صوت المعلم

حقيقة أثر المنظومة الدراسية على المدى البعيد [الجزء الثاني]

من الناحية النفسية

خير ما أعبر به عن أثر المنظومة الدراسية على هذه الناحية هو “الاستنزاف النفسي” . فهي تحتل وقت وفكر ليس الطالب فحسب بل كل دائرته القريبة منه، وتستنزف زهرة شبابه هو ووالديه معًا في “ساقية” تدور حول نفسها بغير عائد يساوي حجم هذه التضحية وحدها، كم من خلافات ومشاكل أسرية بسبب تلك المنظومة، كم من قهر نفسي وأمراض عصبية، كم من إهدار للأوقات والأموال بين المدرسة ثم الدروس الخصوصية بعدها، كم من تضييع للواجبات والأخلاقيات الدينية في سبيل فرص دنيوية!.

ومن ناحية أخرى، لأن المدرسة لا تقدم علمًا ولا تربية حقيقة، ينشأ الطالب لا إراديًا في عالمين موازيين، أو حياتين منفصمتين: الحياة المدرسية العامرة بالقوالب الجاهزة والنتائج المحسومة سلفًا، والحياة الشخصية حيث يحاول الوالدان – إذا فعلًا – تلقينه نظامًا أخلاقيًا ومفاهيم معاكسة لما تتطلبه البيئة الأخرى عند التطبيق، فكم من طفل يلقنه والداه ألا يكذب عليهما، ثم يشجعانه على الكذب على المدرس في عمل الواجب مثلًا أو ادعاء مرض للتغيب!، لا عجب أن مجتمعاتنا اليوم صارت مزدوجة المعايير، كل يريد أن يُعامَل بمعايير المدينة الفاضلة في حين يعامل هو الناس بخلاف ذلك!.

وفي غالب الأحوال تذوب الهُوية الثانية في الأولى حين ينفض الوالدن أيديهما من أمور التربية والتعليم باعتبار أن المدرسة تؤديها! وبذلك ينشأ فرد مدجّن، ينتقل طول حياته من قالب إلى قالب، كيفما تملي الأصنام الاجتماعية، لا معالم لشخصيته ولا طموح له ولا تطلعات خارج تلك القوالب الجاهزة: الابتدائية، الإعدادية، الثانوية، الجامعة، العمل، الزواج، مزيد من العمل، الإنجاب، مزيد من العمل، إدخال الأولاد للمدرسة، مزيد من العمل، تزويج الأولاد، الإحالة للمعاش؛ وتتكرر الحلقة المفرغة، مفرِّغة معها الفرد من روحه الفريدة وبصمته المتفردة، وهكذا بدأت سلالة القطعان الآدمية!.

والمأساة أن الدائر في تلك الساقية يبدأ دورته ممنيًا نفسه أن تأتي اللحظة التي يمكن عندها أن “يتحرر” ويبدأ أن “يحيا”، ولا يلبث في تلك المنظومة أن يفقد ذلك الحلم حتى يتبخر تمامًا على المراحل المتأخرة في الثانوية، أو يظل يتمنى ويصمد حتى يتخرج من الجامعة، فيفاجأ بصف قوالب جديد متراص أمامه، فيتضعضع ويستسهل اتباع آثار الأقدمين، على إنشاء أثره الخاص، إن مُعْتَرك الحياة العملية يمكن حقًا أن يمسخ شخصية المرء مسخًا إذا لم يكن أسّس بنيانه على قواعد صلبة، وأنّى له ذلك في خِضم كل ما سلف؟.

ما الرسالة؟

لا مفر من إدراك البون الشاسع بين حقيقة التربية والتعليم من ناحية والأثر المدمّر والمعاكس لكليهما في المنظومة الدراسية من ناحية أخرى، فإما سلوك سبيل التعليم المرن والتربية المنزلية الأصيلة ، وهو على مشقته وتحدياته أعظم ثمرة وأرجى فلاحًا، ليصنعوا نشئًا الفرد فيهم بأمة وحده، بدل الأكوام البشرية التي تخرّجها تلك المنظومات سنويًا، والفرد فيهم لا يعدو في الغالب فرديته، هذا إذا تمكن من الحفاظ عليها، فإن لم يكن ذاك فلا أقل من الوعي بما سبق ذكره مما يتطلب جهدًا مضاعفا من الوالدين، لأنهم في هذه الحالة يدفعون الطفل في عكس اتجاه التيار الذي وضعوه فيه.

وكما ذكرت في بداية المقال، هذه تجربة رأيت مشاركتها لمن شاء أن يستفيد، أمــا صورة الاستفادة ونوع القرار الذي قد ينجم عن الاقتناع بها، فهذا كله شأن شخصي، لكن تظل الحقيقة الخالدة أن كلًا حر في اختياره ومن ثم كل مجازى بعمله ، محاسب على عمره فيم أفناه وشبابه فيم أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعلمه ماذا عمل فيه.

وإنما الموفق من وفقه الله تعالى، ومن استهداه يهدِه.

هدى عبد الرحمن النمر

كاتبة ومترجمة ومحاضِرة ، في الأدب والفكر وعمران الذات . محررة لغوية ومترجمة . حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز ، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها
زر الذهاب إلى الأعلى