القبولات الجامعية.. أين العدالة؟!
“وتعد الدولة الأردنية أنموذجا لدولة القانون بالمفهوم العصري الحديث للدولة الديمقراطية، فهي دولة المواطنين جميعا مهما اختلفت آراؤهم أو تعدّدت اجتهاداتهم، وتستمدّ قوتها من التطبيق الفعليّ المعلن لمبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص، وإتاحة المجال العملي للشعب الأردني، للمشاركة في صنع القرارات المتعلقة بحياته وشؤونه…..إلخ” (من كتاب الثقافة العامة للمرحلة الثانوية – المستوى الثاني)
نعم.. هذا ما تعلمناه في كتبنا دائما، وحفظناه عن ظهر قلب. قبل شهرين أو أقل حتى، كان طلبة التوجيهي (الثانوية العامة) يرددون هذا الكلام، وبعد أن انتهى التوجيهي بكل ما فيه، وبدأت إجراءات الجامعات، أخذ الوجه الحقيقي يظهر أمامهم بكل وضوح، ماسحا الكثير مما رسّخ في أذهانهم مع كل يوم من خلال كتبنا وتعليمنا وحتى إعلامنا وكل مصادرنا الرسمية.
القبولات الجامعية في الأردن، واحد من أكثر المواضيع أهمية وإثارة للجدل، خاصة حين نتحدث عن “التنافس” و”الموازي” والاستثناءات بأنواعها، وآلية القبول في الجامعات بشتى طرقها، وهو الأمر الذي يعاني منه الكثير منّا (الطلبة والأهل)، بل ويعاني منه بلدنا نفسه، فهو مرض ظالم مستمر يترسّخ يوما بعد يوم.
وإذ نتكلم عن الاستثناءات بمسمّياتها المختلفة، فمن الواجب أن أوضح نقطة مهمة في البداية، وهي أنني لا ألوم أبدا من يستفيد من هذه الاستثناءات وهو يستحقها، فمع أن هذه الوسيلة هي ظلم واضح إلا أن بعض الناس يكون مستحقّا لهذا المقعد فعليا، أي أنه لن يظلم أحدا أحقّ منه لو استخدمها، بل سيكون مظلوما لو لم يستفد منها، والحكم على كل حالة نسبيّ ويرجع إلى مدى التزام الفرد بمبادئه وحكمته في الحكم على الحالة التي هو فيها ومدى استحقاقه للمقعد الجامعي. المهمّ أنني هنا لا ألوم سوى واضعي هذه السياسات، فهم من حوّل التعليم عن هدفه الرئيسي وأفسده. ولكن علينا جميعا أن نقول الحقّ أيّا كان وضعنا، وأينما كنّا، ففعلنا للخطأ لا يعني دائما أنه لا يحقّ لنا انتقاده، ولا يعفينا من مسؤولية انتقاده!
استثناءات نظام القبول لدينا في الأردن تتضمن تخصيص مقاعد لأبناء العاملين في بعض المهن (ومنها الجيش والأجهزة الأمنية والمعلمون)، بالإضافة إلى إعفائهم من دفع الرسوم الجامعية.
بعض الناس يقولون أن طبيعة وظائف الجيش والأجهزة الأمنية والمعلمين تأتي مع هذه الامتيازات والامتيازات تأتي معها، وأن العاملين يستحقون أن يدرّسوا أبناءهم في الجامعة التي يعملون فيها، إلا أن الرد هنا بكل بساطة هو: منذ متى كانت الامتيازات تتضمن ظلما فادحا للآخرين؟ ومنذ متى نميز أحدًا خدم البلاد أكثر (هذا إن كان أكثر) من خلال ظلم المواطنين الآخرين وتوليد الحقد والكراهية بين الناس جراء تغييب العدالة؟ وهل عجزنا عن تمييز هؤلاء بطريقة لا تنتشل حقوق المبدعين ممن لم ينالوا حظ أن يكون أهلهم قد عملوا في هذه الحقول؟ نعم، لا نرفض امتيازات كل وظيفة، لكن ليس حين تتعدى على حقوق أصحاب الوظائف الأخرى. الجيش خدم الأردن، والأجهزة الأمنية تخدم الأردن ولا قوام لبلد بدونها، والمعلمون يستحقون أن يكرّموا، والعاملون في الجامعات كذلك، لكن ما ذنب من عمل في القطاع الخاص مثلا؟ ما ذنب من اجتهد وطوّر نفسه في قطاع مختلف عن هذه القطاعات ليبني بلده كما يبني هؤلاء ولا ينال أي امتياز (في قطاع أساسي كالتعليم) مثلهم؟ ما ذنب عامل الوطن الذي يكدح ليل نهار، ثم يهمّش لصالح آخر لا يزيد عنه علما ولا جهدا؟ كلنا أردنيون ونخدم بلدنا وننهض به، ولا فرق بين أي مواطن وآخر إلا بجهده واستحقاقه وكفاءته هو شخصيا، لا بأي طريقة أخرى.
البعض يقولون أن من لا يملك مكرمة أو استثناء معينا فهو يمتلك المال الكافي ليدرس من خلال نظام الموازي، ولكن هل سأل من يقول هذا نفسه عن قيمة التعليم الجامعي ومكانته في نفوس أولياء الأمور؟ وهل علم أن أغلب الناس مستعدون لبيع بيوتهم وسياراتهم وأحيانا “أنفسهم” ليدرّسوا أبناءهم التخصص الذي يريدونه في الجامعة (خاصة إذا كان الطالب متميزا)؟ فلا تقولوا لي أن الجميع يستطيع الدراسة بالموازي، فكلفته تهلك أي أسرة أردنية وإن كان وضعها مرتاحا ماديا!.. ولكنهم يلجؤون له لقلة الحيلة وانقطاع السبيل. إنهم يرضون لأن تعليم الأبناء بالنسبة للكثير من الأهل مسألة حياة أو موت، وليس لأنهم قادرون على دفع ما يقارب الأربعة آلاف أو يزيد أحيانا كل عام على كل ابن يدخل الجامعة من بوابة “الموازي”!
ومن الجدير بالذكر أن من النادر أن تجد أحدا غير مستفيد من الاستثناءات بأنواعها يدافع عنها بينما تجد الكثير ممن ينتقدها حتى وهو مستفيد، فهي ظلم واضح وصريح ومخالفة فادحة لنصوص الدستور وتغييب لمبادئ العدالة وتكافؤ الفرص، الذي نذوق وبال أمره يوما بعد يوم.
“تكفل الدولة العمل والتعليم ضمن حدود إمكانياتها وتكفل الطمأنينة وتكافؤ الفرص لجميع الأردنيين.” (من الدستور الأردني)، وتكافؤ الفرص لا يجهله عاقل، وهو أن يكون “التنافس” مهيمنا على “الموازي” والاستثناءات بكل صراحة ووضوح، لا أن تكون الاستثناءات هي القاعدة المنافية لكل قاعدة!
وللتذكير، فإن أي تعديل في القبولات الجامعية يجب أن يصبّ – منطقيا – في خانة “المقبولين تنافسيا” لا أي جهة أخرى، فعدم اقتران إلغاء مقاعد أي فئة من جهة، بزيادة نسبة المقبولين تنافسيا والإلغاء التدريجي للبرنامج الموازي وغيره من الاستثناءات بالتوازي مع زيادة الدعم الحكومي للجامعات والبدء التدريجي بخفض الرسوم الجامعية وصولاً الى مجانية التعليم من جهة أخرى، سيكون هباء منثورا، بل وربما يزيد الطّين بلّة.
من جهة أخرى، لا أنكر أحقية البعض في الحصول على تمييز، فمثلا طلاب “الأقل حظا” يستحقون أن تخصص لهم مقاعد في الجامعات لتعويضهم عن صعوبة الظروف التي مرّوا بها وسوء أحوالهم، مع عدم نسيان أن حالتهم هذه هي ذنب الحكومة لا المواطن! أي أن هذه المقاعد يجب أن تُمنح لهم مع السير في خطط واضحة تضمن مستقبلا تخفيض نسبة “الأقل حظّا” أو إعدامها حتى يصبح تكافؤ الفرص لدينا أكثر تكاملا.
ولكم أن تتخيلوا معي حجم المأساة، حين نتحدث عن نسبة ضئيلة (20% فقط) لمرتادي الجامعة “تنافسيّا”!! فهي أعظم دليل على مدى الظلم الذي نحن واقعون فيه، هذا بدل أن تكون نسبة كهذه 100% أو على الأقل أغلبية، لا أقلية!! فبالله عليكم، أيعقل أن يدرس أكثر من 1000 طالب تخصص الطب البشري في الجامعة الأردنية وجامعة العلوم والتكنولوجيا.. ولا يستطيع الطالب ذو الترتيب 150 على المملكة أن يدرس في إحداهما؟؟.. يا للعجب! وكيف يمكن لمن تحصّل على معدل 93 و94 أن يدرس الطب في “الأردنية” من خلال بوابة أبناء العاملين ولا يدرسه من تحصّل على معدل 98 فما دون؟!!
من وجهة نظري، أعتقد أن الحل لمشكلة القبولات الجامعية هو أن نسمح لأصحاب هذه الاستثناءات بعدم دفع مصاريف الجامعة (على الأقل في الوقت الراهن، لأن الهدف الأكبر هو الوصول إلى تعليم مجاني للجميع)، ولكن أن يحصلوا على المقعد من خلال القبول الموحد مع الجميع، وإلغاء مقاعد “الموازي” بشكل كامل أو التخفيف منه، حتى لو كلّف ذلك الحكومة زيادة الدعم للجامعات فهي ضرورة قصوى، ووقتها نستطيع أن نقول أننا ننعم بشيء من العدل، وهو مجرد اقتراح قد يجد عشرات من أقرانه إن انتوينا أن نصلح آلية القبول في جامعاتنا.
ويبدو لي من السّذاجة القول بأن نظام القبول الجامعي البالي الذي نتّبعه لا دخل له بظاهرة العنف الجامعي التي تجتاح جامعاتنا الواحدة بعد الأخرى وبضراوة أشدّ مع كل مرة، فغياب العدالة سيقود بطريقة أو بأخرى إلى نتائج لا يحمد عقباها بل ويصعب السيطرة عليها إن استمرّت لفترة ليست بالوجيزة، وهذا موضوع آخر يحتاج سطورا كثيرة للبحث فيه.
إن من الضروري أن يكون هناك تغيير سريع وكبير في هذه القضية لنتدارك أمرنا قبل الوصول لمرحلة لا رجعة فيها أبدا، فالعدلَ العدل. وإن كنّا ندرك حقا معنى المواطنة، سنعلم كم هو أفضل للأردنّ، وكم هو أهمّ، أن تكون مقاعد الدراسة للعقول التي تستحق لا للأموال والأسماء.
بنظري، الطريق مظلم ووعر جدا ما دمنا نسكت عن حقوقنا وقد تفشّى الظّلم، وما دام مسؤولونا هم نفسهم، تتبدّل أسماؤهم ولا تتبدّل نواياهم ولا عقولهم. فعلّنا نغيّر ما بأنفسنا ونطالب بحقوقنا –إن أردنا خيرنا وخير الوطن -، فيُحدث الله بعد ذلك أمرا.
مجد السليتي
الجامعة الأردنية
كلية الطب