الأدبصوت الطلبة

المشتل

أثناء إقامتي بالمدينة الجامعية بمدينة المنصورة كنت أحب أن أتريض ليلًا وحدي بالجامعة أمتع ناظري بجمال مساحاتها الخضراء خلف كلية الهندسة وأمام صيدلة وأيضا تجارة وحقوق جنائن خضراء جميلة أجد فيها متنفس، وأخلو بنفسي تاركا لها مساحة للتأمل فيما حولي من جمال صنع الخالق الذي أحسن كل شئ خلقه.

و في يوم من الأيام كنت وحدي بغرفتي في المدينة وقررت النزول للحرم الجامعي لتغيير الجو واستنشاق بعض الهواء، كان الوقت وقتها إمتحانات نصف الفصل الدراسي الثاني.

تجولت قليلا داخل الجامعة ثم خرجت لأشتري بضع الحاجيات كان منها فول ولب من مقلى متاخم للجامعة اعتدت أن أشتري منه وعدت بعدها لداخل حرم الجامعة أتجول إلى أن وصلت لإستراحة منفذ بيع منتجات كلية زراعة، جلست لاستريح قليلا ولأتمتع بجمال منظر الجامعة ليلا، أحدث نفسي قائلا: حقا هي مختلفة تمام الإختلاف عنها نهارا يملؤها الصخب والضوضاء الناتجة من أصوات الطلبة، أشعر بأنها قصر قد شيد لي وحدي أتجول فيه بحرية متى شئت ليلا وأنعم بمساحاته الخضراء. فجأة و أثناء جلوسي شاردا أحدث نفسي بهذا الحديث، ظهر أمامي شخص هيئته توحي بالغرابة، ليس ذلك فحسب بل هي مدعاة للخوف بل والرعب أيضا.

قلت لنفسي: من هذا؟! بالطبع هو ليس طالب! هيئته توحي بأنه ربما عامل قمامة ولا يمكن أن يكون فرد أمن ملابسه لا توحي بذلك كان يبدو طاعنا في السن ظهره محني من أثر ثقل الحياة و متاعبها ربما يعمل في الفلاحة وهذا سبب إنحنائه عيناه جاحظتان خارج مقلتيه بشده منظرهما مُرعب، يضع يداه خلف ظهره ويشبك أصابعه بعضها البعض، حركت ناظري حولي لم يكن أحد سوانا داخل الجامعة في هذا الوقت المتأخر، الساعة في يدي تشير إلى العاشرة و النصف، بصراحة ارتبت فيه و شعرت بدقات قلبي تنبهني بأن الأدرينالين الخاص بي قد بدأ في التدفق لرأسي وجميع أنحاء جسدي، ها هو أتى نحوي، ترى ما أمره وماذا يريد ؟ اقترب مني و ألقى التحية ولم ينتظر حتى ردي وجلس بجواري، رمقته بنظرات ريبة وشك ثم رددت عليه سلامه كارها – فأنا لم أكن وقتها في سلام داخلي ّ! – كان يجلس و ظهره محني للأمام بشدة ويرفع رأسه عاليا في السماء يتأمل ربما، بعدها علمت أن كان يتنبأ…يتنبأ بحالة الطقس…الذي كان وقتها معتدلا.

قال لي و هو يوجه ناظريه للسماء: “الجو هيقلب كمان شوية” عجبت جدا من قوله فليس هناك  أبدا أي بوادر توحي بذلك! قلت لنفسي: فلتلطف هذا الجو قليلا وتستميل ود هذا الرجل وتعرف قصته فلا بد أن لمثله قصة، وأنت تحب سماع مثل تلك الحكايات من أشخاص قد خبروا الحياة، مددت يدي  إليه بكيس اللب فأعرض و نأى…قائلا: السكر مبهدل سناني، السنة مخاصمة السنة، و مخالفاها في طريقها، مافيش سنة جنب سنة، حتى شوف و مد يده فاغرا فاه بها، و مشيرا لأسنانه المتخاصمة رغما عنها بسبب مرض السكري، أردف في حديثه: ولادي بيقززولي اللب لأني مش بعرف من سناني، و دا بيكسفني منهم! كل أنت يا أستاذ بالهنا و الشفا هوا أنت أسمك أيه؟ 

  • خبيب.  . . أسمي خبيب.
  • أيه أسمك أيه! … خوبير؟!!
  • لا لا .. خُبَيّب، بت معتادا على مثل هذه الأمور .. من يسمع اسمي  يستغربه وينطقه غالبا بصورة غير صحيحة… وأخيرا بعد أربع أو خمس محاولات نطقه: خوبيب.

لم أشأ إزعاجه أكثر من هذا بمشكلة نطق أسمي ..المهم الآن أن أسمع منه حكايته. 

سألته عن اسمه أجابني: أنا عم أحمد…

  • و أنت بتعمل أيه هنا يا عم أحمد!؟
  • أنا بشتغل هنا في مشتل كلية زراعة… ماسكه من سنة 92

صدرت مني ضحكة مفاجئة وقلت له: أنت بقالك هنا 20 سنة… أنت هنا من يوم ما أنا أتولدت… أنا مواليد 92 …

ضحك حتى بدت أسنانه المتنافرة… أنستني ضحكته خوفي منه، الذي كان قد بدأ يتسرب بداخلي…

 أخذنا نتحدث عن الجامعة قاصا هو حكايات عن أرض الجامعة قبل إنشائها والتي كان معظمها ملكا لعائلة البشبيشي باشا… وبعد ثورة يوليو 1952 تمت مصادرة هذه الأرض الشاسعة منه… و أصبحت ملكا للحكومة… أضاف أيضا: أن جده الأكبر الذي وعي عليه وهو صغير… كان فلاحا صغيرا يملك قطعة أرض… طلبتها منه الحكومة فأعطاها برحابة صدر… وقال وقتها أنه لن يبخل على الحكومة ولا على الرئيس جمال عبد الناصر… و لو إستدان لذلك… تجاذبنا أطراف الحديث، حدثته قليلا عن جدي ودراسته بالأزهر… وحصوله على شهادة العالمية…

فأخبرني أن والده أيضا تخرج من الأزهر بشهادة العالمية… و أنه كان زميلا للشيخ محمد متولي الشعراوي ليس ذلك وحسب بل صديقا مقربا منه… و له عدة صور يحتفظ به تجمع أبيه بالشيخ الشعراوي.

ترحمنا على موتانا… و ساد صمت للحظات… قطعه هو بسؤالي إن كنت أود رؤية المشتل من الداخل… لم أدر وقتها كيف لم أفكر ولو للحظة!؟ لو كنت فكرت لكنت استأذنت منه بأدب وانصرفت… لكني ولحسن الحظ  لم أفعل،  وافقته بدون تردد مبديا فرحة شديدة لأني سأدخل مكانا لم أره من قبل و لا يسمح لي بدخوله حتى وإن كان مكانا مخيفا في مثل هذا الوقت المتأخر… بمجرد أن نهضنا من مكاننا وجدت السماء قد تغير لونها و بدأت الرياح تهب على إستحياء، خلاف ما كان عليه الجو منذ لحظات…

حدثت نفسي بأن الرجل كان على صواب.. تحققت نبؤة عم أحمد…

إتجهنا ناحية المشتل… فتح عم أحمد قفل بوابته… ثم جذب السلسلة الطويلة الملفوفة على درفتي البوابة… ثم دفع الدرفة اليمين بيده فأصدرت صوتا بسبب قدمها… أقل ما يوصف به أنه مرعب وسط هذا الظلام… دخل ودخلت من بعده ثم أغلق البوابة من الداخل. قال لي: “تفضل بس خد بالك من التعابين”، وقتها أيقنت حجم ما أقترفته في حق نفسي من جرم… ماذا فعلت؟! لقد ألقيت بنفسي إلى التهلكة… ما يدريني من عم أحمد هذا… و من معه بالداخل… لربما يكن معه شخص أو عدة أشخاص… يتناوبون علي ويردونني قتيلا وربما دفنوني في أرض هذا المشتل… الذي ليس به صريخ ابن يومين… ماذا فعلت يا خبيب ماذا فعلت!؟

عاودني تصاعد الأدرينالين في خلايا دماغي… من جديد… و كدت أصم من صوت دقات قلبي المتسارعة… لم أجد بد من السير معه! 

تقدم أمامي و أنا أسير خلفه بالكاد متحسسا خطواتي، أنظر لقدمي فلا أرى شيئا فقط ظلام دامس يلُف المكان! ظللت أتحسس خطوات عم أحمد و أحذو حذوه… وأحاول أن أهدئ من روعي و أن أستمع لما يحكي لي من حكاياته لربما يهدأني ذلك ولو قليلا!  كان حديثه يدور عن مغامرته في المشتل على مدار عشرين عاما، فكم من مرة قتل ثعبانا كان يحوم بالمكان… و مرة من المرات كاد يموت جراء عضة ثعبان… لولا أن شخصا كان يعمل بجواره سمع استغاثته ونجده بأن حمله على الموتوسيكل… و قاده إلى المستشفى حيث تلقى المصل في الوقت المناسب..

و أنا استمع لكل ذلك .. ويزداد خوفي أكثر وأكثر… فلربما يتخفى ثعبان في هذا الظلام الدامس و يلدغني لدغة تودي بحياتي،.. يا الله ماذا فعلت بنفسي!

وصلنا للغرفة التي يقيم بها ..وجدتها عبارة عن تلفاز ومرتبة إسفنجية…خارج الغرفة كان يوجد كراسي خشبية وكرسي مُنجد فقط ، أشار إلي بالجلوس ثم أختفى، جلست على إحدى تلك الكراسي الخشبية أفكر وأنا في هذا العراء ومن حولي المزروعات والخضرة تلفني… ربما ذهب ليأتي بمن يعاونه في التخلص مني! إزدادت ريبتي و توتري أخذت أنظر حولي… وجدتني محاطا وملفوفا بالفضاء والأرض ممتدة من حولي وهذه الكراسي بجواري… ربما تأتي الضربة الآن من أي إتجاه و لن أستطيع التنبأ من أين تأتي… يا الله ماذا أفعل الآن! لقد علقت!

أتاني عم أحمد بطبق مليئ بالتوت البري اللذيذ الذي يترك أثرا باليد والفم بلون بنفسجي تصعب إزالته بعد أكله…

“كنت بقطفهولك لسه حالا  حاجة طازة بالصلاة ع النبي، أتفضل بالهنا والشفا”. أخذت ألقمها توتة توتة بدون غسلها حتى لم يكن ذلك مهما في وقتها، فقط أريد أن أنهي هذه الجلسة الودية وأنتهي منها و أغادر، لكن حس المغامرة عندي حثني على التريث والمكوث حتى أسمع قصة هذا الرجل.

أخذ عم أحمد يتحدث عن المشتل وما به من مزروعات نباتات وأشجار وأنه هو من يرعاها ليلا،  يبدأ دوامه من الساعة السادسة ليلا حتى الثامنة صباحا، مدة طويلة يقضيها رجل وحيدا في مكان مُوحش كهذا المكان، إنه يرى المشتل أكثر مما يرى أولاده. فكرت للحظة، وجدت أن هذا الرجل ميعاد عودته لمنزله هو ميعاد مدارس أولاده، وبالطبع هو يعمل يوم الجمعة، أي أنه لا يرى أولاده إلا بضع ساعات، سألني عن تقديري لسنه الذي كنت قد قدرته بمجرد رؤيتي له أنه ربما يجاور الستين أو يجاوزها، لكني أجبته بأني لا أدري كي أسمع منه…

قال لي أنه في التاسعة والثلاثين! كانت صدمة لي فهيئته لا توحي أبدا بعمره، ربما السبب في مرضه بالمرض العضال السكري الذي يسبب هلاك خلايا الجسد.

أنتقلنا بالحديث حول أمور الحياة والمعيشة وغلو الأسعار، حمد الله كثيرا وقال لي: “الأسعار بقت نار، اللحمة كانت بتدخل البيت مرتين في الشهر دلوقتي أصبحت لا تدخله وكأنها من المحرمات!”، ناولته بضع ثمرات من التوت اللذيذ فتناولها، ثم أردف قائلا: “المرتب بتاعي كان زاد بعد الثورة و رجع السنة دي نقص تاني، أصبح أقل مما كان عليه قبل الثورة!”.

حدثني عن أولاده بعدما سألته عنهم، قال: “عندي محمد في أولى إبتدائي ومحمود في خمسة و سحر في تالتة إعدادي”، و أكمل “ومراتي ست طيبة جدا و على نياتها”.

قلت له : ” الطيبات للطيبون يا عم أحمد “..

أبتسم حتى بدت أسنانه المتنافرة مجددا، و ظهرت لي تجاعيد وجهه التي لا تدل أبدا على سنه الذي كنت قد فؤجئت به حقا، لكن يبدو أنه قد لاقى كثيرا من صعوبات ومتاعب ملئت سنوات حياته الثلاثين، حكى لي عن معاناته في تجديد رخصة الموتيسيكل الخاص به ودفعه لرشاوي أكثر من مرتبه الشهري حتى أنه استدان لذلك.

نظرت في ساعتي وجدتها قد قاربت الثانية عشرة فتذكرت أن عندي في اليوم التالى إمتحان باكرا، وهممت بالرحيل شكرته على حسن ضيافته وكرمه، و استأذنته فى الرحيل حتى أعود للمدينة الجامعية واستعد للنوم.

 قال لي : ماشي يا أستاذ خوبيب أنا سعدت بيك جدا، و أسعد بيك في أى وقت تكون معدي فيه من جنب المشتل بس أقف جنب السور ونادي عليّ و قول يا عم أحمد هطلعلك على طول.

شكرته مجددا ووعدته بتكرار زيارته الممتعة حقا والخارجة عن نطاق المألوف و المعتاد، نهضنا من مجلسنا الفخم، و ذهبنا ناحية البوابة وفتحها لي مجددا. كان حالي و إحساسي هذه المرة مختلف عن سابقتها، كنت أحدث نفسي بأن الله قد أغدق علي في نعم لا تحصى ولا تعد، لكني أحيانا من غفلتي في طلب المزيد أنسى ما وهبني من عطايا، فالصحة والستر والصحبة نعم لا تقدر بكنوز الأرض ولو قايضتها بمال قارون.

طالب سنة رابعة – كلية الهندسة
جامعة المنصورة

زر الذهاب إلى الأعلى