أجمل الذكريات هي ذكريات الطفولة، التي جمعت بين سخرية الحياة من عقولنا الصغيرة وبين أحلامنا الواسعة، هذه الذكريات التي عادة ما ترجع بزمننا الحاضر سنوات إلى الوراء حيث البراءة وصفاء النفوس.
ذكريات تحمل مشاهد كثيرة، في الحي والمدرسة، في الرحلات العائلية الممتعة، في كل زاوية من زوايا العقل والروح. هذه الذكريات لها ارتباط وثيق بتركيبة شخصيتنا وتأثيرها العجيب في نفسية كل إنسان، حتى وإن كان سيئًا ويفتقر لجزء من إنسانيته، فتأبى ذكريات طفولته إلا أن تُعيد إليه إنسانيته التي افتقدها.
كثيرًا ما أجدني أتذكر نفسي وأنا طفل صغير، وأحيانًا يكون هناك سبب يستدعي ذلك، وفي أحيان كثيرة دون سبب معلوم، لكن في الحالتين أشعر بغبطة وسعادة، وأتمنى لو عاد بي الزمن إلى الوراء، لكن غالبًا ما أتذكر ألعاب وشقاوة الطفولة وبراءتها، ولكن من أطرف ما حصل لي كان في الصف الثالث ابتدائي حيث كنت الوحيد من بين أقراني الذي يلتزم بالحضور على الرغم من المرض.
كان يومًا مشهودًا ومعروفًا بحصة “التربية الإسلامية” طلبت منا المعلمة حفظ سورة “الكافرون” ولكن استعصى عليَّ ذلك، لسبب بسيط، هو كون السورة تحمل العديد من التكرارات التي لم أكن أتقن ضبطها، حاولت مرارًا و تَكرارًا في الليلة الماضية، لكن دون جدوى، فأخذتني نوبة بكاء، وارتجفت من الخوف الشديد، وقد لاحظت أمي ذلك، وحاولت تهدئتي ومساعدتي على تجاوز الأمر؛ فأخذت تحصي عدد المرات التي كررتُ فيها كلمة “الكافرون” وكلمة “أعبد”، ونصحتني بأن أبدأ من نفسي “لا أعبد ما تعبدون” وأتبعها بأنتم “ولا أنتم عابدون ما أعبد”…
أعجبتني فكرة أمي، وتمكنت من ضبط مضامين السورة نوعًا ما (أو هكذا خُيِّلَ إليَّ)، وقمتُ لأخلد إلى النوم وفي داخلي خوف من ردة فعل المعلمة إن أنا قمت بخلط “لا أعبد ما تعبدون” و “لا أنتم عابدون ما أعبد …”
أَطَلَّتْ خيوط شمس اليوم الموالي، جاء الصباح وقمت من فراشي بتكاسل شديد لم أعهده في نفسي من قبل، فأنا لم أكن معتادًا هذا الخمول قط، وبلغ الأمر حدًّا جعلني أعجز عن تناول وجبة الفطور بعدما أحسست بألم في معدتي (جراء القلق والخوف لكنني لم أدرك ذلك وأنا طفل).
على أية حال، ذهبت إلى المدرسة على مضض، جاءت حصة التربية الإسلامية، نادت المعلمة باسمي وكأنه نودي علي من أجل “الختان” وقفت وأنا أكاد أرتجف من الخوف، فقالت المعلمة: “هل حفظت سورة الكافرون؟” أجبتها وشفاهي تكاد تلتصق بعضها ببعض: “أجل يا معلمة لقد قمت بذلك..” فطلبت مني استظهارها، أغمضت عيني وأخذت في عرض السورة، وإذ بضحكة كبيرة من الخلف أرعبت داخلي، وتعالت بعدها ضحكات الجميع، حينها أدركت أنني قمت بخلط الآيات، قالت المعلمة وهي تبتسم، ألم تنتبه يا صغيري أنك قلت “قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا نحن الكافرون عابدون ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد” حينها أدركت أنني قمت بخطإ فَدْح فطأطأت رأسي، لكن المعلمة لم تقم بمعاقبتي، بل ابتسمت وقالت أنها أيضًا عانت من نفس المشكل في ضبط وحفظ السورة في صغرها، ومنذ ذلك الحين وسورة “الكافرون” حاجز يستفز ذاكرتي، حتى أنني كبرت وأصبحت طالبًا مجتهدًا في شعبة العلوم، لكن سورة “الكافرون” ظلت معادلة يصعب حلها، ويطل ذلك الخوف الذي اكتسحني وأنا أحفظها كلما تذكرتها…
لكن على الرغم من كل هذا، كان لهذه الذكرى الطريفة أثر طيب في نفسي بعدما كَبِرْتُ، حتى إنني كلما أتذكرها يضحك طفل صغير داخلي ببراءة، وبمجرد الإعلان عن موضوع قضية الشهر وجدتني أهرع إلى قلمي للكتابة عن هذه الذكرى اللطيفة