خواطر باحثة علمية

النجاح… بالتمرد أم الخبرة؟!

عند الإشراف على أي طالب ماجستير من قبل طلاب الدكتوراة تكون المسؤولية مفخمة أمام البروفيسور المسؤول وكأنه نوع من الامتحان يكرم فيه المرء أو يهان، فهي إثبات لقدرة طالب الدكتوراة على وضع خطة مشروع لمدة ست أشهر، وتعليم طالب الماجستر مهارات جديدة، وكذلك تدريبه على حل لغز فشل التجربة بحنكة علمية  ذكية، ووضع طالب الماجستير على أول درجة من سلم العلماء. 

ولكنني لم أدرك هذه الأمور إلا عندما خضت تجربة الإشراف على طلاب ماجستير خلال دراستي الحالية كطالبة دكتوراة، وربما كان العمل الدقيق جدًا مع مشرفي Luo وخصوصًا ما ذكرته في الخاطرة السابقة وأثناء فترة مشروعي الماجستير لم يكن ليعطني وقتًا للتفكير واستخلاص هذه القواعد والتي أتبعها بحذافيرها مع طلابي الذين أشرف عليهم وهذا ما  جعلني أيضًا موضع تميز ضمن مجموعتي البحثية وأن تصلني رسائل شكر وامتنان من الطالبين الذين دربتهما وهم الآن في أول أيام دراسة الدكتوراة. 

تمرد

بدأت مشروع الماجستير مع مشرفي الذي كان هادئ جدًا في عمله، لم يكن من الطلاب الثرثارين، ولا يتكلم إلا بسبب وأكثر ما لفتني بجانب دقته العالية هو عدم اليأس في حال فشل أي تجربة. 

في أول تجربة بدأتها كان يراقبني بين الفينة والأخرى، وكان أحيانًا لا يعجبه بعض المهارات الصغيرة في العمل، فيقول لي: أنا أفضل أن تقومي بهذه الطريقة بالشكل التالي، في البداية رأيت كم هو مهذب بعرض طريقته حيث إنه لم ينتقدني بطريقة فظة كما عهدت من البعض، ولكن مع الوقت  وإحساسي أنه يجب أيضًا أن أثبت وجودي في مكاني بدأت أشعر بالغضب شيئًا فشيئًا، وقررت التمرد،  ففي مرة طلب مني أن أعيد تجربة كنت مقتنعة تمامًا إنني عملتها على أكمل وجه، فغضبت وقلت له: أنا تعلمت هذه الطريقة وهي صحيحة، فدعني أيضًا أثبت لك ذلك؟ 

نظر إلي ثم قال لي بهدوء: تمام، إعملي ما يحلو لكِ، وإنسحب. 

لم أدرك حينها أن هناك تفاوت في الهندسة الجينية بين طريقة وأخرى، أي نعم هناك أساسيات لكل طريقة ولكن الباحث الذكي عليه أن يطور بهذه الطريقة ويتفنن في تطويعها وتجميلها بما يتناسب مع متطلبات أي تجربة يقوم بها، أما الباحث الذي يريد فقط أن يعمل التجربة والسلام فعليه أن ينتقل من طريقة إلى أخرى مبذر في ذلك الكثير من الوقت والمواد. 

أنهيت التجربة بالطريقة التي تعلمتها من مختبر أخر عنادًا مني، لإنني أريد إثبات نفسي كعالمة مبتدئة في طريق البحث العلمي، ولكنني لم أكن سعيدة بالنتائج التي لم تطابق ما خططنا له أنا وLuo  وهنا أحسست بالخطأ الذي إرتكبته عندما جادلته بحزم وشعرت بأهمية وجوده إلى جانبي وأهمية نصائحه وملاحظاته الكثيرة وفوق هذا كله تعلمت شيئًا مهمًا: إنه لن تصل إلى النجاح إن لم تتعلم من خبرات الأخرين، فمهما كنت ذكيًا ومعتدًا بنفسك وواثقًا بما لديك من علم، إلا إن الاستفادة من خبرات الآخرين هي التي تصنعك. 

هنا راجعت نفسي وذهبت إلي المكتب وطرقت الباب وأنا أدور في عقلي ماذا أريد قوله، فتح الباب وعاد إلى مكتبه وعلى وجهه علامات الوجوم وقال وهو يشير إلى بالجلوس: لم تنجح طريقة المختبر الآخر..! ولو نجحت ما كنت هنا. 

أطرقت رأسي وأردت أن أتكلم، ولكنه تابع وقال: أنا أعلم إنك ذكية وواثقة من قدراتك وما تحملينه في رأسك من علم ولكن يا علياء هذا لا يكفي فأنا أيضًا وأنا مشرف على نهاية الدكتوراة، أنظر إلي خبرات الآخرين في أي تجربة جديدة أقوم بها وخصوصًا الباحثين العلميين الذي تتشابه بحوثهم ببحثي، وأسأل وأخطط وأخرج بمخطط لتجربة يوفر علي الوقت والمواد وعناء إعادة التجربة عشرات المرات، لإنني تمسكت بمبادىء الطريقة التقليدية، فعلم الهندسة الجينية واسع وما قد ينجح في مختبر قد لا ينجح لدينا، فالمشاريع مختلفة وظروف التجربة والخلايا وغيرها. فخلية القولون السرطانية لا تشبه في عملها خلية سرطان الجلد وهكذا. 

هززت رأسي سعيدة بما أسمع، وسعيدة أكثر بإضافة خبرات جديدة من نوع آخر ضمن جعبة الخبرات التي تعلمتها، والأكثر من ذلك كله إن هذا الموقف أثر في نفسي، وغيّر من طريقة تفكيري في معالجة الأمور على المستوي العلمي وكذلك الاجتماعي . 

لم يأنبني مشرفي لأن التجربة لم تعمل وإنني أهدرت يومًا كاملًا ومواد مكلفة، بل جعلني أشرح له ما عملت خطوة وخطوة وعندها أوقفني وقال: هنا كان الخطأ…  وعندها تعلمت أن حل مشاكل التجارب، يجب أن يبدأ خطوة تلو الأخرى ولا يجب أن نغير كل الخطوات والظروف جملة واحدة وهذا ما يسمي في البحث العلمي بـTroubleshooting

طالب اليوم… معلم الغد

لن أخفي عليكم عندما دربت أول طالب ماجستير في السنة الماضية وكان أيضًا يريد إثبات نفسه، وقال لي حرفياً : إنني أيضًا لدي خبرة وأستطيع عمل التجربة بدون توجيه .

 كنت هادئة تمامًا في ردة فعلي وقلت له: إعمل ما يحلو لك وتركته، مما أغضب زميلتي الألمانية الأخرى، وقالت لي: لا يجوز أن يتكلم معك بهذه الطريقة ويجب أن تقولي للبروفيسورة ذلك، قلت لها: لا عليكِ دعيه فهو أتى ليتعلم فدعيه يتعلم من أخطاءه. 

كم أنا مدينة إلى مشرفي في الماجستير Luo بالكثير والذي في نهاية المطاف كان فخورًا بالنتائج المبهرة التي حققتها في مشروع الماجستير، والذي نشر ضمن ورقتين علميتين لاحقًا ( الورقة الأولى ، الورقة الثانية ) وتعبتر هذه سابقة وعلامة مميزة ضمن مسيرتي العلمية وإثبات قدرتي وخبرتي العلمية.

علياء كيوان

طالبة دكتوراة في الأحياء الجزيئية وناشطة اجتماعية. مقيمة في ألمانيا، أم لثلاث أطفال، أعمل في بحوث السرطان، هوايتي الكتابة والقراءة، همي هو النهوض بالمرأة العربية في المجتمعات الأوروبية ويكون لها بصمة ومكانة، أسست مجلة المرأة العربية في ألمانيا وهي أول مجلة إلكترونية ناطقة باللغة العربية في ألمانيا تهتم بشؤون المرأة والأسرة العربية بشكل عام.
زر الذهاب إلى الأعلى