جذور الانفصام بين هويتنا ومناهجنا التعليمية: الإنسان والمعجم والمنهج
من نافلة القول اليوم إن مناهجنا التعليمية منفصمة غالب الانفصام عن أصول هويتنا، حتى إن أصول هويتنا صارت غائبة عنا متميعة في وعينا بحيث لا تطرح المناهج البديلة والمسارات الموازية للمناهج الرسمية حلولًا أصح جذورًا وإن بدت ألطف ظاهرًا.
ومن النماذج الرائدة في خطاب الهوية والانفصام الأستاذ محمود شاكر شيخ العربية، في كتابه “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”، وعبد الوهاب المسيري في “رحلتي الفكرية”، وعلى عزت بيغوفيتش في “الإسلام بين الشرق والغرب”. كل واحد من أولئك سلط ضوء النقد والتمحيص على معلم من معالم الخلل، التي بدون اتخاذ موقف جاد منها ستظل دائمًا ثغرة جذرية في إصلاح منهاجنا ومنهجياتنا، فندور في دائرة لا منتهى لها من إعادة تدوير نفس الأخطاء بنفس العقلية وتوقع نتائج مختلفة على ذلك!
شاكر: عن أدوات ما قبل المنهج
كتاب “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا” كان في الأصل مقدمة طويلة لكتابه “المتنبي”، الذي طبّق فيه الأستاذ شاكر منهجيته في التذوق الأدبي ومنهجيته العربية الأصيلة غير الملوثة.
شرح الأستاذ في تلك الرسالة استنكاره لفساد الحياة الأدبية فسادًا من كل وجه، وانبرى يبين مداخل ذلك الفساد وبؤره التي لوثت فهمنا لتاريخنا ولغتنا وثقافتنا، ونبه على إغرامنا المهلِك بالأخذ عن المستشرقين والمستعربين والترجمة لهم بسذاجة لا تعي ما وراء السطور ولا تستبين ما يقف خلف تلك الجهود من مساع استعمارية، فكريًا ونفسيًا.
وتقوم الثقافة في تعريف الأستاذ على ركنين:
1- “أصول ثابتة مكتسبة تنغرس في نفس الإنسان منذ مولده ونشأته الأولى حتى يشارف حد الإدراك البين”.
2- “فروع منبثقة عن هذه الأصول الثابتة المكتسبة بالنشأة. وهي تنبثق حين يخرج الناشئ من إسار التسخير إلى طلاقة التفكير.”
ومن هنا فلا بد من توافر “أدوات” لدى أي ممنهج قبل وضع منهج يعبّر عنه،وسمّاها “أدوات ما قبل المنهج” : اللغة والثقافة والهوى.
ويشرح كلًا بتفصيل مفاده أن اللغة هي اللسان الحاضن لبيئة فكرية لا مجرد حروف وأصوات مبتورة عن جذور بيئتها، والثقافة هي تلك البيئة بكل مكوناتها الفكرية والنفسية والوجدانية والذوقية .. إلخ، وأما الهوى فهو قاطع مزاعم الداعين إلى “التجرد البحت” وهو أمر خارج طوق البشر كما يعبر الأستاذ، إذ لا يمكن لأي كان التجرد على الحقيقة من أثر لغته وثقافته المكوّنتين له بالأساس، لأنها “معارف يؤمن بصحتها من طريق العقل والقلب”، ولا يستطيع الانفصام عن أهوائه “التي تستكين ضارعة في أغوار النفس وفي كهوفها”.
“والذي لا يملك القدرة على استيعاب هذه الدلالات وعلى استشفاف خفاياها، غيرُ قادرٍ البتة على أن يُنشئ منهجًا أدبيًا لدراسة إرث هذه اللغة، في أيّ فرع من فروعِ هذا الإرث، إلا أن يكون الأمر كله تبجّحًا وغطرسة وزَهوًا وغرورًا وتغريرا .”
بناء عليه، ينبغي أن نكون أكثر رسوخًا في ثقافتنا، وحذرًا عند الأخذ عن غيرنا ما ظاهره أنه “مشترك ثقافي”، لكن جذوره لا ريب منبتة المنشأ والصلة عن جذورنا ومناهجنا لأن لغتهم مباينة كل المباينة للغتنا، وكذلك ثقافتهم ودينهم مغايران لثقافتنا وديننا.
المسيري: الانفصال عن معجمنا الحضاري
من جهته، يرى المسيري أن أكبر آفات البحث العلمي في العالم العربي “انفصاله عن المعجم الحضاري الإسلامي”. ويعقّب كذلك على نفس مأخذ الأستاذ شاكر عن افتراض أن ثمة “معرفة عالمية” علينا أن ننخرط في دائرتها وننهل من معينها لنواكب الركب، متخففين أو متناسين تراثنا وهويتنا، لأنها ليست ذات تألق “عالمي” في منظومة الحداثة اليوم.
ويحكي عن تجربته في قسم اللغة الإنجليزية – وأقسام اللغات عامة حتى العربية – التي قضى فيها شطرًا من العمر بين كونه طالبًا ثم أستاذًا ثم مشرفًا:
“في أقسام اللغات ندرسها من وجهة نظر أصحابها، وهذا يعني سلبًا كاملًا للذات تسبب في تناقص ذكاءنا، إذ نحاول عن وعي أو غير وعي أن نستبعد هويتنا الحضارية ومعرفتنا العربية أو الإسلامية، وأي أدوات تحليلة مرتبطة بهذه الهوية [العتيقة]. وهذا الاستبعاد عملية قمع هائلة للذات تستهلك جزءًا كبيرًا من طاقة الإنسانية لإنجازها، ثم حتى وإن نجح في إنجازها فإنه يستهلك ما تبقى عنده من طاقة [للإقبال على ذاته]. فعلى الطالب أن يصفّي ذاته الحضارية [أولًا] حتى يمكنه البدء في الفهم والتحصيل على قدم من الندية، بدل أن تشكل ذاته أرضية يقف عليها لمقارنتها بالآخر!”
عندما يفوتنا الانطلاق من منظور عربي إسلامي راسخ الأركان والجذور والاعتداد، سيقبل الدارس على دراسة الآخر على أنه تشكيل حضاري ضمن تشكيلات أخرى، وليس “الـ” تشكيل المطلق الذي به وإليه تقارن الأخريات!
ويترتب على هذا الاعتداد الهوياتي أن “ننظر إليه براحة دون قلق” كما عبر المسيري، لأننا ندرسه كمتتالية حضارية تتسم بما تتسم به من سلبيات وإيجابيات، لا كتنزيل مقدّس غير قابل للدحض والمجابهة، اللهم إلا بسيوف من عجين غايتها ذر الرماد في العيون ليس إلا!
بيغوفيتش: الأنسنة والحضارة
كتاب بيغوفيتش يقوم بالأساس على مناقشة الفارق بين المنظومة الفكرية الإسلامية والغربية، وأثر كل منهما على مفردات حضارتيهما أثرًا متباينًا وأحيانًا متضادًا لدقيق النظر بعيد الفهم، بما يعكس خطورة الوعي بتلك الفوارق ومصيبة الانجرار وراء الثقافة العالمية التي تسعى للتذويب والتمييع لغيرها لتسود هي!
يشرح بيغوفيتش الفرق بين الحضارة والثقافة:
“الثقافة معنية بالتساؤلات الفردية عن الهوية والذات والوجود للوصول إلى الحقيقة الكبری، السر الوحيد الأكبر. هذه الحقيقة تعني كل شيء ولا شيء: كل شيء بالنسبة للروح، ولا شيء بالنسبة لبقية العالم. الثقافة تُنور، فتحتاج إلى تأمل، والتأمل جهد جَوَّاني للتعرف على الذات وعلى مكان الإنسان في العالم، وهذا ما يمنح قوة على النفس ويجعل الفرد أكثر سموًا وتهذيبًا.
أما الحضارة فمعنية بالتطورات على المستوى الجمعي ووظائف الذكاء من دراسة وبحث واختبار ومقارنة، لتطوير اختراعات وصناعة احتياجات. الحضارة تُعلِّم ، وتحتاج إلى تعلم جمع المعلومات عن الحقائق وعلاقتها بعضها ببعض، وهذا ما يمنح المجتمعات قوة على الطبيعة ويجعل الناس أكثر قدرة وكفاءة ونفعًا خدماتيًا. يمكن التمثيل لذلك سيمفونية بيتهوفن وأدب تولستوي في مقابل جاذبية نيوتن وقوانين جاليليو .”
وفي حين تبدأ الثقافة وتنتهي بالفرد وثرائه الذاتي، لا تعبأ الحضارة بتقليص الشخصية الفردية على حساب الكفاءة المجتمعية:
“المجتمع يأخذ قدرات الكل والإنسان كجزء في تناقص، لأن الثقافة في مفهوم الحضارة تنتمي للفئة القليلة التي تصنع البرامج. فوسائل الإعلام الجماهيرية تفصل الناس تمامًا إلى منتجين ومستهلكين لسلع ثقافية رخيصة بالجملة، ولهذا تقلص النشاط الفكري وتمحو النقدي لأنها تقدم حلولا جاهزة، ومن خلال التكرار الملح تخلق في الجماهير الشعور بأن الآراء المفروضة عليه هي آراؤه الخاصة.”
ويخلص بيغوفيتش بعد عرض فلسفي وبراجماتي لمظاهر الحضارتين، أن الحضارة ومظاهرها ليست في ذاتها شرًا محضًا ولا خيرًا محضًا، وإنما هي كمفهوم مجرد تخاطب احتياجًا ضمن أخريات لدى الإنسان. الحضارة تخاطب الجانب البيولوجي الطبيعي من الإنسان، فهي في ذاتها ضرورة من الضروريات كالأكل والشرب. لكن تغليب ماديتها على حساب روحها هو أصل كل الشرور، وعدم فقه الفارق في دور كل من الثقافة والحضارة في صناعة الإنسان هو سبب استمرار هذه الإشكالية على ما هي عليه منذ طرحها بيغوفيتش هذا الطرح عام 1994! وما نفع تقدّم الحضارة وتخلّف الإنسان؟ وهي جوهر أزمة العصر الأخلاقية على رفاهيته الصناعية والمادية والعلميةّ!
ومن ثم فأنسنة الإنسان بالعناية بجوانب التنشئة الذاتية والتهذيب الجواني والتزكية الباطنة، هي السبيل لاستعادة التوازن الحضاري الثقافي كما يليق ببيئة إنسانية:
“إننا لا نستطيع أن نرفض الحضارة حتى لو رغبنا في ذلك. ولكن الشيء الوحيد الضروري والممكن هو أن نحطم الأسطورة التي تحيط بها. وتحطيم هذه الأسطورة سيؤدي إلى مزيد من أَنْسَنة هذا العالم، وهي مهمة تنتمي بطبيعتها إلى الثقافة”.