داخل قارورة الاختبار: ماذا بعد “ابن حيان”؟ -الجزء الرابع-
كما ذكرنا سابقًا كانت الفترة منذ القرن السابع الميلادي إلى القرن السادس عشر الميلادى (700-1600) منذ ظهور “جابر بن حيان “ وعلماء المسلمين إلى ظهور“ روبرت بويل “ في بدايات القرن السابع عشر تعتبر فترةً ساكنة في الثورة الكيميائية كانت النظريات الكيميائية ثابتة، وليس هناك جديد غير بعض التنظيرات والقواعد البسيطة في طريق تأسيس منهج كيميائي حديث.
وتعد تلك هي فترة الانتقال من كيمياء العصور الوسطى إلى الكيمياء الحديثة.
لكن خلال تلك الفترة كانت هناك العديد من الممارسات اليومية والاكتشافات العلمية التي تعتمد على الكيمياء بشكل ما.
وكان من تلك الممارسات ظهور الألعاب النارية وما اعتمدت عليه من تقنيات اشتعال وانفجار المواد الكيميائية المختلفة.
وُجدت الألعاب النارية في الصين القديمة في القرن السابع الميلادي تقريبًا، وكان الكيميائي المشتغل بها يحظى بالاحترام والتقدير لما كان بحوزته من علوم وقراءات وطرق وتجريب لخصائص اشتعال المواد المختلفة.
وكان الهدف من استغلالها في الاحتفالات هو إبعاد الأرواح الشريرة، ثم انتقل علم الألعاب النارية إلى العالم العربي والإسلامي في القرن الثالث عشر الميلادي وسميت بـ“الأزهار الصينية“.
وفي القرن السابع عشر قام عالم النبات الفرنسي “ بيير نيكولا دانكرافيل“Pierre Nicolas Le Chéron d’Incarville” أثناء زيارته إلى بيكين بتدوين طرق الصناعة المختلفة للألعاب النارية وتركيبات المواد المستخدمة بها، وأرسل المخطوط إلى “الجمعية الفرنسية للعلوم “ “Académie des sciences” والتي تعد من أوائل الأكاديميات العلمية في العالم.
ومن بعدها تم توثيق تلك الصناعة وانتشرت أسرارها في جميع أنحاء العالم.
تطورت صناعة الألعاب النارية وتغيرت بتطور الزمن تطورًا كبيرًا غير أن هناك أساسيات تعتمد عليها؛ فهي تعتمد في الأساس على التركيب الكيميائي للمواد الموجودة داخل الأنبوب الحاوي والتي تسمي “النجمات النارية Pyrotechnic stars” وهي عبارة عن كريات أو قطع صغيرة أو حبيبات تتكون كل منها من خليط المواد الكيميائية المكونة للألعاب النارية.
تحتوي النجمات على أربع مكونات رئيسة:
– وقود
– مؤكسد: ليوفر أكسجين احتراق الوقود والاشتعال.
– ملون (وهو يختلف باختلاف العنصر الكيميائي المستخدم).
– مادة رابطة تساعد على جمعهم معًا في كرية أو حبيبة واحدة.
وتعتبر المادة الملونة هي أهم المواد المستخدمة في صناعة الألعاب النارية.
وربما تعتبر الألعاب النارية هي أول اختبارات تفاعل العناصر الكيميائية المختلفة مع اللهب.
فكما هو معلوم كل عنصر كيميائي من عناصر الجدول الدوري يعطي لونًا مختلفًا عند تعرضه للهب.
فعلى سبيل المثال كان اللون الأزرق يأتي من “كلوريد النحاس“ والأحمر من “كربونات وكلوريد الليثيوم“. والأخضر من “كلوريد الباريوم“ وهكذا.
كل تلك المخاليط كانت معلومة بصفاتها غير أن أسماءها وعناصرها المكونة تحديدًا لم تكن معلومة في ذلك الوقت “ماقبل اكتشاف العناصر الكيميائية“.
الكيمياء الحديثة:
يطول الحديث في هذا الصدد ويطول.. غير أن ما أريد توضيحه هو أن الكيميائيين في البدايات كانوا ما يزالون يمارسون أدوارهم في التجريب واختبار المخاليط المختلفة واختبارات صفاتها.
الممارسات الكيميائية لم تتوقف قط، ولم يتوقف التطوير فيها.
وكانت ما تزال مختلطة بأفكار غيبية وفلسفية ليس لها أساس علمي.
حتى أن أحد أعظم عقول التاريخ العالم العظيم “إسحق نيوتن Isaac Newton” وقع في فخ الغيبيات تلك وفرضيات حجر الفلاسفة.
ففي عام 1940 اكتشف الاقتصادي وجامع الكتب “جون مينارد كينزJohn Maynard Keynes” مجموعة مخطوطات خاصة بـ “إسحق نيوتن Isaac Newton” سجل فيها ملاحظاته وأبحاثه المضنية في علم الخيمياء وسعيه وراء حجر الفلاسفة، والذي نشرها في كتاب “Newton, The Man” عام 1942.
وقع “نيوتن“ في فخ “ حجر الفلاسفة والغيبيات لكن صديقه العالم العظيم “روبرت بويل Robert William Boyle” كان يمتلك عقلًا كيميائيًّا أكثر ترتيبًا.
كان روبرت بويل فيلسوفًا طبيعيًّا وكيميائيًّا وفيزيائيًّا ومخترعًا لكن الكيمياء كانت المفضلة لديه، وكما كان “ابن حيان “ يعتمد على التجريب كان “بويل“ أيضًا يعتمد على التجربة بصفتها دليلًا.
يقول جابر بن حيان “إن واجب المشتغل في الكيمياء هو العمل وإجراء التجربة، وإن المعرفة لا تحصل إلاَّ بها“
في عام 1661م في لندن وضع كتابه ورسالته المهمة جدًا المعنونة باسم الكيميائي المتشكك “The Sceptical Chymist”.
والكتاب في جزئه الأول حوار بين خمسة أصدقاء في حديقة، يطرح كل واحد منهم تصوره وشكوكه الخاصة عن تكون المادة واختلاف العناصر.
ولأول مرة يُكتب كتاب كيميائي خالٍ من الأساطير الوهمية كحجر الفلاسفة وإكسير الشباب وتخليق الأرواح وكل تلك الخيالات. ويتحدث بشكل تجريدي علمي فقط.
رفض “بويل“ النظرية الأرسطية للعناصر الأربعة (التراب والهواء والنار والماء) وكذلك المبادئ الثلاثة (الملح والكبريت والزئبق) التي اقترحها باراسيلسوس.
في الجزء السادس عرف بويل “العنصر“ الكيميائي بطريقة تقترب أكثر من المفهوم الحديث.
وأوضح أن العناصر الصغرى المكونة للكون في حالة تفاعل مستمر، وهذا التفاعل فيما بينها هو ما ينتج المركبات المختلفة.
ويُعَدُّ بويل أبا الكيمياء الحديثة؛ حيث إنه أول من وضع كتابًا فاصلًا في علم الكيمياء بصفته علمًا منفصلًا عن العلوم الأخرى، وعلمًا تجريبيًّا مجردًا دون فلسفة أو أمور وهمية.
كما صنف “بويل“ المواد على حسب حالتها المادية وفرق بين أنواع مختلفة من المركبات والأخلاط. فاكتشف طريقة للكشف عن مكونات أي مركب أو خليط وسمى الطريقة “التحليل analysis”. واقترح بعد ذلك أن العناصر تتألف من جزيئات مختلفة من الأنواع والأحجام، لا يستطيع فصلهم بأي طريقة معروفة في وقتهم.
لا يمكن أن نذكر “بويل“ دون أن نذكر واحدًا من أهم إنجازاته وهو اشتقاق قانون بويل للغازات “Boyle’s law”
وهو الذي على أساسه اشتُقَّ قانون الغازات المثالية، وينص قانون بويل على “أن حجم كمية محددة من الغاز يتناسب عكسيًّا مع الضغط الواقع عليه عند ثبوت درجة حرارته“
قام العالم “بويل“ بتثبيت درجة حرارة الغاز (T) وقام بقياس تغير حجم الغاز (V) بتغير الضغط الواقع عليه (P)، واكتشف أن هناك علاقة تناسب عكسي بين الضغط والحجم .
بحيث يزداد حجم الغاز بنقصان الضغط الواقع عليه، ويقل حجم الغاز بزيادة الضغط الواقع عليه.
بمعنى أنه إذا زاد الضغط قل الحجم بالنسبة نفسها، وكلما زاد الحجم قل الضغط وذلك مع الاحتفاظ بدرجة حرارة ثابتة.
كان كتاب وأبحاث “بويل“ بداية فتح عظيم في علوم الكيمياء بشأنها الحديث وتوالت من بعده أبحاث واكتشافات كيميائية غيرت مفهوم هذا العلم عن مفهومه القديم.
مثل أبحاث “هنري كافنديش Henry Cavendish” واكتشافه غاز الهيدروجين والذي في وقتها أسماه “الهواء القابل للاشتعال“ عام 1766م.
وأبحاث “جوزيف بريستليJoseph Priestley “1774 و“ كارل فلهلم شيله Carl Wilhelm Scheele” عام 1777 واكتشافهم غاز الأكسجين الذي أسماه “شيله “ “ هواء النار“ ،في الوقت عينه تقريبا أثناء بحثهم في آلية وعملية الاحتراق.
وعلى الرغم من اكتشاف هذين العنصرين غير أن تسميتهم الحديثة التي نعرفها يعود الفضل فيها إلى أب آخر من آباء الكيمياء وهو “أنطوان لافوازييه Antoine-Laurent de Lavoisier”
ولتكن أبحاث هذا الكيميائي العظيم وتجاربه موضوع المقال القادم في قارورة أخرى من قوانين اختبارنا مع عالم الكيمياء.
المصادر:
· SHAC: Society for the History of Alchemy and Chemistry
BBC (2010). Chemistry: A Volatile History.