فكرة

تأهيل طلاب الهندسة المدنية والمعمارية.. منظور جديد من تجربة جديدة

المقدمة

تُعَدُّ مواضيعُ رَدْمِ الفجوة بين مخرجاتِ التعليم ومتطلباتِ سوقِ العمل بعض المواضيع والتحديات السائدة في قطاع التعليم، وهي التي ما تزال موضعَ جَدَلٍ ونقاش في الملتقيات التعليمية، ويغلب الرأي والنقاش على عدم جاهزية المناهج التعليمية لاستيعاب متطلبات سوق العمل، غير أننا نستطيع القول أن كثيرًا من قطاعات الأعمال متأخرة عن تطبيق أحدث ما تَوَصَّلَ له العِلْم، حيث يتخرج الطالب، ويدخل سوق العمل، ويضطر للعمل وفق آليات ومنهجيات باتت تعد تقليديةً لا تَمُتُّ لما تعلمه بصلة، ولعل الْمَخرَج من هذا التحدي هو تكافل قطاع الأعمال وقطاع التعليم لردم الفجوة الواقعة في القطاعين؛ فمن منظوري الخاص لا أستطيع أن أرجح كِفَّةَ التأخر لقطاع عن قطاع آخر؛ فالتعليم وسوق العمل كلاهما متأخر عن الآخر، بل يسيران في اتجاهات تُصَعِّب عليهما الالتقاء.

بصفتي خريجةً من تخصص الإدارة تعمل حاليًّا في قطاع الإدارة الهندسية أركز في هذا المقال -مِن تجرِبة شخصية- على قصور المؤسسات التعليمية للقيام بدورها في ردم الفجوة بينها وبين سوق العمل، ولعلي أفرد دور سوق العمل في مقال لاحق منفصل.

نعم للفرص غير التقليدية

فور تخرجي شرعتُ بالبحث عن فرص للتوظيف في مناصب إدارية بمختلف المسميات والدرجات الوظيفية لا سيما المستوى المبتدئ إلى المتوسط، في القطاع الأكاديمي تحديدًا، حيث كانت خبرتي المهنية في أثناء دراستي -بعمل جزئي- تصب في المجال الإداري الأكاديمي، حتى عُرض عليَّ العملُ في إحدى شركات الاستشارات الهندسية؛ لشغل وظيفة إدارية في إحدى المشاريع التي هي قيد الإنشاء، وحصلْتُ على فرصَةٍ أخرى لِمَنْصِبٍ إداري في مؤسسة تعليمية مرموقة، لم أتردد كثيرًا في اختيار عرض شركة الاستشارات الهندسية، إذ تُعَدُّ فرصةً قد لا تتكرر، ومن شأنها أن تضيف الكثير إلى الخبرة المهنية والشخصية والمعرفية على حدٍّ سواء لكثرة التحديات في هذا القطاع وصعوبته إلى جانب التنوع والتشعب القائم عليه.

الإدارة هي الإدارة بأدواتها وأساليب تطبيقها مهما اختلف القطاع، مع وجود فروق بسيطة يمتاز بها قطاعٌ عن آخر تؤثر في سير العملية الإدارية، كما أن الشغف بالإدارة يضفي الكثير إلى أساليب تطبيقها، غير أن التحدي كان في الإلمام بما يجب أن تجيد إدارته، أيًّا كان موقعُك الإداري في هذا القطاع: سكرتير، أو منسق، أو مساعد، أو تنفيذي، أو مستشار، أو مدير أو غيرها من المناصب الإدارية، وأعني هنا الإلمام بشيء من الأركان الرئيسة؛ لأي مشروع إنشائي ودور هذه الأركان ووقت تنفيذها خلال المشروع، وهذه الأركان يمكن حصرها في الإجراءات الحكومية والهندسة المعمارية والمدنية والجانب التِّجاري (التشغيلي) للمشروع، ومن ثَمَّ تفاصيل هذه الأركان، إلى حَدٍّ يسمح لك بأداء دورك على النحو المطلوب.

اعتَقَدْتُ في بادئ الأمر أن قراءة أرشيف المشروع سيساعد كثيرًا في فَك طلاسم هذا القطاع، غير أني وجدتُ ذلك غيرَ مجدٍ، ربما في الأشهر الأولى من العمل؛ إذ أنه كان من الصعب رسم صورة عامة لطبيعة هذا القطاع وكيفية سير العمل فيه، حيث كانت محتويات الأرشيف عميقة جدًّا تصب في أساس المشاريع وتشعباتها الكثيرة، لم أستنبط كثيرًا من تلك القراءات سوى أسلوب الكتابة وطريقتها في هذا القطاع سواء باللغة العربية أو الإنجليزية؛ إذ أنها تتخذ نمطًا واحدًا يبدو جليًّا مع تَكرار القراءة بمختلف المشاريع، الكثير من المصطلحات كانت محطَّ استفهام، والآلية التي يعمل بها هذا القطاع كانت الاستفهام الأكبر، مع محاولات المهندسين وغيرهم من الإداريين العاملين-مشكورين- لشرحهم لي بما يتيسر لهم من وقت، وبما تلزمك المواقف لطرح تساؤلات من شأن أجوبتها أن تكون جزءًا من فهم الصورة العامة.

ثم اتجهت للاطلاع على الخطة الدراسية لطلاب الهندسة المدنية والمعمارية لأرى ماهية المواد الدراسية التي يدرسونها خلال المرحلة الجامعية وإذ بها “من كل قطر أغنية” إن صحَّ التعبير! مجموعة من المواد المتفرقة غير مرتبطة بعضها ببعض أو مجموعة من المواد المترابطة التي تركز على جانب واحد أو مرحلة واحدة من تطبيقها في الحياة المهنية وسوق العمل، لم أجد المناهج الجامعية ملجأً لي لفك طلاسم هذا القطاع أو لوصل المعلومات التي أحصل عليها من الموظفين العاملين فيه، حتى وجدتُ كتابًا باللغة العربية مُعَّدًا خصيصًا لفهم قطاع الإنشاء من الألف إلى الياء، وكتابًا آخر يرشدك لكيفية بناء منزلك من الألف إلى الياء من إنتاج وزارة البلدية التابعة لإحدى الدول العربية، وأشيد هنا بدور اللغة الأم في فهم العلوم المختلفة. وأعني من الألف: من تعيين المصمم ووضع فكرة المشروع على الورق مرورًا بالتعامل مع الجهات الحكومية لإصدار الموافقات المطلوبة حتى مرحلة تعيين المقاول والبَدء بالتشييد والبناء وصولًا إلى الياء: إجازة المبنى وتشغيله.

هنا اكتملت صورة القطاع والأدوار المتعددة فيه بشكل مبدئي، هنا بدأتُ بربط وفهم ما يشاركني إياه المهندسون والإداريون في القطاع، مع ما أقوم به من مهام، هنا تبلورت معالم الإدارة وماهيتها ومنهجيتها، كان ذلك بعد ستة أشهر من بدء العمل.

جُزْءٌ مِنْ كُلٍّ

بعد ستة أشهر من العمل بدَأْتُ بالتساؤل عن حال من تخرج فعليًّا من كلية الهندسة بفروعها (مدني، كهربائي، ميكانيكي، معماري، …) بعد هذه السنوات ما حصيلة ما سيحمله معه لسوق العمل؟ وأخص هنا سوق المشاريع الإنشائية إذ أن هذه التخصصات جميعها تعمل مثل فريق تحت مشروع إنشائي واحد، وأجيب هنا بأنه سيحمل معه:

– الكثير من المشاعر السلبية التي تراكمت إثر معاناته لدراسة هذا التخصص بشكل غير ممنهج، ولست هنا بصدد الحديث عن هذه المعاناة مع روعة التخصص في سوق العمل كما رأيتُ.

– كما سيحمل معه الكثير من المعلومات التقنية غير المترابطة التي سينظمها له سوق العمل “بعد حين” بحسَب دوره وموقعه في المشروع الإنشائي وفهمه لمنظومة العمل القائمة في هذا القطاع التي لا تدرس في الجامعة إطلاقًا.

– وهنا مَرْبَط الفرس، فمِن الخطة الدراسية التي اطلعت عليها للهندسة المعمارية وجدتُ فيها التركيز على استخدام البرمجيات الخاصة بتصميم المشروع الإنشائي، ومواد نظريات العمارة والتصميم، والرسم الإنشائي، وغيرها من المواضيع التي لا تطرق بابًا لشرح مراحل التصميم وتفصيلها ودور المهندس المعماري في سوق العمل في أثناء تنفيذ المشروع لإجراء التعديلات التي يطلبها المالك على سبيل المثال لا الحصر، أو حتى قبل ذلك في مرحلة الإعداد لدخول المناقصة أو دوره بعد رُسُوِّ المناقصة لتطوير المفهوم التصميمي إلى مخططات ثم إلى التفصيل التصميمي أو دوره اللاحق في مرحلة الديكور الداخلي، وتداخل دوره مع أدوار المهندسين إجمالًا، أو التَّطَرُّق على الأقل إلى ماهية شركة الاستشارات الهندسية ومهامها وكيفية عملها بوصفها طرفًا فعَّالًا في المشروع.

كما أن الخطة الدراسية التي اطلعت عليها لتخصص الهندسة المدنية تخلو من مقرر واحد يشرح قطاع الإنشاء بالأسلوب المترابط الذي وجدتُه في الكتاب الذي أصدرته وزارة البلدية؛ حتى يفهم الطالب دوره بوصفه مهندسًا مدنيًّا في المشروع إلى جانب أدوار الهندسات والعناصر الأخرى ووقتها للبدء في المشروع، تركز الخطة الدراسية على مواد هندسية عامة قد تخدم مرحلة من مراحل المشروع ليس إلا (كاقتصاد الهندسة، هندسة القيمة، ميكانيكية المواد، مسح المواقع الإنشائية، العقود الهندسية، تصميم الهياكل الفولاذية، الهندسة الجيوتقنية، تصميم الخرسانة المسلحة، تخطيط وجدولة المشاريع، هندسة الطرق) وغيرها من المواضيع التي بموجبها سيقف خريج الهندسة كما وَقَفْتُ في الأشهر الأولى أحاول جاهدةً فهمَ القطاع ومعرفة عناصره الرئيسة وآلية عمله وكيفية تفاعل هذه العناصر مع بعضها: المالك، الاستشاري المصمم، الاستشاري المشرف، المقاول، مشرف إدارة المشروع، العقود، الموافقات والجهات المعنية، الجوانب المالية… وغيرها التي مِن بَعْدِها سيتضح لنا كيفية توظيف ما اكتسبناه من معلومات.

الجدير بالذكر هنا أن المعلومة الهندسية “التقنية” موجودة لا محالة سواء لطالب الهندسة الذي عرفها في أثناء دراسته أو لمن لم يدرس الهندسة كتجربتي، التي حصلت عليها- وإن كان ما يزال بالقدر المتواضع- من محيط العمل اليومي والاحتكاك بالمهندسين أو حتى الاستماع إلى مناقشاتهم والاطلاع على محاضر اجتماعات المشاريع الأسبوعية والتقارير المصورة من مواقع الإنشاء، لكن التساؤل هنا تحت أي ظرف قد تم تلقي هذه المعلومة، وكيف تم تطبيقها وترسيخها في ذهن المتلقي، وهذا يأخذنا إلى مدخل آخر وهو أهمية مدة التدريب الميداني ووقته ومستوى جودته أو التعليم التطبيقي المباشر وأثره.

الكتاب بالتزامن مع سوق العمل

خلال تجرِبتي في هذا القطاع لَمَسْتُ أثر قراءة المعلومة “المنظمة” وتطبيقها بشكل مباشر في العمل، أو على الأقل رؤية كيفية تطبيقها عن طريق الشخص المسؤول، أو توجيه تساؤل ما للمختصين في القطاع سواء لمن يعمل في المشروع نفسه أو المتواجدين على شبكة التواصل المهني LinkedIn في القطاع ذاته من مختلف الدول، كان لهذا الأثر لتسريع العملية التعليمية وتسهيلها وجعلها أكثر متعة وواقعية، وهنا أشير لمحورين مُهِمَّينِ للغاية، وهما: أهمية التدريب الميداني ووقته ومدته؛ إذ جرت العادة بأن يكون التدريب الميداني في السنة الأخيرة قبل التخرج لمدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر، الأمر نسبيٌّ بالطبع غير أنه من تجربتي وَجَدْتُ أن ثلاثة أشهر غير كافية للطالب للاطلاع على ما يحدث في مشروع إنشائي سواء شهد الطالب بداية هذا المشروع أو جاء إبان تنفيذه أو شهد نهاية المشروع وتحضيره للتسليم، لا بُدَّ للطالب الراغب للعمل في هذا القطاع بأن يطلع في أثناء مراحل دراسته المتوسطة حتى الأخيرة -بشكل مستمر- على كيفية سير المشاريع الإنشائية من البداية حتى النهاية، هذا من شأنه أن يسهل عليه تحديد وجهته التخصصية في هذا القطاع الواسع من جهة، وأن يفهم القطاع من جهة أخرى مع تعزيز وإثراء ما يتعلمه نظريًّا في القاعات الدراسية؛ فيكون جاهزًا لسوق العمل.

القراءة غير الممنهجة غير مجدية ومضيعة للوقت، والتدريب في وقت متأخر أو لفترة غير كافية ليس له أثر، لا بُدَّ من تنظيم المادة النظرية وربطها بتطبيق مباشر متكرر كافٍ في سوق العمل لتعزيز مخرجات التعليم، هنا فقط نستطيع القول بأن تعليمنا في هذا القطاع قادر على تخريج دفعات مجهزة فعليًّا مستعدة لسوق العمل بل تشجع سوق العمل لاستقطاب حديثي التخرج، إذ تَبَيَّنْتُ من خلال تجربتي السببَ وراء عزوفِ الكثير من الشركات عن توظيف حديثي التخرج؛ نظرًا لطبيعة المحيط المهني في عصرنا الحالي أيًّا كان القطاع –لا سيما قطاع الإنشاء- إذ يمتاز بسرعة تغيره وحاجته لمواكبة وإنتاج سريعَيْن، الأمر الذي يتعذر على حديث التخرج تحقيقه في وقت وجيز في ظل الظروف التعليمية الموضحة مع قلة ضمان استعداد الشركات لتوفير الوقت أو تخصيص من يدرب حديث التخرج لفهم القطاع ليلحق بركبه ويدخل في عداد الموظفين المنتجين.

زر الذهاب إلى الأعلى