رؤية مثقف

الظاهر والخفي من سجال تدريس اللغات ومراجعة مناهج التربية الدينية بالمغرب..(2)

2) مراجعة مناهج التربية الدينية ..هل من دواعي حقيقية لذلك؟

كان مثيرًا حقًا أن يتم في المجلس الوزاري المنعقد يوم 6 فبراير 2016 بمدينة العيون جنوب المغرب، إقرار مراجعة مناهج التربية الإسلامية بأمر ملكي، نظرًا لأن هذا لا يمثل إشكالية مجتمعية في المغرب، كما أنه لا سبب مقنع لذلك أو داعي يمكن به تبرير الدعوى، وقبل أن نتحدث عن المستور من الدوافع التي عجلت بالقرار الذي لم يكن منتظرًا، ننظر في فحوى الإعلان عن ذلك حسب ما صدر عن المجلس الوزاري في الموضوع.
فحسب البلاغ

“أصدر جلالة الملك، أمير المؤمنين، تعليماته السامية لوزيري جلالته في التربية الوطنية والأوقاف والشؤون الإسلامية، بضرورة مراجعة مناهج وبرامج مقررات تدريس التربية الدينية، سواء في المدرسة العمومية أو التعليم الخاص، أو في مؤسسات التعليم العتيق، في اتجاه إعطاء أهمية أكبر للتربية على القيم الإسلامية السمحة، وفي صلبها المذهب السني المالكي الداعية إلى الوسطية والاعتدال، وإلى التسامح والتعايش مع مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية. كما شدد جلالته على أن ترتكز هذه البرامج والمناهج التعليمية على القيم الأصيلة للشعب المغربي، وعلى عاداته وتقاليده العريقة، القائمة على التشبث بمقومات الهوية الوطنية الموحدة، الغنية بتعدد مكوناتها، وعلى التفاعل الإيجابي والانفتاح على مجتمع المعرفة وعلى مستجدات العصر”.

إن البلاغ يدعوا إلى التربية على القيم الإسلامية السمحة وضرورة التعايش بين مختلف الثقافات والحضارات، وفي الآن نفسه يصرح بالتشبث بالقيم الأصيلة للشعب المغربي وتقاليده، فهل هناك ما يخيف في المناهج الحالية من قيم وأفكار تناقض السماحة وتدعوا إلى الانغلاق في المناهج والمقررات الحالية، أو تنتج التطرف؟

معلوم أن مقررات التربية الإسلامية تمت مراجعتها إلى جانب مقررات كل المواد قبل سنوات معدودة، وكان السياق الدولي والمحلي المحكوم بنزعة محاربة الإرهاب دافعًا للبعض من أجل شن هجوم قوي على كل التعبيرات الدينية، منها كتب التربية الإسلامية التي أضيف إليها عدة مواضيع وقضايا تزيل الشبهة عن المغرب أمام الهيئات الدولية التي تفرض أجنداتها مقابل الدعم المالي والسياسي، وهذا التدخل غير خفي في مناهج النظام التعليمي في كل الدول المغلوب عليها.
لم يتوقف الأمر في المغرب على هذا الجانب، بل عرف المغرب بعد الهجوم الإرهابي 16 ماي 2003 التي لم يكشف بعد حقيقته ومراميه، إعادة هيكلة الحقل الديني ونهج خيارات جديدة في الشأن الديني، ليس على مستوى التنظيم والتدبير وحسب، وإنما على مستوى مضمون الخطاب الديني الرسمي، حيث حظي البعد الصوفي والزوايا القريبة من الدولة والمغرقة في الطرقية اهتمامًا بالغًا وعادت ريادتها للواجهة بدعم رسمي، وخيم ظل وزير الأوقاف الذي لا يخفي صوفيته الطرقية على كل البرامج الدينية لوزارة الأوقاف، وكان هذا خيار الدولة في علاقتها بالدين، حيث أصبحت الزوايا أداة ضبط ونموذجًا يحظى بالرعاية والدعم، مقابل محاصرة كل التعبيرات الأخرى، ومن أهم مظاهر الضبط تلك، مراجعة مناهج التعليم الديني بالمعاهد والمدارس الدينية العتيقة إلى جانب إخضاعها لوزارة الأوقاف، وكان من ذلك تحديث النظام التعليمي لجامعة القرويين وبموازاتها عشرات المؤسسات العتيقة.

الآن، وبعد أن تبينت بعض السياقات التي كانت حاكمة على تغيير بعض النظم والأفكار في مناهج مقررت التربية الإسلامية قبل عشر سنوات بالمغرب، تماشيًا مع السياق الدولي والإقليمي في الحملة المحمومة على مواجهة الإرهاب، هل يمكن أن يكون ذات الدافع الآن في سياق مضطرب يحكم عالمنا العربي والإسلامي؟
إن إٌقرار تعديل مناهج التربية الدينية في المغرب لا يمكن فصله عن الاضطرابات الحاصلة، فقبل مدة بموازاة حادث باريس الإجرامي، برزت دعوة رموز التطرف العلماني إلى مراجعة مناهج التربية الإسلامية في المغرب، والغريب أن الحادث وقع بفرنسا لكن النخب المعادية للدين وقيمه في المغرب وجهت الدعوة للمغرب، وكأن الحادث وقع بالمغرب، أو أن المغرب ومناهجه في التربية الإسلامية كانت سببًا في ذلك، فالكثير من هذه الرموز لا تتوقف عن هذه الدعوات بسبب أو بدونه، فهي لا تنتمي بالأصالة لقيم المجتمع المغربي الذي يلفظ كل أنماط التطرف، سواء كانت باسم الدين أو الإيديولوجيا أو السياسة، حيث تجدهم يدعون التنوير والحرية على مستوى الخطاب ويختبئون في حضن السلطوية والاستبداد ويعادون الخيار الديمقراطي بما هو نموذج يؤسس للقبول بالتعدد وتقنينه.
إن إشكالية التطرف غير كامنة في الدين، ولا يوجد في مقررات التربية الإسلامية بالمغرب ما يدعوا إلى القلق على قيم السماحة والاعتدال والقبول بالآخر، فأخطر أنماط التطرف هو التطرف السياسي الذي يبرز بين الحين والآخر بدعوات الاستئصال، وتجد لها منفذًا إلى مقررات التعليم ومنابر الإعلام، بل إن جل هؤلاء ذوي نفوذ في بنية الدولة العميقة في مقابل انفصالهم عن المجتمع وخياراته، فالمجتمع المغربي مسالم بطبعه، والتعدد أصيل ثقافته، وأي إخضاع قسري لمراجعة من هذا القبيل لا تراعي هذا الجانب فإنها تقامر برد فعل مناقض، فكلما برزت دعوات التطرف وإرادة التحلل من القيم الناظمة للمجتمع وبعدها الديني، فإن هذا الأخير يخلق ميكانيزمات يحافظ من خلالها على شخصيته المعنوية والبعد الرمزي المؤثل لها، لذلك يكون خير مثال، بدلًا من إخضاع مناهج بعينها للمراجعة، الانخراط الجدي في إصلاح التعليم ونظمه البيداغوجية بعيدًا عن الإملاءات والضغوط الداخلية أو الخارجية الساعية لإعادة صناعة الفشل بدل زرع بذور النهوض من خلال التعليم.
وفي الأخير، تكفي الإشارة إلى أن دعوات مراجعة مناهج التربية الإسلامية وإثارة اللغات الأجنبية في التدريس، تخرج من ذات البوتقة وتعبر عن نفس الخيار، فمن يخوض معركة التغيير القسري لملامح الهوية الوطنية سواء على مستوى اللسان أو نظام القيم الدينية التي لم تكن يومًا سببًا في التقوقع والانغلاق، هم تيار بعينه، ينوب عن قوى خارجية في استدامة التبعية للمغرب، ويعيق مسيره نحو التحرر والاستقلال الفعلي من الضغوط الخارجية.

يحيى عالم

يحيى عالم، كاتب وباحث مغربي، طالب دكتوره بمختبر “الدراسات الدينية والعلوم المعرفية والاجتماعية” بجامعة محمد بن عبدالله بفاس، مهتم بقضايا الفكر والحضارة. نشر عدة مقالات ودراسات وأخرى قيد الإعداد.
زر الذهاب إلى الأعلى