأسف إعادة اكتشاف أو نقل دون فهم.
الجميع يعلم أن إعادة الماضي كما هو مشروع فاشل قبل ولادته. فهل نستطيع أن نعيد رسم المستقبل ليكون امتدادًا لماضي يعيد لنا الشعور الآمن بهويتنا وبانتمائنا ولقدرتنا على أن نكون نحن بالطريقة التي تناسبنا كشعب ذو ثقافة وحياة اجتماعية منفصلة تميزه؟ ألا نتخلى عمّا صنع منا ما نحن عليه منسلخين عن ماضيينا بادئين من نقطة الصفر من جديد.
أصوات كثيرة تنادي بعمارة إسلامية معاصرة. تتوجه هذه الأصوات ناحية المعماريين وأصحاب القرار. بينما تنادي أصوات أخرى –ومنها هذا المقال– بنشر الوعي بمفهوم العمارة وتاريخها وآثارها وانعكاساتها على المجتمع؛ فبالنهاية وكما يقول الاقتباس الرائج:
“نحن نصنع البنيان، وبنياننا بعد ذلك يصنعنا“.
المراجع:
- (1) القحطاني، هاني محمد. (2009). مبادئ العمارة الإسلامية وتحولاتها المعاصرة.
- (2) ظرفية العمارة الإسلامية : العمارة كانعكاس للتكوين السياسي والاجتماعي للدولة في الإسلام، هاني محمد القحطاني،)مقالة في مجلة المستقبل العربي 2008 العد
- د348)
- (3) عبده محمد خير, مصطفى, & عبدالكريم. (2018). الوصف اللوني للعمارة الإسلامية (دراسة على نماذج من عمارة العصر الاموي في بلاد الشام).
- د. إيناس حسني. (2013). العمارة الإسلامية: التنوع، الوحدة، التفاعلية. (مقال فيفي مجلة الرافد العدد رقم: 188)
- إعداد/حسن محمود عيسي العواوده, & إشراف/إيمان العمد. (2009). فلسفة الوسطية الإسلامية والتجريد في العمارة الإسلامية في العمارة الإسلامية: حالة دراسية (الوحدات الزخرفية الإسلامية) (Doctoral dissertation, جامعة النجاح الوطنية–عمادة الدراسات العليا).
- مازن عصفور. (2019). سيميولوجيا الفن الإسلامي: مقاربة تحليلية للدوال البَصَرية ودلالاتها الرمزية. Islamiyat al-Ma’rifah, 25(98), 147-123.
المراجع الأجنبية:
- (4) lecturer Maha, M. A. A. A., & Al-Taiy, F. (2015). The Geometrical Units Applied on the Architectic Element of Imam Husain’s Holy Shrine. KARBALĀʾ HERITAGE Quarterly Authorized Journal Specialized in Karbalāʾ Heritage, 2(1), 324-468.
- De Botton, A. (2008). The architecture of happiness. Vintage.
- Omar, M. A. (2000). Translation of Islamic culture into Arabian architecture (Doctoral dissertation, Curtin University).
- Yusof, Zeenat. (2011). Islam and Architecture.