قضية الشهرقضية شهر 2/ 2018 “كيف يصنع التعليم هوية الطالب؟!”

المدرسة الدولية في إكستر: هكذا يعلمون اللغة ويسيطرون!

قديمًا قيل: “إذا عرفتَ لغة قوم أمِنتَ مَكرهم”. وعلى الرغم من أن هذه الحكمة القديمة ما تزال صحيحة إلى هذا اليوم ، إلا أن تعلم اللغات في عصرنا الحاضر يذهب إلى أبعد من مجرد التأمين ضد شرور ومكر قوم آخرين. وقد نشطت بلاد كثيرة لتعليم لغتها للراغبين من أبناء الشعوب الأخرى، وتتخذ من ذلك وسيلة لتنشيط السياحة، والتقريب بين الشـعوب لإرساء الإخاء البشري القائم على الفهم والمحبة. وفوق هذا وذاك، فإن تلك البلدان تتخذ من تعليم لغتها وسيلة لنشر حضارتها ونقل ثقافتها إلى الشعوب الأخرى.

بريطانيا واحدة من البلدان التي انتهجت تعليم اللغة سبيلًا لتحقيق عدة أغراض في وقت واحد. وفي مدينة “إكستر” تجربة رائدة تجسد ذلك النهج وتتمثل في المدرسة الدولية للغات. ومن الحكمة أن ننظر إلى تجارب الآخرين، وأن نستفيد منها. لهذا ننظر إلى المدرسة الدولية للغة في ” إكستر” ، عسى أن تمثل نموذجًا يحفز البلاد العربية على تنفيذ هذه الفكرة النيرة.

في عام 1955، وهو نفس العام الذي تأسست فيه جامعة “إكستر”، قامت سيدة تدعى ” د . م . بريانت” “Mrs. D. M. Bryant” بتأسيس المدرسة الدولية في ” إكستر” “Exeter “.  وكان الهدف من ذلك إرساء القاعدة لمجتمع دولي صغير، يتبادل الأفكار والآراء حول الأوضاع الدولية المختلفة، ويناقش الحلول الممكنة في جو من الحوار القائم على الاحترام المتبادل لأجناس الآخرين وعقائدهم ومذاهبهم. ووسط هذا الجو المثير للحماس والمفتح للأذهان، يتعلم طلبةُ المدرسة اللغةَ الإنجليزية. وتدريجًيا، وبعد درجة من الإتقان، تصبح الإنجليزية لغة الحوار والحديث لشتى الطلاب على اختلاف ألسنتهم الأم!

المبدأ الذي تأسست عليه المدرسة مبدأ رفيع لا يتعارض مع أيّ عقيدة دينية أو مذهب فكري، ولا يصطدم مع أيّ نظام سياسي أو اجتماعي.  فمن من البشر لا يحلم بأن يكون الإنسان قادرًا على لقاء أخيه الإنسان، والتفاهم والتواصل معه في جو من الاحترام والمحبة؟! والهدف الذي تسعى المدرسة لتحقيقه، وهو تعليم اللغة الإنجليزية ونشرها، لا غبار عليه كـذلك. فالناطقون بأيّ لسان يودون لو أن البشر تكلموا بنفس لسانهم. ثم إن الإنجليزية هي لغة الحضارة المهيمنة في عالم اليوم. وفي نشر الإنجليزية تيسير على الشعوب الأخرى لأن تنهل من معين حضارة اليوم.

ولكي لا يثير الكلام عن لغة الحضارة جدلًا من أيّ نوع، فإننا نسرع إلى بيان أن التاريخ زاخر بالأمثلة الدالة على سيادة لغة الحضارة المهيمنة في أيّ عصر من عصور حياة الإنسان على الأرض. فيوم هيمن الرومان سادت لغتهم، وتأثرت بها سائر الشعوب التي ارتوت من حضارتهم. ويوم ارتفعت راية الحضارة الاسلامية، انتشرت اللغة العربية وسادت بين الشعوب الواقعة تحت هيمنة تلك الحضارة. واليوم تهيمن حضارة الغرب على المعمورة، فلا غرو أن تسود اللغة الإنجليزية، وهي لغة الحضارة المهيمن.

فإذن مبدأ تأسيس المدرسة لتعليم اللغات مبدأ رفيع، ومعمول به حول العالم، لكن هذه المدرسة تتبع طريقة ومنهجًا متميزًا في تعليم اللغة، يتجاوز مجرد إفهام القواعد وتراكيب الجمل، لغرس فكر في رؤوس المتعلمين، وغمرهم في ثقافة على مدى سنوات دراستهم، تصبغهم صبغًا وتؤثر فيهم تأثيرًا يستحق الوقوف عنده، والتأمل فيه، للتنبه لخطره من جهة عند الإقدام على تعلم اللغة تعلمًا لا يضع الهيمنة الثقافية في الحسبان، وللإفادة منه في مناهج تعليم لغتنا العربية بما يتجاوز فصولًا أشبه بمحو الأمية أو تلقين الألفبائية!

ويقوم التقرير على 3 نقاط:

– نظام الدراسة وفصولها.

– المعيشة والسياحة.

– الهدف الأكبر وراء تعليم اللغة.

فصول الدراسة:

من الواضح للوهلة الأولى أن تدريس لغة ما، أمر يختلف عن تدريس باقي المعارف الإنسانية.  فالتعامل في هذه الحالة لا يكون مع مجموعة من الطلبة في نفس العمر، يدرسون منهجًا محددًا في علم من العلوم.  إنما التعامل في هذه الحالة مع أعمار مختلفة، في مستويات وقدرات متفاوتة.

من جهة أخرى، فإن المدرسة الدولية في ” إكستر” تختلف عن المدارس التقليدية في أيّ بلد من البلدان، من حيث أن طلبتها خليط من جنسيات متعددة من البشر. إذ يقدر أنه في أيّ وقت من الأوقات يكون هناك طلبة من ثلاثين جنسية مختلفة على الأقل! وطبيعي أن لكل طالب من الملتحقين بالمدرسة خلفياته الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية.

إلإ أن هذا التفاوت في الخلفيات والخبرات الماضية لا يعتبر عائقًا عـن الالتحاق بالمدرسة، بقدر ما يعتبر من أسباب توفير جوٍّ فريد للمدرسة.

نظام الدراسة في المدرسة الدولية

عندما يلتحق طالب بالمدرسة الدولية، يُجرى له اختبار بسيط لتحديد مستواه في اللغة الإنجليزية. وبناء على المستوى وليس على العمر، يلتحق الطالب بفصل المبتدئين أو المتوسطين أو الجيدين. لهذا فإن الفصل الواحد يمكن أن يجمع طلبة من ثلاثة أجيال أو أقل أو أكثر في نفس الوقت!

وتعتمد مادة التدريس أو المنهج، على نماذج مختارة من اللغة الإنجليزية، تعكس حضارة الإنجليز وتاريخ آدابهم. بتعبير آخر، فإن اللغة هي القالب الذي يتعرف الطالب من خلاله على تراث هذه الأمة، إنها فكرة ذكية بأيّ مقياس!

فقد تحتاج إلى عشرات الساعات لإقناع إنسان أو إغرائه بقراءة شيء عن تاريخك أو مطالعة شيء من تراثك! ولكنْ من خلال تعلم لغتك، تستطيع أن تقدم له ما شئت من تاريخك وعن تراثك! ووقتها يقبل الطالب ذلك دون محاولة إقناع، ودون جهد للإغراء!

ولكي يكتسب الطالب اللغة فعلًا  ولا يرجع إلى داره صفر اليدين، فإن طبيعة الدراسة في الفصول جادة. والمدرس في المدرسة الدولية قدوة للتلاميذ من حيث تمكنه من اللغة، ومن حيث نطق ألفاظها نطقًا صحيحًا. والفصول مزودة بأجهزة تعليمية حديثة، تتيح للطالب أن يستمع إلى نماذج مسجلة من اللغة الإنجليزية، ليحاول تقليد طريقة النطق وإجادة مخارج الألفاظ.

في المدرسة الدولية في ” إكستر”، يكون التركيز على لغة المحادثة اليومية. ولا يعني هذا إغفال دراسة قواعد اللغة، أو التدني بمستوى اللغة التي تدرس. وإنما الهدف من هذا، تفادي تشويش عقـول المبتدئين بالمصطلحات الخاصة بشتى العلوم. إذْ من الصعب على غير المتمكن أن يفهم – مثلًا- لغـة الاقتصاد أو القانون أو الطب.

على أيّ حال، فإشباعًا لحاجة من يريد دراسة علم من العلوم باللغة الإنجليزية، أنشئت في عام 1977 كلية اللغة في ” إكستر”.  وهي متممة للمدرسة الدولية، إذ تبني على ما سلف ووضعت قاعدته المدرسة الدولية. كما أن كلية اللغة تمنح شهادات دراسية بإتمام منهج معين في اللغة، يمكن الطالب من الدراسة العليا باللغة الإنجليزية.

فصول الدراسة مفتوحة طول العام. والدراسة تناسب ظروف أيّ طالب! إذْ يمكن أن يدرس أيّ طالب لمدة تتراوح بين خمسة أسابيع إلى عام كامل! ويستطيع الطالب الالتحاق بالمدرسة في أيّ وقت من العام!

المعيشة والسياحة:

إذا أريد لمشروع مثل المدرسة الدولية للغة أن ينجح، فلا بد من تهيئة ظروف معيشية جيدة للطلاب .  لهذا تأخذ المدرسة على عاتقها توفير سكن لائق للطلاب.  صحيح أنها لا تدفع إيجار المسكن للطلبة، لكنها تحرص على أن يكون كل طالب مستريحًا في المسكن الذي ينزل فيه.  وعادة يكون السكن في غرف المدينة الجامعية في فصل الصيف، حين يكون طلبة الجامعة في إجازتهم السنوية.

أما في بـاقي العام، فيكون السكن مع عائلات إنجليزية ترغب في سكن طلاب معها.  وتقوم العائلة بالسهر على شؤون الطالب، فتعد له الطعام، وتغسل له ملابسه، وتنظف له غرفته. ( بعض الطلبة يفضل القيام بنفسه بهذه الأعمال، لتفادي دفع أجر إضافي نظير هذه الخدمات ).

وتتدخل إدارة المدرسة بصورة مباشرة لحل أيّ مشـكلة معيشية تعتـرض أحد طلابها. وكمثال على ذلك، فإن طالبًا مسلمًا من دولة الإمارات العربية اشتكى من أن الأسرة التي يقيم معها تقدم له أطعمة تحتوى على لحوم غير مذبوحة على شريعة الإسلام. فخيرت إدارة المدرسة تلك الأسرة بين واحد من ثلاثة حلول: إما أن تقدم للطالب الطعام الذي يريده، وإما أن ترد له نفقة الطعام ليأكل ما يشاء حيثما يشاء، وإما أن تجد المدرسة مسكنًا آخر للطالب يلبي احتياجاته!

على أن تفهّم الأسر الإنجليزية لدور المدرسة الدولية وحرصها على نجاح المدرسة، دفع الأسرة موضع النقاش إلى أن تقبل تقديم لحوم مذبوحة على شريعة الإسلام للطالب المسلم! وقس على هـذا المثال فيما يتعلق بشؤون المعاش.

وعندما يصل الأمر إلى حد السياحة، فهناك برنامج مدروس بعناية، وينفذ بنظام وإخلاص، لتعريف الطالب على تاريخ هذه الأمة على الطبيعة، دون إغفال الطابع الترفيهي، للترويح عن الطلاب وإدخال البهجة على قلوبهم.

ومما يعين على نشاط البرنامج السياحي للمدرسة الدولية، الطبيعة التاريخية لمدينة ” إكستر” من ناحية، والموقع الجغرافي من ناحية ثانية. فمدينة ” إكستر” واحدة من أقدم المدن الإنجليزية. وما تزال آثار الغزو الروماني متناثرة هنا وهناك في المدينة، كما في سور المدينة القديم والقلعة. وهناك متحف صغير ملحق بالقلعة يحكي بالآثار تاريخ المدينة، وقصة غزو الرومان لها.

ومن حيث الموقع الجغرافي، تقع ” إكستر” في جنوب غرب إنجلترا  وهذا الجزء من البلاد يتميز بطبيعة خلابة، يجعل منه المنتجع الذي يهرع إليه كل من أراد أن يمتع نفسه بسحر الطبيعة. وتبعد ” إكستر” عن شاطئ “القنال الإنجليزى” “English Channel” مسافة صغيرة، مما يجعلها مثالية لمن أراد أن يجمع زرقة الماء إلى اخضرار المزارع والحقول. ثم إن المدينة هي العاصمة الإدارية لمقاطعة “ديفون” “Devon County”، مما يزيد من أهمية “إكستر” ومن نشاط حركة الحياة اليومية فيها. كما أنها زاخرة بالعديد من المحال التجارية التي تلبي الحاجات الشرائية المختلفة.

لماذا كل هذا الجهد لمجرد تعليم (لغة)؟!

البداهة تقتضي أن تكون أهمية اللغة معروفة للجميع. إلا أن واقع الحال يكشف غير ذلك! وكيف تكون أهمية اللغة معروفةً وقد وصل التفريط في لغتنا إلى الحد الذي جعل تراثنا غير مقروء؟!  فالتراث العربي أعجمي ( غير مفهوم ) للأكثرية العظمى من العرب!

ولا بد والحال كذلك من التنويه إلى أهمية اللغة. اللغة – كما يفهما أكثر العرب المعاصرين – وسيلة تفاهم وتخاطب فحسب!  لذلك تقتصر المعرفة اللغوية على مجرد اكتساب اللهجة المحلية السائدة في بيئة ما، والتي تؤدي غرض التفاهم والتخاطب فحسب! فهل هذا هو الدور الوحيد للغة في حياة الإنسان؟!

قبل أن تكون اللغة وسيلة تفاهم وتخاطب، فإنها أداة العقل ومادة التفكير. هل يمكن أن يفكر إنسان بغير كلمات؟!  هل يستطيع عقل التعامل مع غير المسميات؟!  الجواب بالقطع لا.

لكنْ ما أهمية أن تكون اللغة مادة التفكير؟

أهمية ذلك تكمن في أن الفكر لا يرتقي إلا بارتقاء المادة الخام التي يتكون منها: اللغة!

ارجع إلى سجل المفكرين على مر العصور تجدهم جميعًا من جهابذة اللغة – بغير استثناء واحد! دانت لهم المادة الخام ( اللغة ) فصاغوها أفكارًا اهتدت بها البشرية في مسيرتها الطويلة عبر التاريخ. وعلى ذلك فإن إتقان اللغة ضرورة لازمة لإثـراء الفكر والارتقاء به إلى المدارج العليا. كذلك فإن سطحية اللغة لا تنتج إلا فكرًا ركيكًا ممسوخًا.

بعد صياغة الفكرة في العقل، يأتي التعبير عنها بالكلام أو التدوين.  والتعبير درجة أعلى من مجرد التفاهم والتخاطب. والعرب القدماء كانوا يعدون حسن التعبير من المعايير الأساسية لتقييم الإنسان. فمن أقوالهم المأثورة: ” المرء بأصغريه قلبه ولسانه”!  فالقلب بما يحوي من إيمان يصبغ السلوك ويوجهه. واللسان بما ينطق من بيان يعكس مستوى الثقافة ودقة التفكير وجمال التعبير.

وليس من قبيل الحشو الأجوف أن نذكر هنا أن علم الاجتماع يربط بين المعايير الأخلاقية والاجتماعية السائدة في مجتمع ما،و بين مستويات التعبير المتاحة لشرائح ذلك المجتمع! وليس أدل على ذلك من أن معيار تقييم الإنسان كان بأصغريه، يوم كان العرب يتبارون فصاحة وبلاغة وحسن تعبير. ثم تدهورت اللغة فتدهور المعيار تبعًا لذلك، فصار يقيـم الإنسان بضخامة جسمه أو أناقة ثيابه أو وجاهة منصبه أو وفرة ماله أو فخامة أثـاث بيته أو سعة ضيعته، أو غير ذلك من المعايير الهزيلة التي لا تصلح أصلًا لتقييم الإنسان!

واحترام الإنسان للغته جزء لا يتجزأ من احترامه لنفسه واحترامه لقومه. ودليل ذلـك من التاريخ العربي العبارة المشهورة لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان: “شـــيَّبنى صعودُ المنابر والخوفُ من اللَّحْن”! فخشية أمير المؤمنين من الخطأ اللغوي وهو يخطب في الناس جعلت الشيب يزحف إلى رأسه قبل الأوان! وهذا نموذج فريد في احترام اللغة وفي احترام عقول الآخرين، يعز نظيره في التاريخ العربي الحديث!

وقبل كل هذا وبعده، فإن اللغة هي الوعاء الحاوي لكل معارف البشر وثقافاتهم وخبراتهم. وهي السـجل الذي يمثل للجنس البشري ما تمثـله الذاكرة للإنسان الفرد. وصحيحة تلك الحكمة العربية القائلة: ” كل إناء بما فيه ينضح”.

فـلو اختزنت في الإناء فكرًا سليمًا ولسانا قويمًا فذاك ، وإذا أودعته غيـر ذلك فهل تلوم الإناء على ما نضح ؟!

ثم إن الناظر في تاريخ الأمم بإمعان وتدبر يخلص إلى أن الأمم تذوي والحضارات تذبل يوم تذوي اللغة وتذبل.  ودليل ذلك أنه لا توجد بين سائر لغات البشر اليوم لغة حضارة واحدة من تلك التي ذوت وطواها الزمن.

الآن يثور سؤال: ما هو الهدف من كل هذا الكلام عن أهمية اللغة؟! الجواب يكمن ببساطة شديدة في إثارة حَميّة العرب لانتشال لغتهم من وَهْدَتِها، وبعثها من رقدتها، ونفخ الروح فيما بقي من جَذوتها. فإننا إذْ نعرض فكرة المدرسة الدولية للغة الانجليزية في “إكستر” كنموذج يحتذى، وكفكرة ذكية جديرة بالتنفيذ في بلاد العرب، فإن سؤالًا كبيرًا يقفز في معرض الحديث ليفرض نفسه بإلحاح: كيف يمكن أن ينشر العربُ لغةً لا يتكلمونها، إلى أقوام آخرين؟!

زر الذهاب إلى الأعلى