اقتباسات

خلف أسوار المدارس…مواهبٌ قيد الانتظار

خلف أسوار المدارس يقبع ذلك التلميذ الحالم بغدٍ أفضل متسائلاً في ذهول كيف وصلت إلى هنا وما الذي علي انجازه؟

خلف أسوار المدارس يقف تلميذ آخر متجولاً ببصره، نظراته تقول: هل هذا المكان يستحق أن أحلم به أم احلم بالهروب منه؟

خلف أسوار المدارس أرْواحٌ تبحر بعيداً، تترقب بلهفة فرصتها وتبحث في صمت عمّن يحتويها ويحتضن صراعاتها المريرة.

خلف أسوار المدارس تلاميذ كثر، يحملون في داخلهم طاقات وشحنات، تبحث عن فضاءات لتنفجر فيها معلنة للجميع نحن هنا، ثقوا بنا، آمنوا بنا وسنجعل الحلم حقيقة.
خلف تلك الأسوار هناك من يبحثون عن بطل، عن مُلهم يؤمن بقدراتهم ويشحذ هممهم ويعيش معهم الحلم حتى يتحقق، خلف تلك الأسوار هناك عملية تفاعلية تتم بين الأستاذ والتلاميذ يطلق عليها التعليم، والذي يهدف إلى تكوين أفراد متكاملين من النواحي النفسية والاجتماعية والأخلاقية، محوره الرئيسي هو قنوات الاتصال والتواصل، ومتى ما كانت هذه القنوات تعمل بطريقة سليمة ستحقق الهدف المرجو بالصورة المثلى، فالتعليم لا يقتصر على المواد والمقررات والمناهج، إنه أسمى من ذلك بكثير إنه الحياة التي نعيشها بكل ما فيها، وقبل أن نرسل ذلك الفرد خارج تلك الأسوار لكي يُطبّق ما تعلمه من مهارات وخبرات ليواجه مختلف تحديات الحياة، علينا أن نعلمه أن ما يعيشه الآن جزء أساسي من الحياة، ولا يقل أهمية عن العقبات التي سيجدها في طريقه فيما بعد، ولكي يتحقق هذا يجب أن نحلل نفسية ذلك التلميذ ونغوص في أعماقها لكي نفهمه -فالجميع كان تلميذا ذات يوم-.
تنطلق الرحلة من أول يوم، تُطل فيه على تلاميذك ومنذ أول حصة يُكوِّنون عنك انطباعاً لا يمكن إزالته بسهولة، الكثير من الأساتذة يبدأ الحصة الأولى بشرح مقرر المادة وفهرسها وأدواتها مع مراجعة خفيفة لدروس العام الماضي، ولا يضيف إليها أي جديد، هنا يدرك الجميع المطلوب منهم كالعادة، أن يدرسوا بجد لكي ينالوا علامات جيدة تؤهلهم للالتحاق بالطور الموالي وفقط، لنقف عند هذه النقطة، هل هذا هو السبب فقط؟ للأسف معظم التلاميذ لا يعلمون الهدف الأساسي من دراسة هذه المواد، هناك أسئلة مهمة وجب طرحها في الحصة الأولى، وهي التي ستحدد رؤية الأستاذ على المدى البعيد، لعل أهمها: لماذا تدرس؟ ما الذي ستستفيده من هذه المادة في حياتك اليومية؟ هل تدرك علاقة المواد ببعضها؟ هل ما تدرسه هنا كافٍ لجعلك متمكنا ومُلماً بهذه المواد؟ هل وضعت قائمة باسم أهدافك المستقبلية؟وهل حددت الطريق التي ستوصلك إليها؟.
هل هناك دروس أخرى تعلمتها ولم تجدها في المقررات الدراسية؟ حين يجيب التلميذ عن هذه الأسئلة بصورة صحيحة حينها فقط يتحقق جوهر التعليم وهدفه الأسمى.
أن تكون متخصصاً في مادة ما فليس عليك أن تهمل بقية المواد وتنشغل بمادتك وفقط، فهناك مادة نشترك فيها جميعا وهي مادة “المعاملة” وهي لا تتطلب محاضرات طويلة ومملة عن الأخلاق الحسنة وثقافة الاعتذار وسرد قصص بطولية حدثت في الماضي، التلميذ اليوم يريد أن يسمع ويرى بنفسه يريد أن يخوض تلك التجارب بواقعية، فهناك شيء اسمه التجربة الشخصية والتي تتيح له الكشف عن مكامن الأشياء وتضع له تصورات عن ماهية الحياة من وجهة نظره، إنه يبحث عن زاويته الخاصة في الحكم على ما يجري حوله في العالم، وخير مثال يتعلم منه هو الأستاذ الذي يُدرسه، فالمواقف التي تحدث يومياً تساهم بشكل كبير في ثقافة ذلك التلميذ فهو يعتبر الأستاذ قدوته، وقبل أن يكون قدوة، عليه أن ينجح في كسب مودته، وعندما يحدث ذلك سيحب المادة ويشتاق إليها عوضاً عن شوقه لسماع جرس النهاية، عندما يسمع التلميذ في أول حصة عبارات إيجابية تعزز من ثقته بنفسه مثل”البشرية بحاجتك ماذا تريد أن تضيف في هذا العالم”، “قف مُنتصبا وأخبرني عن طموحاتك”، “لا تسمح لأحد أن يقلل من شأنك، أنت لم تخلق عبثاً هناك مهمة تنتظرك ابحث عنها وأنجزها بإتقان”، حينها ستتغير بعض المفاهيم في عقله، ويبدأ في طرح أسئلة ظلت حبيسة في داخله، سيتكلم بشجاعة وسيتعلم كيف يناقش ويدافع عن أفكاره دون تعصب طبعاً.
ما فائدة أن تقضي سنوات طويلة في التعليم دون أن تحقق نتيجة تذكر، نحن بحاجة لكسر ذلك الروتين الممل ولا يتأتى ذلك إلا عندما يتخلى الأساتذة عن فكرة “أنا مطالب بتكملة المنهاج وفقط” ويلتفتون إلى ما يريده التلميذ فيعملون على نصحه وإرشاده ودعمه، فالميدان يعج بالمبدعين الذين ينتظرون كلمة واحدة ليفجروا مواهبهم، هناك جزئيات مهملة قد تبدو بسيطة في نظر الأستاذ لكنها في المقابل الشرارة التي يحتاجها التلميذ ليقف على قدميه، نحن نتأثر بمبدأ الأحكام المسبقة ونتعامل على أساسها، فمثلاً دَرَسَ عندي تلميذ كان الجميع يعتبره عدوانياً، فهو منبوذ من أسرته وأساتذته، تعوَّد على معاملة قاسية من الجميع، لكنني كنت أعتبره أحسن تلميذ عندي، فلقد كلفته بمهمة صعبة نوعاً ما لكنه أنجزها ببراعة، وطبعاً قمت بتكريمه أمام أنظار الجميع، عندما ذُكر اسمه تفاجأ الحاضرون أيُعقل هذا! فقلت لهم: ولم لا، هذا التلميذ يحفظ القرآن كاملاً ويصلي بالناس في المسجد وبحاجة فقط لمن يسمع له ويوجهه والحمد لله لقد نجحت في ذلك، بعد ذلك التقيته في الساحة فقال لي: كنت أظن أني لا أصلح لأي شيء في هذا العالم، ولكنك منحتني الفرصة…فشكراً جزيلاً لك.
ما الذي يمنع الأستاذ أن يصير أخاً وأباً وصديقاً؟ ما الذي يمنع المدرسة أن تكون مكاناً مفتوحاً يتنقل فيه التلميذ بين درس ولعب ولهو؟ فالتلميذ بحاجة لمن يمتص عواصفه الداخلية ويحولها إلى طاقات إبداعية، هو لا يأتي كل يوم لكي يتلقى الأوامر؛ اجلس، ركز، أُكتب، أُخرج، أُصمت!! هو يبحث فقط عن جو ملائم ليكون ما يريده هو لا ما نريده نحن، حين نفهم رسالة التعليم السامية سنكون قد وجدنا المَخرج الذي يبحث عنه الجميع، لنساهم بذلك في تحرير تلك المواهب وإنقاذها من التيه والضياع، ولتتحول تلك الأسوار إلى أبواب تُشعُّ تألقاً وإبداعاً.

عبد الرؤوف جناوي

أستاذ التعليم الثانوي لمادة التربية البدنية والرياضية، متحصل على شهادة الماستر الأكاديمي في التعلم الحركي، مهتم بالتعليم عموما، الحكمة المفضلة عندي دائما “اصمت ودع إنجازاتك تتحدث”
زر الذهاب إلى الأعلى