رؤية مثقف

“التّرجمة جسرٌ حضاريّ ما بين الشّرق والغرب”


جرّبوا أن تقرأوا كتابًا…

أن تكتبوا كتابًا…

أن تزرعوا الحروفَ، والرُّمانَ، والأعناب…

أن تبحروا إلى بلادِ الثّلجِ والضباب…

فالنّاسُ يجهلونكم… في خارجِ السّرداب…

النّاسُ يحسبونكم نوعًا من الذئاب.                                                                                                                                                                                             نزار قبّاني

حقًّا صدق نزار، “فالغرب يحسبوننا نوعًا من الذّئاب”،  و”نحن نحسبهم نوعًا من الثّعالب”، فمنذ مدّة ونحن نواجه حملة غربيّة مسعورة ضدّ الإسلام والمسلمين واتّهامهم بالإرهاب، سواء ذلك عمدًا لتمرير مشاريع امبرياليّة غربيّة، أو نتيجة سوء الفهم بفعل عدم اطّلاع الشّعوب الغربيّة على الموروث الحضاريّ للحضارة الإسلاميّة، والجهل بإنسانيّة الإسلام وقيمه النّبيلة، إذ صار الإسلام مقترنًا في المخيال الجمعيّ الغربيّ بالعنف والتّعصّب والتّطرّف والتّخلّف، والأمّة الإسلاميّة “أمّة لا تستسيغ سوى العنف والتّدمير والنّهب والقتل، ولا تؤمن إلّا بالخرافات والبدع ولا يحكم تصرّفها أي خلقيّة”،إذ تكشف استطلاعات الرّأي الأخيرة تزايد مشاعر الرّفض للمهاجرين والخوف من “الآخر”، فالمسلمون في الغرب يعانون في قلب هذه العاصفة الهوجاء الّتي لم يهدأ هديرها منذ سنوات.

لقد تكوّنت في الغرب صور نمطيّة جاهزة عن الشّرق والعرب والإسلام، وهذه الصّور تخلو من الموضوعيّة العلميّة وتستند إلى أحكام مسبقة فرضها أو ساهم في نشوئها الاستشراق أوّلًا، ثمّ المشروع الامبرياليّ الغربيّ ثانيًا، الّذي يعتمد التّشويه المقصود والمتعمّد لتاريخ وحاضر الشّرق والتّحكم في مستقبله لاحقًا، باستخدام كافّة الوسائل المتاحة، ومن أهمّها في وقتنا المعاصر الآلة الإعلاميّة ووسائط التّواصل الجماهيريّ، ذات التّأثير النّافذ في تشكيل تصوّرات الرّأي العامّ الغربيّ، وهندسة مخياله، وبلورة اتّجاهاته وقناعاته، وتمارس عليه التّزوير والتّضليل، ولا تتورّع عن خلق رأي عامّ مرعوب من الخطر الإسلاميّ “الإسلاموفوبيا”.

ولا أستثني من ذلك نماذج التّطرّف في لغة الخطاب المقابل، تلك الّتي تحمل معاول الهدم لكلّ ما هو إنسانيّ،  ففي المقابل هناك حملات دعائيّة تقودها بعض الأطراف العربيّة المتطرّفة، والّتي خلقت جوًّا من الصّراع والتّخوّف لدى الشّباب العربيّ حول الشّعوب الغربيّة، ثمّ ما فتئت تلك الصّورة أن أخذت أبعادًا أخرى أكثر حدّة وتشدّدًا مع الجماعات الجهاديّة، الأمر الّذي يسمح لنا بالحديث عن بداية ظهور “الغربوفوبيا”، وهي صورة الغرب في العالم الإسلاميّ.

فالصّور النّمطيّة المتبادلة بين الطّرفين أو ما يسمّى ب“الخوف المتبادل“، ما هي إلّا مجموعة من الانطباعات ومنظومة من التّمثّلات الذّهنيّة ،الّتي توظّف من قبل تجّار الحروب وسماسرة الإيديولوجيّات، للاستثمار في الخلافات والتّكسّب من تأجيج النّزاعات وتعميق سوء الفهم الكبير بين الشّعوب والثّقافات، فإنّ المتطرّفين في هذين الفضاءين الحضاريين لا يألون جهدًا في خلق جوّ  من الصّراع والتخوّف بين الشّعوب في كلتا الحضارتين، وهدم صروح المشترك الإنسانيّ، ليتبادل كلا الطّرفين سؤالًا قويًّا ومرعبًا “لماذا يكرهوننا؟”. فبهذا السّؤال افتتح الكاتب البلجيكيّ “روبيرت فان دوفير” مقدّمة كتابه (الإسلام والغرب منذ الحملات الصّليبيّة إلى اليوم)، وفي المقابل فإنّ نفس السّؤال طرحه المفكّر الإسلامي “فهمي هويدي” في إحدى مقالاته (لماذا يكرهوننا في الغرب؟).

فجدليّة العلاقة السّويّة بين الطّرفين تبدأ بالاعتراف بأحقّية كلّ طرف بالتّعريف بنفسه كما يراها هو دون أن يلغي الآخر أو يتجاوزه، ودون أن يسمح للآخر بذلك، فمعظم الشّعوب في عالمي الإسلام والغرب يسعى نحو التّعايش والمحبّة والسّلام، ويبقى للتّرجمة دور هامّ في نقل الموروث العلميّ والأدبيّ والثّقافيّ العربيّ إلى الّلغات الأجنبيّة، وكل ذلك من أجل خلق روح الحوار والتّفاهم الحضاريّ بين مختلف الشّعوب والأمم، ولا يمكن أن يتحقّق ذلك إلّا من خلال سياسات عربيّة تهتمّ بالكتاب والتّرجمة.

وتوصف التّرجمة عادة على أنّها سفينة تنقل الكنوز من منطقة إلى أُخرى، فبها تُكتشَف ثقافات الحضارات الأخرى، وبها يُستفَاد من علوم وفنون الدّول الأخرى، وبدونها لا يمكن التّعرف على الآخر معرفة حقيقيّة، ولا يمكنه التّعرف عليك، وقد مثّلت حركة التّرجمة جسرًا للتّواصل الحضاريّ بين مختلف الحضارات الإنسانيّة، ولقد لعبت حركة التّرجمة عبر التّاريخ دورًا هامًّا في انتقال روح الحضارة ما بين شعوب العالم، حيث ساهمت في نقل الإرث الثّقافيّ والحضاريّ للحضارة اليونانيّة إلى الحضارة الإسلاميّة وساهمت في بنائها، كما أدّت حركة نقل العلوم والمعارف الإسلاميّة الّتي وقعت في قرطبة وصقلّية إلى نقل روح الحضارة ثانية إلى الشّعوب الغربيّة، من خلال ترجمة الأوروبيّين للموروث الثّقافيّ الإسلاميّ، ليتلقّفها الغرب كوقود لنهضته.

إلّا أنّ حركة التّرجمة تعرف انتكاسة في العالم العربيّ الحديث لعدّة عوائق منها ما هو متعلّق بالجانب المادّيّ، وما هو متعلّق بالسّياسات العربيّة، فعلى العربيّ المعاصر أن يدرك أهمّية التّرجمة في ظلّ عصر الانفجار المعرفيّ اليوم، وفي ظلّ حاجة الوطن العربيّ إلى الرّصيد الفكريّ والمعرفيّ للحضارة الغربيّة للّحاق بركب الحضارة البشريّة، ومن أجل النّهوض بحركة التّنمية في جميع ميادينها،  وهذا ما يحتاجه العالم العربيّ بشدّة في ظلّ سياق الانحطاط الّذي يتخبّط فيه.

أهمّية التّرجمة في النّمو الثّقافيّ

هناك آراء متضاربة حول تقييم الدّور الثّقافيّ لحركة التّرجمة، فهناك من يعتبرها مكسبًا كبيرًا للثّقافة العربيّة، ورافدًا أساسيًّا من روافدها، وأحد مظاهر حيويّتها وغناها وانفتاحها على الثّقافات الأخرى، ولكن هناك بالمقابل من يرى فيها مصدرًا رئيسيًّا لغربتنا الثّقافيّة، وصورة من صور التّغلغل أو الغزو الثّقافيّ الأجنبيّ وبالتّالي خطرًا على ثقافتنا وهوّيتنا الحضاريّة:

أنصار التّرجمة: يرون أن الثّقافة القوميّة (العربيّة) تغتني بالتّفاعل مع الثّقافات الأجنبيّة، وباستيعاب ما تحويه تلك الثّقافات من إنجازات، وهم لا يرون أيّة خطورة في الأخذ بما هو أجنبيّ مادام ذلك يؤدّي إلى إثراء الثّقافة العربيّة وتطويرها، فهم ينطلقون من مبدأ الانفتاح على الآخر وضرورة التّواصل معه، بل يرون فيه ندًّا ينبغي محاورته وتحقيق تبادل ثقافيّ معه، ويعتمد هذا الموقف على الثّقة بالنّفس، وبالهويّة الحضاريّة القوميّة، فهم لا يخشون تعريضًا للتّفاعل مع الثّقافات الأخرى، لأنّها قادرة على الصّمود أمام ذلك التّفاعل، كونها لا تقلّ عن تلك الثّقافات أصالةً وإنجازًا ورسوخًا، كما يرون أن التّقوقع الثّقافيّ يعبّر عن انعدام الثّقة بالثّقافة القوميّة وعدم قدرتها من محاورة الآخرين من موقع النّديّة.

خصوم التّرجمة: أو منتقدوها فهم يستندون إلى اعتقاد أنّ ثقافتهم متفوّقة على سائر الثّقافات وبالتّالي فلا حاجة إلى التّفاعل أو التّبادل بين الثّقافة العربيّة والثّقافات الأخرى، كما ينطلق هؤلاء المناهضون من موقف الخوف الشّديد على الثّقافة القوميّة، لاعتقادهم أنّها لا تصمد للمواجهة مع ثقافات متفوّقة ومهيمنة، وقد قوي هذا التّيّار بعد غزو الاستعمار الأوروبيّ للوطن العربيّ عسكريًّا، وهيمن عليه اقتصاديًّا وسياسيًّا، وسعى إلى فرض سيطرته الثّقافيّة واللّغويّة، فهم يرون أنّ التّرجمة صورة حديثة من صور الغزو الثّقافيّ، لذا فهم يدعون إلى تحقيق نوع من الاكتفاء الذّاتيّ الثّقافيّ والإعراض عن التّفاعل والتّبادل والتّواصل مع الثّقافات الأخرى، فهم يتساءلون عن الفائدة الّتي جنتها الثّقافة العربيّة من ترويج كتابات غربيّة تنشر أفكار الوجوديّة والفوضويّة والإلحاديّة والإباحيّة.

وعلى الرّغم من حجج معارضي التّرجمة الّتي تنطوي على شيء من الصّحة، فإن هناك حقيقة موضوعيّة مفادها أن التّرجمة نشاط ثقافيّ إنسانيّ لا غنى عنه، ففي عالم يعرف تعدّديّة لغويّة وثقافيّة ضخمة، وكلّ لغة تحتوي ثروات أدبيّة وفكريّة وعلميّة هائلة، من مصلحة الشّعوب الاطّلاع عليها، وهذا يُحتّم ظهور حركة التّرجمة بين اللّغات المختلفة، لأنّها القناة الرّئيسيّة للتّواصل والتّبادل الثّقافيّ بين الشّعوب، فإن غابت حركة التّرجمة فالبديل الوحيد لها هو اكتساب الّلغات الأجنبيّة الرّئيسيّة في العالم، وعددها يقارب المائة، والاطّلاع على الثّقافات الأجنبية بصورة مباشرة بعيدًا عن التّرجمة، ولكن هذا الخيار شبه مستحيل، وإن تحقّق فإنّه سيكون بصورة جزئيّة فقط، ولنسبة ضئيلة من النّاس، أمّا السّواد الأعظم من المتبقّين فهم بحاجة إلى التّرجمة، ولا يمكن أن يتواصل من دونها مع الثّقافات الأخرى.

وعلى ضوء ذلك فإن كلّ تقاعس على صعيد التّرجمة يعني بالضّرورة تأخّرًا أو تقاعسًا على الصّعيد التّواصل الثّقافيّ، ممّا يؤدّي إلى حرمان المجتمع المتقاعس من فرص الاطّلاع على الثّقافات الأخرى، والاستفادة منها في إثراء ثقافته وتطويرها، وتكون النّتيجة الحتميّة لذلك تأخّر الثّقافة الّتي تقاعس أهلها في التّرجمة، وتخلّفهم عن ركب الثّقافة العالميّ، وخاصّة ونحن نعيش في عصر يعرف ثورات علميّة-تقنيّة بصورة متسارعة، وعليه فالتّرجمة أصبحت مسألة مصيريّة لكلّ الشّعوب لمواكبة التّطور الحضاريّ الّذي تعرفه الأمم الأخرى، ولاشكّ أنّها تمثّل نقطة تواصل حضاريّ مهمّة عرفت في كثير من الحضارات بما فيها الحضارة الإسلاميّة، فكانت إحدى ركائز الحضارة العربيّة الإسلاميّة، فمن خلالها تمّ تعرّف العرب المسلمين إلى الآثار الباقية من القرون الخالية، وتمّت معرفتهم بالمتون الرئيسيّة في العلم السّابق عليهم، فكان ذلك بمثابة إشارة الانطلاق في مسيرة التّحضّر الّتي امتدّت عدة قرون تالية.

حركة التّرجمة ودورها بالتّعريف بالإسلام

إنّ حركة التّرجمة فيَل عن طريق التّرجمة من الأعمال العلميّة والأدبيّة من لغات شعوب العالم الثّالث إلى لغات الشّعوب المتطوّرة لا يتجاوز نسبة يسيرة من الأعمال، الّتي تُنقَل بين لغات الأقطار المتطوّرة أو من لغات تلك الأقطار إلى لغات الشّعوب المتخلّفة، وتنطبق هذه الحقيقة على العلاقة بين الثّقافة العربيّة والثّقافة الغربيّة، فالثّقافة العربيّة تجد نفسها في موقع المرسل المعطي، وهذا الأمر يتعارض مع المصلحة الثّقافيّة العربيّة، وما تحتويه من إنجازات جماليّة وما يتناول فيه من مواضيع وقضايا.

يجب ألّا يقتصر دور التّرجمة في الثّقافة العربيّة على اتّجاه واحد، بل ينبغي أن يكون طريقًا مؤدّيًا باتّجاهين: من الّلغات الأجنبيّة إلى الّلغة العربيّة، وبالعكس، فللأمّة العربيّة مصلحة ثقافيّة خارجيّة كبيرة في أن تترجم أكبر عدد ممكن من الأعمال الأدبيّة والفكريّة والعلميّة العربيّة إلى الّلغات الأجنبيّة، فمن خلالها يمكن للأمّة العربيّة أن تقدّم نفسها ثقافيًّا للعالم، لتتعرّف شعوب العالم على واقعها الاجتماعيّ والحضارييّ وقضاياها، خاصّة وأنّها تعاني عزلة ثقافيّة نتيجة للحواجز الّلغويّة المحيطة بها، وكذلك لوجود خصوم وأطراف تاريخيّين معروفين يحرصون على تشديد هذا الحصار الثّقافيّ، ليتمكّنوا من تشويه صورة الأمّة العربيّة الإسلاميّة كما يحلو لهم، ومن تأليب الرأي العامّ العالميّ ضدّها وضدّ قضاياها العادلة من جهة أخرى، ومن هنا تكتسي حركة التّرجمة أهمّية قصوى، فمن خلالها يمكن أن ننقل إلى العالم الوجه الحضاريّ والثّقافيّ لأمّتنا، وأن نعرض للعالم صورة صادقة وصحيحة عن واقعنا ومشكلاتنا وطموحاتنا، خاصّة وأن من يقوم بهذه المهمّة هي إمّا أطراف خارجيّة تعمل على (تحريف مطالب الأمّة العربيّة وتشويه صورة العربيّ المسلم لدى المجتمعات الغربيّة، سواء عن قصد خدمة لأغراض امبرياليّة أم عن غير قصد نتيجة عدم الإلمام بثقافتنا العربيّة وقيمها، أو المغالطات الّتي أصبحت عرضة لها) أو أطراف عربيّة تقدّم تصوّراً خاطئًا عن الثّقافة العربيّة الإسلاميّة نتيجة الفهم الخاطئ لتعاليم الدّين الإسلاميّ الصّحيح.

ومن أجل وضع التّرجمة في خدمة الثّقافة العربيّة في الخارج، والتّعريف الصّحيح بالقيم السّامية والصّحيحة لها، يجب العمل في اتّجاهين:

الاتّّجاه الأوّل: تشجيع المترجمين الأجانب مادّيًا ومعنويًا، ليقوموا بترجمة أكبر قدر من الأعمال والمؤلّفات الأدبيّة والفكريّة والعلميّة إلى لغاتهم، وفي هذا الصّدد يمكن الاعتماد على العقول العربيّة المتواجدة في المهجر من أجل القيام بهذه المهمّة على أحسن وجه، خاصّة وأنّهم ملمّون بلغتهم الأمّ ويتقنون اللّغة الأجنبيّة، في ظلّ القصور الذي قد تشهده ترجمات مؤلّفي الغرب نتيجة عدم تحكّمهم الصّحيح في الّلغة العربيّة وآدابها.

الاتّجاه الثّاني: تشجيع دور النّشر العربيّة والمترجمين العرب على المضي قُدمًا في ترجمة الكتب ذات القيمة العلميّة والفكريّة لمجتمعاتنا العربيّة كلّ في مجال تخصّصه، ويكون ذلك تحت إشراف هيئة أو مؤسّسة رسميّة تكون مشابهة لدار الحكمة الّتي أنشأها الخليفة المأمون في عصر ازدهار الحضارة العربيّة الإسلاميّة.

حركة التّرجمة ودورها في النّهوض الحضاريّ للأمّة العربيّة المسلمة (أسلمة المعرفة)

سمحت التّرجمة على امتداد التّاريخ الثّقافيّ للإنسانيّة لكلّ شعب بالتّعرف على ثقافات الشّعوب الأخرى، فيستمتع بها جماليًّا، ويستقي منها معلومات وفيرة حول الواقع الاجتماعيّ والحضاريّ لتلك الشّعوب، وكان الدّور الّذي مارسته التّرجمة الأدبيّة دورًا تجديديًّا باستمرار، فالشّعب الّذي يستقبل آداب الشّعوب الأخرى ويستوعبها ويطّلع على ماتلك الآداب من أشكال وأساليب وتقنيّات وأجناس أدبيّة ومن مواضيع ومضامين وأفكار، فيتأثّر بها ممّا ينعكس تجديديًّا على الأدب في المستقبل الّذي أُتيحت له فرصة الاستفادة من الآداب والعلوم الأجنبيّة، أما الثّقافة الّتي يتقاعس أهلها ويقصرون على صعيد التّرجمة الأدبيّة، فإنّها تحرّم نفسها من فرص التّجديد الفنّيّ والمضمونيّ، ويتأخّر عن الآداب الأخرى، فيفقد مكانته في ركب الآداب العالميّ.

ويرى الدّكتور “أحمد السّيسي” عميد المعهد العالي لّلغات والتّرجمة، أن الدّول النّامية تعتمد على الإنتاج الفكريّ للدّول المتقدّمة عن طريق التّرجمة، مشيرًا إلى ثمار حركة التّرجمة في عهد”محمد علي”، ويؤكّد هذه النّظرة المترجم”جمال عبد العظيم”بقوله: “الحضارة العربيّة لم تزدهر ولم يصبح لها شأن علميّ ودوليّ إلّا عندما نشطت التّرجمة في ذلك الزّمن سواء كانت من العرب أو غيرهم، حيث انتشرت الحضارة العربيّة ومعها الإسلاميّة انتشارًا واسعًا وبسرعة بالغة، وأصبحت عالميّة بفضل التّرجمة، وبفضل التّرجمة وصلت أعمال الكاتب العربي الكبير”نجيب محفوظ” إلى العالميّة وحصل على جائزة نوبل”.(1)

وقد كان للأزهر اهتمام بالتّرجمة منذ عهد”رفاعة الطّهطاوي ومحمّد عبده”، حيث كان دائمًا يبحث في سبل النّهوض بالتّرجمة والتّأليف الأجنبيّ من خلال المؤتمرات والنّدوات، وأبرزها كانت النّدوة الّتي نظّمها بمشاركة الجمعيّة المصريّة لتعريب العلوم، والّتي تمخّضت عنها التّوصيات التّالية:(2)

  • اعتبار التّرجمة مشروعَا قوميًّا تُوفََّر له كلّ الإمكانيات المادّية والبشريّة والتّشريعيّة الّتي تلزم استخدام الّلغة العربية في كلّ الأنشطة، ووضع التّشريعات والقوانين الملزمة لذلك.
  • ضرورة إنشاء هيئات متخصّصة للمصطلحات في مختلف فروع المعرفة.
  • الاستفادة من التّقنيات الحديثة مثل التّرجمة الآلية إلى الّلغة العربيّة، مع توفير البرامج والمعاجم العربيّة في جميع التخصّصات والمستويات.
  • إنشاء مركز للتّعريب والتّرجمة تابع لجامعة الأزهر ذي طبيعة خاصّة، تكون مهمّته التّرجمة من الّلغات الأجنبيّة وإليها.
  • أن يكون لكل جامعة خطّة في مجال التّأليف والتّرجمة وتشجيع تفرّغ أعضاء هيئة التّدريس لهذا الغرض.
  • إلزام أعضاء هيئة التّدريس الدّارسين بالخارج بترجمة رسائلهم العلميّة إلى العربيّة، واعتبار هذا من شروط تعيينهم في وظائف التّدريس بالجامعات ومراكز البحوث.

حركة التّرجمة ودورها في فهم الثّقافة الغربيّة

إذا كانت ترجمة التّراث العربيّ هامّة لتعريف الآخر الحضاريّ بسموّ حضارتنا وتنقيتها من الشّوائب الّتي علقت بها، فإن ترجمة التّراث الغربيّ مهمّ ليس من أجل الحصول على المخزون المعرفيّ الّذي يحتويه فقط، وإنّما لتصحيح الأفكار المتطرّفة الّتي يحملها الشّباب العربيّ عن الشّعوب الغربيّة، تحول دون وقوعهم ضحيّة الحملات الدّعائيّة الّتي تقودها بعض الأطراف العربيّة والّتي خلقت جوًّا من الصّراع والتّخوّف بين الشّعوب في كلتا الحضارتين.

فكثيرًا ما يكون الآخر المختلف هو من نتوجّس منه، ومن ننسج في مخيّلتنا عنه الأساطير والقصص والمخاوف عن بعض الأمور والأحداث الّتي تحصل لنا، سواء في الوقت الحاضر أو على المستوى التّاريخيّ، فلكي نتعرّف على المعنى الحقيقيّ لمدلولات المعاني والمفاهيم، فنحن بحاجة إلى التّواصل الإنسانيّ القريب، وفهم لغة الآخر لكي نستطيع التّعرف على معاني وأبعاد الأمور وحيثياتها الخاصّة من وجهة نظرهم وليس بالطّريقة الّتي تصل إلينا عبر الوسائط المتعدّدة المرئيّة أو المسموعة كالإعلام مثلًا.

إنّ التّحدي الأكبر في هذا العصر هو المصدر الّذي نتعرّف فيه على الآخرين والّذي غالبًا ما يستبعد الحوار الشّخصيّ، فنحن نتعرّف على شعوب ونكوّن أفكارًا أو أحيانًا مواقف منهم ونحن قد لا نكون التقينا بشخص واحد منهم أصلًا، نسمع ما يقال عنهم عبر القنوات التّلفيزيونيّة وخاصّة الإخباريّة والجرائد والمجلاّت والإنترنت. فعلى كلّ الطّرفين أن يحاور الآخر لا كوافدٍ غير مرغوب فيه، بل كضيف مدعوٍّ لا تخلو بضاعته من المرغوبات.

على الرّغم من التّاريخ الدّموي الّذي ميّز علاقات الأمّة الإسلاميّة بالغرب المسيحيّ، والّتي كانت في مراحلها الأخيرة في شكل حملات استعماريّة وحروب صليبيّة، صنعت صورة سلبيّة عن الحضارة الغربيّة في مخيّلة الشّعوب العربيّة، إلّا أنّه هناك تيّار في الغرب يطلب التّعارف، وهو تيّار عقلانيّ يقف على رأسه ولي عهد بريطانيا “الأمير تشارلز”، فهذا التّيار موجود يحتاج منّا أن ندرسه ونشجّعه على هذه الإيجابيّة، وهذا التّيار ينطلق من حقائق منها عودة الاستعمار القديم مستحيلة، وأنّه لابدّ من إيجاد صيغة للتّعايش، وأنّه إذا كان المقصود خدمة المصالح المشتركة والتّبادل الثّقافيّ والحضاريّ فهذا ممكن دون حروب، وتعتبر التّرجمة ذلك الجسر الّذي سيسمح للمجتمعات العربيّة الاطّلاع على أفكار ومبادئ هذا التّيار، مما قد ينعكس تصحيح الصّورة على المجتمعات الغربيّة، والتّفريق بين المجتمعات في حدّ ذاتها وهي شعوب مسالمة مغلّطة في موقفها ضدّنا وبين الحكومات الغربيّة الّتي تتميّز بالنّزعة المصلحيّة والامبرياليّة اتّجاه المسلمين.

واقع حركة التّرجمة في العالم العربيّ

على الرّغم من أهمّية التّرجمة الحيويّة في بقاء الثّقافات وتطوّرها، وقد صدق من قال “إن الثّقافة القابلة للترّجمة لا تموت“، إلّا أنّها لا تزال ضعيفة في العالم العربيّ، فعندما نُلقي نظرة سريعة على ميدان ترجمة النّصوص العربيّة إلى الّلغات الأوروبيّة، ومن هذه إلى العربيّة، فسنلاحظ عن كثب أن حركة هذه التّرجمة تخضع لإيقاع بطيء جدًّا، وهي لا تعدو أن تكون مبادرات محدودة جدّا أُنجِز أغلبها بفضل مجهودات فرديّة متفرّقة، إنّها جهود مبذولة من مؤسّسات عربيّة قليلة ومتناثرة هنا وهناك في بعض البلاد العربيّة. يقول عضو جمعية التّرجمة باتّحاد الكتّاب العرب”جمال دورمش”: “إنّ واقع التّرجمة في العالم العربيّ مؤلم جدًّا يتّسم بالفوضى والعشوائيّة ومتخلّف، مرتبط بتأخّر الأمّة الثّقافيّ والحضاريّ”.

وفي سبيل النّهوض بحركة التّرجمة ومنحها المكانة الحضاريّة الّتي يجب أن تلعبها، فنحن ملزمون في جميع أقطار العالم العربيّ بتحديث البنيات التّحتيّة لتكنولوجيا المعلومات وتوسيع الاستثمارات فيها، إنّ ذلك من شأنه المساهمة في تحسين ظروف إنتاج الأعمال المُترجمَة، عن طريق تمكين المحترفين في ميادين التّرجمة، وكذلك طلبة معاهد تكوين المترجمين من الاطّلاع والاستفادة من التّكنولوجيّات الجديدة المساعدة في هذا المجال، وكذلك الإلمام والتّمرّس بالأنظمة المعلوماتيّة الأحدث.

(1)- أحمد الحسيني الهاشم، “بين الثّقافة والسّياسية”، ص 113، كتاب إلكترونيّ، www.kotobarabia.com

(2)- نفس المرجع، ص ص 125-126.

بشرى بلعلي

بشرى بلعلي باحثة وكاتبة مغربية, حاصلة على ماجستير في القانون الدولي والعلاقات الدولية, ونشر لي العديد من المقالات والابحاث على عدة مواقع إلكترونية ومجلات ورقية.
زر الذهاب إلى الأعلى