تحقيقات زدني

الطلبة السوريون في تركيا: المحذوفون من سجلات التعليم إلى أين؟!

تفترش “إلهام” التي تبلغ من العمر (8 سنوات) الأرض وتقوم ببيع المناديل قرب إحدى محطات الباصات القريبة من منطقة أفيجلار غربي إسطنبول في ساعات النهار بشكل شبه يومي، وذلك لمساعدة عائلتها في توفير الأقساط الشهرية لمنزلهم.

إلهام” لم تعد إلى المدرسة عقب تدمير طائرات النظام السوري لمدرستها في “دير الزور” قبل ثلاث سنوات حيث فرت عائلتها إلى تركيا، ولم تستطع أن تلتحق أبدًا بالمدرسة بسبب الوضع المادي السيء لعائلتها الذي لا يسمح لهم سوى بتوفير أجرة المنزل وتوفير الطعام.

الطفلة التي كانت تحب حصص الفن، تقوم باستغلال أوقات فراغها على قارعة الطريق بالرسم على دفتر كبير حصلت عليه من أحد المارة، ومن ثم تقوم باستخدام الحبر في تلوين رسوماتها.

توجه فريق زدني لها بالسؤال: “ألم تشتاقي للمدرسة؟، فأجابتنا: نعم، لكن مدرستي تدمرت”.

عام دراسي جديد

 في الثامن والعشرين من شهر سبتمبر الماضي توجه عشرات الآلاف من الطلبة السوريين اللاجئين في تركيا إلى مقاعد الدراسة مجددًا مع بداية العام الدراسي الجديد في تركيا2015/2016م.

طلبةً يدفعهم الأمل بتعويض سنوات طويلة من انقطاع التعليم لدى جزء كبير منهم بسبب النزاع الدائر في سوريا منذ خمس سنوات، والبحث عن مستقبل تعليمي أفضل.

اللاجئون السوريون أمام خيارات محدودة لإلحاق أبنائهم في المدارس المنتشرة في تركيا، فقسم من السوريين يختار المدارس التركية، وفي هذه الحالة يتعلم الأطفال السوريون باللغة التركية إلى جانب نظرائهم الأتراك، وقسم قليل آخر يختار المدارس العربية المنتشرة في عدد قليل من المدن، والتي تتخذ من المناهج الليبية والسودانية مقررات دراسية فيها، وأما القسم الأخير وهي الغالبية الكبيرة من اللاجئين تختار المدارس السورية المنتشرة في جميع أنحاء تركيا.

أسئلة كثيرة دفعت فريق “زدني” لسؤال بعض العائلات السورية التي تقوم بإرسال أطفالها للمدارس التركية، عن ماهية الأسباب التي تدفعهم لذلك.

إحدى العائلات قالت لنا إنها لجأت إلى تركيا في وقت مبكر من الثورة السورية وكانت أعمار أطفالهم لم تتجاوز الثالثة أو الرابعة على أبعد تقدير، ومن خلال مخالطة هؤلاء الأطفال مع نظرائهم الأتراك في اللعب بالحدائق العامة، اكتشف الأهالي قدرة أطفالهم على الحديث باللغة التركية بشكل لافت.

يقول “حسيب” وهو الأب في هذه العائلة:” فكرت في إرسال أبنائي للمدارس السورية هنا في إسطنبول، ولكن الكثير من أصدقائي يعانون بسبب كثرة المشاكل فيها، وضعف النظام التعليمي، إضافة إلى عدم تخصص هذه المدارس في التعليم.”

ويوضح “حسيب” أن المدارس السورية تقوم باستئجار أبنية مخصصة للسكن أو العمل، وتقوم بتحويلها لصفوف دراسية، وهذا ما يؤثر على التحصيل الدراسي للأطفال، حيث سيفتقد أبناؤه الجو الدراسي، أو كما قال.

قابلنا ابنته وتدعى “عائشة” وتبلغ من العمر (7أعوام) وتحدثنا معها بلغة عربية، حيث قالت إنها لا تجد صعوبة في التعلم مع الأطفال الأتراك.

والد عائشة قال لنا إن التعلم باللغة التركية لن يواجه أطفاله بمشاكل مستقبلية مع اللغة العربية، بسبب المحيط الاجتماعي العربي الخاص بهم من أقارب وأصدقاء.

“نسرين كواره “مديرة الإدارة التعليمية في هيئة علم السورية، عزت  أسباب الضعف إلى وجود بعض تجار التعليم في ساحة العمل الميداني، إضافة إلى عدم وجود رقابة حقيقية لضبط العمل في مراكز التعليم السورية في كثير من المدن التركية.

وقالت كواره :”مثلاً فإن ارتفاع الأقساط المالية بشكل كبير كان سببًا في تسرب الكثير من الطلاب، ورغم محاولاتنا الكبيرة في دعم بعض المدارس وافتتاحنا لأخرى جديدة في بعض المناطق، لكن ذلك لم يكن كافيًا.”

إحصائيات وأرقام

وتنتشر في تركيا 223 مدرسة سورية، منها 22 في المخيمات المنتشرة على الحدود الجنوبية لتركيا، واستطاع فريق “زدني” الحصول على أعداد الطلبة الملتحقين في 178 مدرسة فقط بواقع 143 ألف و476 طالبا وطالبة، وبطاقم تدريسي يصل إلى 11 ألف معلم ومعلمة.

حاول فريقنا تقريب أعداد الطلبة الملتحقين بالمدارس بشكل عام في تركيا، فقمنا بعملية حسابية بسيطة بتقسيم عدد الطلاب المتوفر لدينا وهو 143 ألف و476 على 178 مدرسة_التي لدينا بها إحصائيات دقيقة_ فوجدنا أن متوسط هذه المدارس تحتوي على 806 طلاب.

لاحقًا قمنا بضرب الناتج من الطلاب إلى عدد المدارس الكلي وهو 223 مدرسة، فحصلنا على رقم تقريبي لعدد الطلاب المنتشرين في المدارس السورية في تركيا وهو 180 ألف طالب.

وطبقا لكواره فإن تقديرات “هيئة علم” لعدد الأطفال السوريين المتسربين من المدارس السورية في تركيا هو 365 ألف طالب، أي ما يعادل 70% من الأطفال لا يلتحقون بالمدارس السورية.

هذه الأرقام تشير إلى أن كل طالب سوري غير مسجل في المدراس السورية يعتبر على أنه متسرب، ولا تأخذ بعين الإعتبار الطلاب الملتحقين بالمدارس التركية، ومع ذلك تبقى نسبة التسيب مرتفعة بشكل كبير جدًا.

من جهتها قالت مديرة مدارس “قادمون” في إسطنبول “علا باغاجاتي” أن نسبة التسرب في المدارس تصل إلى أكثر من 60% من الطلبة، مؤكدة أن هذه النسب لا تلتحق بالتعليم على الإطلاق.

وتدير باغاجاتي 4 مدارس بمتوسط عدد طلاب يصل إلى 800 طالب لكل مدرسة.

“هيئة علم” على لسان مديرة الإدارة التعليمية “نسرين كواره” قالت لنا أنها تسعى لإعادة الطلاب المتسربين من المدارس إلى دراستهم من خلال افتتاح مراكز لفاقدي التعليم في المناطق التي ليس فيها مدارس.

وأوضحت كوارة أن هذه الخدمات تقدم بشكل كامل دون مقابل مطلقاً”.

وتضيف كوارة أيضًا: “إن عدم إستطاعة فتح مراكز تعليمية في الكثير من المدن يؤدي إلى زيادة أعداد المتسربين من المدارس.”

وينتشر العشرات من الأطفال السوريين في شوارع مدينة إسطنبول والمدن المختلفة يبيعون في أحيان كثيرة “المناديل” الورقية، أو يقومون بالتسول بطرق سيئة من خلال تقبيل أيدي المسافرين في المواصلات العامة للحصول على الأموال.

معوقات الدعم المادي

تعاني المؤسسات التعليمية السورية في تركيا من الضعف والدعم الشحيح وقلة الموارد والأبنية الخاصة بالمدارس.

وعلقت “علا باغاجاتي” على أبرز المشكلات التي يعاني منها التعليم وهو عدم الإعتراف الدولي بشهادات المدارس السورية، مشيرة في الوقت ذاته إلى اعتراف تركيا العام الماضي بشهادات هذه المدارس خصوصًا الثانوية العامة لإتاحة إلتحاق طلبتها بالجامعات التركية، وعدّت ذلك تطورًا مهمًا.

وقالت باغاجاتي: “لقد وقعت وزارة التعليم الوطني التركية بروتوكولا مع المدارس السورية، حيث اعترفت بشهادة الثانوية العامة فيها، وهذا من أهم الإنجازات التي استطعنا تحقيقها”.

لكن “هيئة علم” قالت لنا: “إن بعض قرارات وزارة التعليم الوطني التركي لا تكون في خدمة الطلاب السوريين لذلك تسعى الهيئة إلى التواصل بشكل دائم مع المسؤولين الأتراك وبخاصة أصحاب القرار بشأن السوريين”، ولم توضح الهيئة طبيعة هذه القرارات.

وتعاني الكثير من العائلات السورية من ارتفاع تكلفة المواصلات بسبب ارتفاع الأسعار في مدينة إسطنبول، فعائلة “سالم” مثلاً لا تستطيع أن تتحمل نفقات أطفالها لإيصالهم إلى المدرسة.

يقول “سالم”: “لدي ثلاثة أطفال، وتكلفة نقل كل طفل للمدرسة شهريًا تصل إلى مائة ليرة تركية، في حين لا يتجاوز راتبي الشهري ألف ليرة_ما يقارب من 330 دولار أمريكي-“.

ويضيف: “إذا قمتَ بإضافة مصاريف المواصلات إضافة لأقساط المدرسة ومصروف الأطفال لن أتمكن من إعالة أسرتي أبدًا”.

وتعاني المؤسسات التعليمية من عدم توفر المباني اللازمة واقتصار غالبيتها على مبان سكنية أو تجارية، وعدم القدرة على توفير الإيجارات اللازمة للمدارس، إضافة لتوفير الرواتب للعاملين في السلك التعليمي.

وكانت إحدى بلديات إسطنبول وهي بلدية “إيسنيورت” قامت مؤخرًا ببناء مدرسة مع باحاتها للطلبة السوريين في خطوة هي الأولى من نوعها في المدينة، حيث طابقت المدرسة مواصفات نظيراتها التركية.

هذه المدرسة تقابلها عشرات المدارس الفاقدة للباحات العامة وللفصول الدراسية المخصصة بسبب التكاليف المرتفعة لبناء المدارس في تركيا، وعدم توافر الدعم اللازم لها.

وأوضحت “هيئة علم” أن الدعم المادي يؤثر في جودة الخدمات المقدمة في المراكز التعليمية، وأشارت إلى إمكانية تطويره من خلال ما أسمته : “الحرص على الإستعانة بالخبرات الحقيقية في الميدان التعليمي بعيداً عن المحسوبيات وضمان الشفافية في العمل و تويثق مصروفات العمل أمام الجهات المانحة لضمان استمرارية الدعم”.

دور مؤسسات المجتمع المدني

ومن المفترض أن يساعد انتشار مؤسسات المجتمع المدني في تركيا المؤسسات التعليمية السورية، لكن المسؤولين السوريين يعزون قلة هذه المساعدة إلى عدم وجود العدد الكافي من المنظمات المتخصصة.

ويوضح المسؤولون أيضًا أن الكثير من هذه المنظمات الموجودة التي دعمت التعليم كان دعمها في نطاق العمل الإنساني وليس من باب التخصص.

وطالبت “نسرين كواره”منظمات المجتمع المدني أن تكون مساعداتها في مجالات مجانية التعليم في المدارس وإيجاد الداعمين لهذه المشاريع، وضمان استمرارية الدعم في حال أثبتت هذه المنظمات مصداقيتها وحسن أدائها وشفافية في عملها، أو كما قالت.

أما “باغاجاتي”فقد طالبت بتوفير الدعم اللازم للمدارس السورية عبر المنظمات العربية والإسلامية في العالم حيث قالت: “لا يعقل أن نرى دعمًا من المؤسسات المسيحية وحتى البوذية لبعض المدارس السورية بشكل سخي، فيما تقف المؤسسات الإسلامية موقف المتفرج من ذلك”.

وتشكك “باغاجاتي” بأهداف المؤسسات الغربية بدعم هذه المدارس، وتتهمها بمحاولات التنصير لطلبتها وطواقمها التدريسية مقابل توفير الوظائف والتعليم المجاني لأطفالها.

وتسائلت أيضًا: “أين مؤسساتنا العربية والإسلامية التي من المفترض أن تقوم بدورها في دعم الطلبة السوريين؟!”.

وحثت “باغاجاتي” الجمعيات المنتشرة وحتى العائلات الميسورة على تبني الأطفال الأيتام وغير القادرين على توفير الأقساط الشهرية أو المواصلات لضمان استمرارية التعليم.

وفي ظل ضعف الإمكانيات ونقص القدرات، وقلة نشاطات المؤسسات المانحة والداعمة للمدارس السورية في تركيا، فإن مئات آلاف الطلبة السوريين غير قادرين على الإلتحاق بالمدارس بسبب حالات الفقر الشديد التي تعاني منها العائلات اللاجئة في تركيا.

و تنتظر هذه العائلات فرص المساعدات اللازمة وتوفير الأساسيات لها لإرسال أطفالها إلى المدارس، مع الأخذ بعين الإعتبار أن عشرات الآلاف من الأطفال قد خسروا ما بين عامين إلى خمسة أعوام دراسية كاملة، ما يدفعنا لتسمية ذلك بالكارثة التعليمية التي تؤدي إلى شطب أكثر من نصف جيل أطفال اللاجئين.

معاذ حامد

صحفي فلسطيني يعمل في مجال الصحافة المكتوبة وإعداد وتنفيذ الأفلام الوثائقية عمل سابقًا في وكالة الأناضول التركية، ويعمل حاليًا محررًا في برنامج الألوان السبعة في القناة التركية.
زر الذهاب إلى الأعلى