فكرة

تاريخ تطوّر الإنسان الآلي: عون للبشر أم حرب عليهم؟

الآثار التي أحدثها دخول الكمبيوتر إلى كافة وجوه النشاط البشري في النصف الثاني من القرن العشرين، لا تقل أهمية عن الآثار التي أحدثها ابتكار طريقة تجارية لتصنيع ” البنسلين” في مكافحة الأمراض المعدية، ولا تقل أهمية عن اكتشاف التخدير واستعماله في حقل العلاج الجراحي. فكلها أمور أحدثت أصداءَ بعيدةَ المدى وآثارًا عميقة الغـور، وكلها – فيما يبدو من ظاهر الأمور – بات راسخًا في حياة الإنسان اليوم!

هل ينطبق هذا الكلام على “الإنسان الآلي”؟!

قد لا يبدو هذا ظاهرًا كفاية الآن، ولكن المستقبل سيأتي بتغيير جذري في قدر دور الإنسان الآلي، بحيث يمكن التنبؤ بأنه سيحتل مكانة شبيهةً بمكانة الكمبيوتر اليوم، وشبيهة بمكانة “البنسلين” في حقل الطب، وبالتخدير في حقل الجراحة!

ما هو التغيير الذي سيطرأ على الإنسان الآلي فيدفعه من وراء الكواليس إلى دور البطولة على مسرح الحياة؟! وهل يكون البطل القادم سببًا في سعادة الإنسان أم يكون مصدرًا لتعاسته؟! هذا ما نحاول التعرف عليه من خلال السطور التالية.

ميلاد الاختراع:

كانت النماذج الأولى من الإنسان الآلي قاصرةً من نواح كثيرة، لذلك لم يمكنها أداء عمل يذكر! كان ذلك في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات من القرن العشرين. أما مكان الميلاد فكان الولايات المتحدة. ثم انطلق الإنسان الآلي خطوة إلى الأمام مع تطور صناعة الكمبيوتر ، فأصبح في مقدوره أداء عمل روتيني محدد. وتتحدد طبيعة عمل الإنسان الآلي من خلال البرنامج الذي تختزنه ذاكرة الكمبيوتر. والكمبيوتر هو مخ الإنسان الآلي. ولأن العمل بسيط ومحدد، فإن الإنسان الآلي يستطيع أداءه بكفاءة عالية. وليس غريبًا والحال كذلك، أن يجد الإنسان الآلي مكانًا له في المصانع، حيث يوجد العمل الروتيني المتكرر.

والحقيقة أن الأجيال الأولى من الإنسان الآلي شغلت عدة مواقع في صناعات عديدة، وأثبتت كفاءتها في العمل بجدارة تفوق كفاءة الإنسان عدة مرات. فإذا طلب من الإنسان الآلي – مثلًا – أن يثقب قطعة من المعدن، تجده يفعل ذلك بدقة وسرعة تفوق دقة ابن آدم وسرعته! وهناك فارق آخر بين الإنسان الآلي وابن عمه الآدمي: فالأول – أيْ الآلي – لا يتعب من العمل مهما طال الوقت، بينما يكل الآدمي ويصيبه الإعياء إذا تجاوز عددًا محدودًا من ساعات العمل!

هذه الميزات التي يتفوق بها الإنسان الآلي على نِدّه البشري، هي التي دفعت المخترعين إلى الإصرار على تطوير تلك الآلة، وتزويدها بخصائص جديدة.

إضافة حواس:

أدى تطور صناعة الكمبيوتر إلى تشجيع التفكير في تطوير الإنسان الآلي، من مجرد آلة بسيطة تؤدي عملًا بسيطًا وفقًا لبرنامج الكمبيوتر في رأس الإنسان الآلي، إلى آلة متقدمة يمكنها جمع معلومات، والتصرف في موقف معين وفقًا لما تم جمعه من معلومات.
ولكي يتمكن الإنسان الآلي من جمع معلومات، لا بد من تزويده بحواس. وقد انصرف التفكير بادئ الأمر إلى الإبصار. ففي النماذج الأولى من الإنسان الآلي، كانت العيون عبارة عن خلايا كهربية حساسة للضوء. وبناءً على الإشارات الضوئية التي تستقبلها تلك الخلايا وترسلها إلى الكمبيوتر في رأس الإنسان الآلي، كان الكمبيوتر قادرًا على تحديد ما إذا كان الإنسان الآلي في مكان مضيء أو مظلم، وليس أكثر من ذلك. ثم تطورت حاسة الإبصار خطوة، حين تم تزويد الإنسان الآلي بآلة تصوير فيديو. أي أن “كاميرا فيديو” توجد في مكان العين. ووفقًا لهذا التطور، كان الإنسان الآلي قادرًا على رؤية الأشياء بدرجة أكبر من السابق. لكنه استمر عاجزًا عن تمييز الألوان، واستمر عاجزًا عن تفسير كل ما يرى!
وأطرف ما انتهى إليه البحث في هذا الشأن هو تزويد الإنسان الآلي بآلة تصوير مِجْسامية (أيْ تجسم الأشياء المرئية كما هي) “stereo camera”. كما أمكن تطوير الكمبيوتر في رأس الإنسان الآلي، بحيث يمكنه تفسير الصور التي تبثها آلة التصوير، بما في ذلك تمييز الألوان. أيْ أن عيون الجيل الجديد ليست ســوى آلات تصوير فائقة السرعة، ولديها القدرة على تجسيم صور المرئيات، يصاحب ذلك مخٌّ (أي كمبيوتر) متطور يستوعب المعلومات التي تستقبلها العيون.

Stereo Camera

على أن الخطوة المذهلة في سياق تطوير الإنسان الآلي، هي محاولة تعليم تلك الآلة الكلام، وتزويدها بحاسة السمع. وتحقيق ذلك، إضافة إلى التطور الذي حدث مع الإبصار، يعني أن الأعمال التي يمكن أن يقوم بها الإنسان الآلي سوف تكون متعددة ومعقدة. وهذا سيخرج بالإنسان الآلي من نطاق العمل البسيط المحدد، إلى مجالات كثيرة بالغة التعقيد والتنويع. وفي الوقت الحالي، تعكف كل من اليابان والولايات المتحدة على محاولة إنتاج كمبيوتر يفهم الصوت البشري ويجيب عليه. كما تبحث اليابان إمكانية إنتاج كمبيوتر مترجم يتلقى الأوامر بلغة ويجيب عليها بلغة أخرى! وإنتاج هذه الأنواع المتقدمة من الكمبيوتر سيقفز بالإنسان الآلي عشرات الخطوات إلى أمام.


أما تزويد الإنسان الآلي بحاسة اللمس، فلم يغب عن العلماء المهتمين بهذه الصناعة. وقد جرت محاولات كثيرة لتطوير حاسة اللمس في يد الإنسان الآلي ذات الإصبعين، بَيْد أنها لم تصادف كبير نجاح. وأحدث ما انتهت إليه المحاولات هو تزويد الأنامل (الأصابع) بدوائر كهربية صغيرة ذات تيار متغير. وحين تقترب أنامل الإنسان الآلي من شيء لقبضه، تتغير شدة التيار في تلك الدوائر. ويفسر الكمبيوتر في رأس الإنسان الآلي تلك التغيرات في التيار الكهربي ، فيفهم (أو يحس) أن اليد ستقبض على شيء معين!

تطوير الحركة:

في النماذج الأولى من الإنسان الآلي كان يتحرك على عجلات، وكان ينبغي أن يكون طريق الآنسان الآلي خاليًا ليتمكن من متابعة السير. فإذا ارتطم بشيء في طريقه، فقد يعجز الإنسان الآلي عن متابعة حركته، وقد يستغرق وقتًا لتعديل اتجاهه وتفادي الجسم العائق. لذلك كان لا بد من تطوير طريقة حركة الإنسان الآلي.

في الستينيات (من القرن العشرين) ابتكر مركز للأبحاث في الولايات المتحدة طريقة الساق الواحدة لحركة الإنسان الآلي. ولكنْ سُرْعان ما اتضح عقم تلك الطريقة، إذْ بدلًا من أن يتوقف الإنسان الآلي عن الحركة عند ارتطامه بجسم عائق – كما في طريقة الحركة على عجلات – فإنه ينكفأ على وجهه إذا ما ارتطم بعائق. ويؤدي ذلك إلى احتراق الآلة وتلف الكمبيوتر في رأس الإنسان الآلي.

ثم حصل تطور أدى إلى ابتكار الأرجل الستة للإنسان الآلي. وهذه الأرجل مزودة بمفصلات تقوم بعمل المفاصل في أرجل الإنسان الطبيعي! وعندما يتحرك الإنسان الآلي ذو الأرجل الستة، فإنه يرفع ثلاثة أرجل عن الأرضية، بينما يحفظ توازنه على الأرجل الثلاثة الأخرى. وقد استمرت طريقة الحركة على ستة أرجل لعدة سنوات، قبل تطويرها إلى الحركة على رجلين اثنين فحسب.

احتمالات المستقبل:

استخدام الإنسان الآلي في المنازل كان مقصورًا على أداء وظائف قليلة ومحدودة. لكن مع تطور تلك الصناعة، أمكن استخدام الإنسان الآلي في بيوت المعاقين (العجزة وذوى العاهات التي تقعد عن الحركة) لأداء عدد غير قليل من الأعمال التي يعجز عن أدائها المقعد. من ذلك فتح النوافذ والأبواب وإغلاقها، وتشغيل الأجهزة الكهربية مثل التلفاز وغيره، ونقل الهاتف إلى مكان جلوس الشخص المعاق، إلى غير ذلك من الأعمال.

والحقيقة أن تطوير الإنسان الآلي سيجعل منه آلة مثالية لمعاونة المعاقين من ناحية، وسيزيد من الأعمال المنزلية التي يمكن أن يؤديها من ناحية أخرى. فإضافة إلى الأعمال السالف ذكرها، فإن الإنسان الآلي في العقد التالي سيؤدي أعمالًا أخرى مثل حراسة البيت وحمايته من اللصوص، وإجابة الطارقين، واكتشاف الحرائق الصغيرة والإنذار عنها قبل أن تلتهم المكان، والإشراف على عمل الأجهزة المختلفة في المنزل مثل جهاز التدفئة المركزية. بل أكثر من ذلك، فسيمكنه تقديم مشروبات، وإعطاء دروس تقوية للأطفال، فضلًا عن تسلية الكبار والمقعدين وإلقاء الفكاهات عليهم!

ولن يكون الإنسان الآلي في العقد التالي حبيس المنزل. فهناك تجارب حالية لدراسة إمكانية استخدامه للتمريض في المستشفيات. وخلافًا لإمكانية استخدامه في خدمة المعاقين في المصحات وبيوت العجزة، على غرار ما ذكر من خدمتهم في المنازل، فإنه يحتمل أن يقوم بعدد كبير من وظائف هيئة التمريض خصوصًا في ساعات الليل. مثال ذلك تقديم الدواء، ونقل العيّنات من المرضى إلى المعمل، وإطفاء الأنوار أو إضاءتها وفقًا لرغبات المرضى، وإحضار مشروبات أو أطعمة، ومتابعة عمل الأجهزة المختلفة والإنذار عن أي عـطل فيها!

أما في المصانع، فسيلعب الإنسان الآلي دورًا أكبر في المستقبل. إذْ يمكن إسناد كل الأعمال الخطيرة على البشر إلى تلك الآلة العجيبة، فضلًا عن الأعمال التي تستنزف الجهد بسرعة، مثل نقل البضائع من مكان إلى آخر، والأعمال التي تتطلب تركيزًا ذهنيًا مستمرًا مثل تركيب شرائح السيليكون في كمبيوتر، وخلاف ذلك من الأعمال الكثيرة. حتى في مجال الترفيه، سيكون للإنسان الآلي دور مشهود. وحديقة “والت ديزني” المشهورة في الولايات المتحدة، تستخدم الإنسان الآلي منذ اليوم لأداء الأدوار المتكررة في المسرحيات الفكاهية التي تقدمها للأطفال!

إذا استمر تطور الإنسان الآلي على هذا النسق، واتسع نطاق استخدامه تبعًا لذلك، فلن يكون غريبًا أن يقوم الإنسان الآلي في المستقبل بتنظيف الشوارع، وتقديم الطعام في المحلات العامة، وبيع الصحف، وتحصيل التذاكر من المسافرين و…! بتعبير آخر، فإن الآنسان الآلي يمكن أن يقوم في المستقبل غير البعيد بمعظم الأعمال التي يؤديها البشر في الوقت الحالي!

والسؤال الذي يطرح هنا هو : هل سيكون الجيل الجديد من الإنسان الآلي عونًا للبشر أم حربًا عليهم؟! هل سيأتي لمعونة الإنسان أم لطرده من عمله؟! هل ســيزيد الإنسان الآلي من رفاهية البشر، أم ســيزيد من نسبة العاطلين عن العمل؟

سؤال نترك الإجابة عنه للأيام، متمثلين في ذلك قول طرَفة بن العبد:

ستبدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهلًا ** ويأتيكَ بالأخبارِ مَن لم تزوِّدِ

زر الذهاب إلى الأعلى