صوت الطلبةمن الجامعة

التصوير الطبي .. تخصص يريد المُخلِصين

وُلدتُ وترعرعت وعشت حياتي الدراسية خارج الوطن، وكأي عائله خاضت تجربة الاغتراب كان المستوى التعليمي للأبناء من أولويات عائلتي؛ وبفضل الله كنت طالبة مجتهدة منذ الصغر.

عدت للوطن لدراسة الثانوية العامة، وبعد النجاح لم أتردد في اختيار التخصص الجامعي الذي يناسبني؛ فاتخذت قرارًا جازمًا بدراسة التصوير الطبي؛ حتى أنني تحمست بشدة للأمر؛ كنت أجهل الكثير عن هذا التخصص؛ ولطالما تساءلت في عقلي عن مصدر الإشعاع وعن الطريقة التي يتفاعل بها مع الجسم لإنتاج تلك الصورة الشعاعية التي تساعد الطبيب إلى حد كبير في تشخيص المرض وتحديد المشكلة واتخاذ القرار الصحيح في علاج المريض.

ما إن بدأت في الدراسة الجامعية حتى أخذ اهتمامي بتخصص التصوير الطبي يكبر يومًا بعد يوم، أكثر ما أحببته وما زلت أحبه فيه هو أقسامه وأجهزته المتعددة، والتحديث المستمر والسريع الذي يطرأ عليه مما يتطلب مني مواكبة المستجدات عبر التعليم المستمر.

كان أساتذتي– حفظهم الله– يؤكدون دومًا على أهمية التحاق الإناث بهذا التخصص النادر، ولي الشرف أني من أوائل الفتيات اللاتي درسن وعملن في مجال التصوير الطبي في فلسطين، لقد ورثت عن أساتذتي الإيمان العميق بعالم الذرات والإشعاع واكتسبت منهم أخلاقًا مهنية وانتماء لا حدود له للوطن والإنسان، واستطعت تحت إشرافهم أن أكون كما أرادوا وكما أردت أنا؛ “اختصاصية تصوير طبي“ تخدم بكل صدق وعلم وأمانة وطنها.

عملت في المراكز الطبية بعد تخرجي من الجامعة مباشرة، مما صقل خبرتي العملية وأضاف لي الكثير، أدركت منذ السنوات الأولى في الحياة العملية مدى أهمية إنتاج صورة شعاعية متقنة وبجودة عالية لإنقاذ حياة المرضى وما دون ذلك من شأنه أن يضللَّ الطبيب بتشخيص غير صحيح بسبب صورة شعاعيه تفتقر للجودة، وفي تلك الفترة وضعت يدي على آفات عدة يعاني منها تخصص التصوير الطبي في فلسطين، وكنت موقنة أن الإصلاح يبدأ من الذات ومعرفة المشكلة والمبادرة إلى الحل والتغيير.

شاركت في محاضرات علمية تضمنتها مؤتمرات تعنى بتخصص التصوير الطبي لا سيما ما يتعلق بتصوير الثدي في فلسطين؛ فقد آمنتُ بأهمية التصوير الشعاعي المسحي للثدي بعد أن عملت لسنوات في مجال تصوير الثدي في مراكز طبية كثيرة، لقد شعرت عن قرب بمخاوف كل مريضة، ولامست همومها وأفكارها السلبية حول أمراض الثدي التي تتلخص حسَب إدراكها في سرطان الثدي، لذا شغلتني مسألة تثقيف المريض عند قدومه للحصول على صورة للثدي لتبديد المخاوف وتبادل المعلومات الصحيحة؛ وبادرت إلى عقد محاضرات توعوية في مجموعة من القرى الفلسطينية تتناول أهمية الفحص الشعاعي المسحي المبكر للثدي وتبديد المخاوف والمعلومات المتناقلة المغلوطة بشأن هذا الفحص في المجتمع الفلسطيني.

وما زال تصوير الثدي والتوعية المجتمعية حول أمراض الثدي العديدة وسرطان الثدي على وجه الخصوص هو المجال الأكثر قربًا إلى قلبي؛ ولم أتوقف للحظة عن حلمي بتطوير هذا المجال على صعيد التصوير والتوعية والأرشفة وجمع المعلومات وتوظيفها للبحث العلمي.

كانت أولى محاولاتي الحقيقية للإسهام في تطوير مهنتي وذاتي هو الاستمرار في التعلم والتوغل في البحث العلمي، فباشرت في استكمال دراسة الماجستير في الدراسات البيئية والوقاية من الإشعاع، وتخرجت عام 2009 ثم بدأت رحلة تدريسي في دائرة التصوير الطبي في جامعة القدس، وبعدها تعطشت أكثر للبحث العلمي الموسع في مجالات عدة في مهنة التصوير الطبي.

استحوذ على اهتمامي البحث العلمي خلال دراسة الماجستير، حين بدأت بتطوير تقنية جديدة لقياس كثافة المواد الصلبة عن طريق قياس الإشعاع المرتد من مصدر الإشعاع المستخدم والمراقب خلال الدراسة؛ وقد ساعدني المشرف المباشر على رسالتي د.عدنان اللحام في تطوير مهارة البحث العلمي؛ إنه مصدر إلهام لحب الإتقان والإصرار على المعرفة؛ وبفضل الله نشرت ورقه علمية تتضمن موضوع الرسالة في مجلة عالمية محكمة.

أحببت مهنة التدريس كما أحببت مهنة التصوير الطبي، وترجمت هذا الحب من خلال تدريس مساقات مختلفة “نظرية وعملية“ في “الدائرة“ والمستشفيات، ولم أتوانى عن زرع روح الانتماء للمهنة والتأكيد المستمر على أهمية الالتزام بالأخلاق المهنية العالية أثناء تقديم الخدمة الطبية للإنسان الفلسطيني، والتركيز على أهمية البحث العلمي في كل المجالات  إذ أحث الطلبة على إجراء أبحاث علمية “صغيرة“ خاصة بكل مساق لإكسابهم بعض المهارات الأساسية في البحث العلمي؛ حتى يدركوا أهمية البحث العلمي في السنوات الأولى من الدراسة، ناهيك عن الإشراف على مشاريع تخرج ترتكز على البحث العلمي الحقيقي في حدود الإمكانيات المتوفرة.

وحاولت جاهدة تطوير أسلوبي الخاص عامًا تلو آخر؛ عبر تحديث المعلومات التي تُجاري التقدم العلمي السريع في هذا الحقل، التحقت بدورات وورش عمل في مجال تصوير الثدي ونظام أرشفته وفي التصوير بالأمواج فوق الصوتية حرصًا مني على توصيل المعلومة الصحيحة والدقيقة للطلاب.

وانطلاقًا من حبي لمهنة التصوير الطبي وإيماني العميق بالطالب الفلسطيني يبقى الحُلم الأكبر تخريج “اختصاصي تصوير طبي“ يتحلى بضمير مهني واع ويقظ على الدوام؛ يمتلك قلبًا منتميا للوطن والمواطن البسيط، مدركًا أن أخلاقه المهنية واجب وحق لكل مواطن، ومتنبهًا  لأي استهتار بسيط داخل قسم الأشعة قد يؤثر سلبا على حياة المريض، ليبقى الإخلاص عنوان حياته.   

زر الذهاب إلى الأعلى