صوت الطلبةمن الجامعة

خريجو الثانوية العامة.. وياما في الحبس مظاليم!⁩

صديقي النملة.. تأكد تمامًا أنكَ ما دمتَ في بلدٍ عربي ستعيش فترةً البأسَ كلَّه بها، هذا مسلَّمٌ دون مجازفة، حياتك ليست لك، الذين هم مِن حولك أسيادُ تنبؤاتٍ وتوقعات؛ ونصيحتي إليك أن تؤمن بهم؛ فهم حتمًا سيتوقعون لك مستقبلا باهرًا، هم مبشرون بالأحلام الوردية، أما البقية من عمرك فهي بقية لك إن أردت المجازفة.

الأفكار المؤسسية وليدة التقاليد المجتمعية:

لا يتوقف تدخل المجتمعات في خيارات أفرادها وهم أطفال، بل يتعداه إلى مرحلة الشباب؛ فعندما يتخرج الشباب من الثانوية بنسب مرتفعة يسارع المجتمع بدفعهم للتقديم لكليات الطب والهندسة دون مراعاة شعورهم الداخلي الذي لم تؤثر فيه رغبات المجتمع وآراؤه؛ فنجد المئات ممَّن يدخلون كليات قوية كالطب، والهندسة والحاسب يعانون من تصارع نفسي بين رغباتهم ورغبات المجتمع، بينما تمتلئ الكليات الأخرى بألوف من الطلاب ممن تنازعهم أنفسهم للدخول لكليات الطب والهندسة، إلا أن حكم “النسبة الثانوية“ أو “الأفكار المؤسسية“ كان يقضي بأن هؤلاء ليسوا مؤهلين لدخول تلك الكليات.

 بينما إذا عدنا للواقع الحقيقي غير المزيف لوجدنا أنه (ياما في الحبس مظاليم) وأن الكليات التي تقبل نسبًا متدنيةً تزخر بطلاب هم أحق من غيرهم بدخول تلك الكليات “القوية“. هذا لا يعني –بالتأكيد– خُلُوَّ كليات الطب والهندسة والحاسب وغيرها من الكليات التي لا تقبل إلا نسبًا عالية ممن هم أهلٌ لها، ولكن المشكلة تكمن في أن هؤلاء وحدهم من يقدمون إبداعات تتجاوز مسمى وظائفهم، بينما يظل الآخرون يبرحون أماكنهم دون إبداعات تذكر.

لم يكن من الصعب عندهم الحصول على درجات ممتازة، ولا من الصعب على النظام أن يصنفهم، ولكنهم لم يعتبروا لعالم منقسمًا إلى قسمين؛ قسم العلوم والرياضيات، لأصحاب الدرجات الممتازة، وقسم الآداب والعلوم الإنسانية، للآخرين الذين لا يرغبون ببذل جهد يُذكر، ولا ريب أن هذا هو ما بدا لنا في تلك الأيام؛ فالعلوم البحتة “متفوقة“ على نحوٍ غير مفهوم على العلوم الإنسانية. أما الرياضيات فهي “سيدة المعارف“ جميعها، والنظرة الدونية للأدب والفلسفة، وكلاهما للذين لم يحصلوا على مقاعد في الكليات الأخرى.

في بداية المطاف كان من الصعب أن يسيروا ضد التيار؛ فبمجرد بدوِّ كشوفات درجاتهم “الممتازة“ قرر التيار أن يقذفهم قذفا آليًّا بالنيابة عنهم، ليدرسوا العلوم أو الرياضيات فعلًا، حتى لو كان قلب أحدهم يدق فرحًا بساعة التعبير في حصة اللغة العربية، أو لتذوق كلمة جديدة من الأدب العربي، أو حتى فن الرسم أو الموسيقا. على كل فقد تم تصنيفهم، هم في قسم العلوم، أولئك المحظوظون الذين يتوقف عليهم مستقبل البشرية.

عادةً عندما ننتهي من المرحلة الثانوية، يكون الأمر المنطقي الوحيد لمن هو مثلهم أن يدرس الطب مثلا أو الهندسة؛ لأن هذا هو ما يتوقعه الجميع منه. كانت إرادةُ أبي الإصرارَ على اللحاق اليسير بكلية الهندسة، لن أنسى يوم أن كانت رغبتي وقتها الالتحاقَ بكلية العلوم السياسية، لقد قلتُ له: هل هذا جزاء من يعاهدكم اسمُه في كشوف الامتيازات دائما وملءَ الجدران بالشهادات؟ ولعل الإجابة كانت تتلخص في.. مَن أنا لأخذلهم عندما يخبرني المعلمون وأفراد العائلة وأصدقائي بأنني مهندس المستقبل؟ مَن أنا لكي أشكك فيما يراه الجميع؟

باختصار، لا تجعل اسمك في كشوف الامتيازات يظهر، وإلا ستتأخر أحلامك –إن جازفت– صدقني.. إن استطعت أن تداري على شمعتك لكي تقيد، دارِ. وإلا ستقرر أن تدرس الهندسة، لكي تتجنب الإذلال العلني بتحولك إلى تخصصٍ أقل؛ لسانيات كانت، أو علم نفس، أو فلسفة أو –لا قدر الله– أدب ونقد. لا شك أنني كنت أرى رؤوس قومٍ تهتز أسفًا لو أنني –لا قدَّر الله– تخلَّيت عن أحلامهم الوردية بشأن حياتي. لا بأس.. لعله لا يكتشف محاولاته إلا متأخرًا كأمثال مارجريت تاتشر، وأرثر كونان دويل، ومهاتير محمد، والشيخ د. طارق السويدان، ولي إيكوكا. ذلك كما ذكرهم كتاب “عظماء بلا مدارس“.

فذكر أن هؤلاء قد وضعوا عقولهم رهنًا لحاجتهم هم، لا رهنًا لإشارات مجتمعاتهم، ولا فيما يعتقدون أنهم سيبدعون فيه، على الرغم من أنهم سلكوا الطريق الذي رسمه المجتمع لهم غيرَ عابثين في مدى توافقهم معه. “مارجريت تاتشر“، أول رئيسة وزراء في تاريخ بريطانيا، وأحد أشهر السياسيين البريطانيين عبر التاريخ كانت صيدلانية. الأديب “أرثر كونان دويل“ مبتكر شخصية المحقق “شارلوك هولمز“ كان طبيبًا. “مهاتير محمد“ رئيس وزراء ماليزيا السابق الذي له فضل عظيم في إخراج ماليزيا من ظلام العالم إلى رَكب التكنولوجيا والنمور الأسيوية، لم تكن دراساته بالاقتصاد ولا الإدارة ولا بالسياسة، ولكنه كان طبيبًا. الشيخ الدكتور “طارق السويدان“ الكاتب والإداري والداعية المشهور، عرفناه داعية، وكاتبًا، وأخيرًا مؤرخًا، ولم نعرفه بكونه مهندسَ نفط كما هو أساسًا.

ثم يأتي الكاتب بالسؤال؛ لماذا دخل هؤلاء تخصصات غير تخصصاتهم؟ ولماذا يضيعون سنينَ عجافًا من عمرهم في دراسة علوم يقررون في النهاية عدمَ الاستفادة المباشرة منها؟ يبدو أن ما حدث مع هؤلاء هو ما نمارسه اليوم مع أبنائنا، فعندما نريد أن نُشِيد بطفل نناديه “يا دكتور“ أو “يا مهندس“، وذلك تبعا لتفوقه الدراسي، فإذا ما حصَّل الطفل المعدلات العالية والعلامات بدأنا توًّا بزرع هذه القيم الخاطئة فيه، فيتولد عنده شعور بأن النجاح هو الطب والهندسة وأن الفشل ما سواهما.

 وهذا يتعدى الأسرة إلى المجتمع والمؤسسات التعليمية التي تسارع في تكريم المتفوقين دراسيًّا وهم الذين يطلق عليهم خطأ وبحُسنِ نية “الموهوبون“، بينما يتم تهميش باقي الطلاب على اعتبار أنهم غير موهوبين. إنما أعتبر تسمية المتفوقين دراسيًا بالموهوبين خطأً؛ لأن التفوق الدراسي –بمعناه الحالي– هو تفوقٌ بالحفظ وقوة الذاكرة لا بملَكات العقل وإبداعاته، فكمٌّ كبير من العظماء لديهم ماضٍ دراسي يشوبه الفشل؛ مثل “ألبرت أينشتاين“.

لذا فقدْ تبقَى الشهادةُ العلمية في تقديرِ أي جامعي أساسًا مؤقتا يعتمد عليه بعد عون الله عز وجل، ولكن الاهتمام الأساس على عقلية الإنسان، والجامعة الكبرى هي جامعة الحياة. أما وإذا كنا جادين فعلًا في محاولتنا تطوير مصادر الطاقة البشرية واستغلالها، فعلينا أن ندركَ حقيقة تنوع وتعدد أشكال هذه الطاقة، وهذا هو الطريق الذي يجب أن نسلكَه كي نفجرَ هذه الطاقات الإبداعية الكامنة سواءً في المدرسة أو في (المصنع).

حسام رمضان

طالب مصري بالهندسة المدنية، وكاتب معاصر يهتم بسلوكيات شباب جيله -شباب الألفية الثالثة-، باحث ومهتم بالشأن الأكاديمي ومنهجية وطرق التدريس عند المدارس النظامية والجامعات.
زر الذهاب إلى الأعلى