فكرة

داخل قارورة الاختبار (2): رحلة إلى ما قبل العلم

النار:

هل ترى معي هذا الرجل البدائي الذي يمسك بيديه الصخرة؟! لعله في هذا اليوم القديم سأل نفسه هذا السؤال مما تتكون تلك الصخور والأحجار؟

ربما أثناء محاولاته لاكتشاف طبيعة الصخور قام بأولى التجارب العلمية واكتشف أنه يمكن توليد النار من خلال الشرر الناتج عن طرق الصخور بعضها ببعض.

أو ربما خلال رحلته في فهم المواد من حوله قام بتوليد الحرارة والنار من الأوراق الجافة والأخشاب عن طريق “الاحتكاك “.

كل ما نعرفه أنه منذ اكتشاف توليد النار، وتطويعها كانت أولى الممارسات الكيميائية، حيث استخدمها الإنسان الأول والشعوب القديمة في إعداد الطعام وإعداد الأوان للأغراض المختلفة.

كما تعلم الإنسان القديم استخدام النار لفصل المعادن “الفلزات” عن الصخور وذلك من خلال الصهر، وكان من أوائل المعادن المكتشفة النحاس في حوالي 8700 ق.م واستخدمه القدماء المصريون لصنع الأسلحة والمسامير وأوان حمل الماء وغيرها .

وفي حوالي عام 4000 ق.م كان اكتشاف الحديد في العراق ومصر لصنع الرماح وغيرها من الأسلحة.

وفي الأعوام التالية حوالي 3000 ق.م يصنع الزجاج في مصر من خلط وصهر الرمل والجير ويستخدم خليط النحاس والقصدير “البرونز”.

وبخلاف استخدام النار استخدمت الخمائر لصناعة الجعة والخمور والخبز، وحفظت الأغذية عن طريق التمليح والتدخين.

وتم صبغ الثياب باستخدام عصارات النباتات، واستخدمت الأكاسيد المختلفة للمعادن لصبغ الزجاج وتلوينه، كما استخدم القدماء المصريين خلطات كيميائية لتحنيط الموتى وحفظ الأجساد.

كانت الكيمياء في ذلك الوقت كما نرى مجموعة من الممارسات المرتبطة بالنار والمعادن وغيرها من االعمليات وكان للمصريين القدماء باع طويل في هذا. إلا أنها كانت كما سبق أن ذكرنا كانت ممارسات غير مرتبطة بأساس من التأمل لدراسة النشأة الأولى لتلك المواد ولم تكن مؤهلة للإجابة على السؤال التالي:

مما يتكون الكون من حولنا:

“مما يتكون العالم والكون من حولنا؟!”هل سألت نفسك هذا السؤال ذات يوم؟، لنتوغل قليلًا داخل قارورة الاختبار ونعود بها للوراء إلى البدايات، إلى زمن موغل في القدم، إلى ما قبل العلم.

ولنأمل أن تجيبنا على هذا السؤال.

يرى كثير من العلماء والمؤرخين أن أولى محاولات تفسير المادة وبداية نشأة علم المواد “الكيمياء” كان في الصين. ففي حوالي عام 600 ق.م يقترح الفيلسوف الصيني لاو تزه LaoZi” أن:

المادة تتكون من عناصر “الماء والفلز والخشب والنار وقوى ين ويانج”.

المعادن كلها طبقًا لهذه النظرية أصلها واحد وتختلف تبعًا للنسبة التي تقترب بها من عنصري “الين” أو “اليانج” وهما عنصري الروح والحكمة.

 وكانت هذه من أوائل المحاولات لتفسير المادة.

فلسفة اليونانيين لتفسير المادة:

عالم الفلك اليوناني “طاليس Thales”

في الوقت نفسه تقريبًا (624-548 ق.م ) في اليونان تظهر تأملات الفيلسوف وعالم الفلك اليوناني “طاليس Thales” والتى يرى فيها:

أن الكون نشأ من مادة أصلية هي الماء وهو قوام كل شيء وأساس جميع الموجودات وأن المادة تختلف حسب اختلاف طبيعة المياه وكميتها بها، وأن الحياة تنشأ بوجود الماء وتنعدم بانعدامه”.

الفيلسوف اليوناني ” أنكسيمانس Anaximenes”

في حوالي عام 500 ق.م جاء بعد ذلك الفيلسوف اليوناني ” أنكسيمانس Anaximenes” والذي نادى بأن:

ليس الماء هو المادة الأصلية بل الهواء فعن طريق تكثيف الهواء يتكون الضباب والسحاب وبالتالي يتكون الماء ثم يتشكل على هيئة أكثر صلابة فيصبح ترابًا، أو عن طريق تقليل الكثافة (بالخلخلة) فيصبح نارًا”.

الفيلسوف “هيرقلطيس Heraclitus”

جاء بعد ذلك الفيلسوف “هيرقلطيس Heraclitus” الذى اعتمد النار كمنشئ ومادة أصلية لبداية الكون.

تلاه بعد ذلك الفيلسوف والشاعر ” أمبيدوكليديس Empedoclites “، وهو أول من نادى بنظرية العناصر الأربعة حيث أرجع أصل المواد ونشأة المادة إلى “الماء والهواء والتراب والنار” وهي النظرية التى ستعتمد لفترة طويلة بعد ذلك حيث سيعتمدها الفيلسوف أفلاطون وغيره من الفلاسفة.

الفيلسوف “ديموقريطيس Democritus”

جاء الفيلسوف “ديموقريطيس Democritus” في القرن الرابع قبل الميلاد ومتبنيًا لأول مرة بدايات تأسيس “النظرية الذرية” التي افترضها أستاذه “لوسيبس Leucippus”. واعتمدت نظريته وافتراضاته على “ذرات وفراغ ” وتفسر بأن:

المادة والكون تكون من عناصر أصغر تسمى ذرات “Atoms” وهي كلمة مشتقة من اللغة الإغريقية “ATOMES” والتي تعني غير قابل للقسمة.

كل ذرة هي كيان لا يمكن تدميره ولا يمكن خلقه من العدم وتختلف أشكال الذرات حسب المادة فذرات الهواء تختلف عن ذرات الماء عن ذرات التراب …إلخ.

الكون يتكون من عدد لا نهائي من الذرات وهذه الذرات إما أن تتجاذب عن طريق أسنان على سطحها أو تتنافر فيما بينها.

هذه النظرية التى نعلم الآن أنها هي الأقرب للصحة لم تنتشر وقتها كما ينبغي ولم يتبناها الكثيرون، في الوقت نفسه في القرن الثالث ق.م نشأت فلسفات مشابهة في الهند القديمة قوامها أن الكون يتكون من عناصر متناهية في الصغر.

أرسطو

رغم ذلك لم يقتنع “أرسطو Aristole”بتلك النظرية بل وأعاد إحياء نظرية العناصر الأربعة “الماء والنار والهواء والتراب “وأضاف عليها “الهيولى Hyleأو الجوهر “. كما أضاف أربع خواص للأربع عناصر “حار وبارد ورطب ويابس”، وهو أقرب بذلك للفلسفات الصينية الأولى لتفسير المادة.

ولا نعلم فربما كان لمكانة “أرسطو” الكبيرة وهيبته العلمية والفلسفية في ذلك الوقت ما أتاح لتلك النظرية الفلسفية أن تسود لآلاف السنين.

كيمياء” أصل الكلمة وأول الكتب:

اختلف الأولون حول أصل الكلمة هل هي من “Chio يصهر أو يسبك” اليونانية، أم من “Chem  أو سيميا بمعنى الخصبة أو السوداء” في المصرية القديمة، وغيرها من التأويلات.

لا نعلم تحديدًا غير أن أقدم كتاب وضع عن “علم الخيمياء” وهو يشمل كثير من “الشعوذة وعلم الكيمياء والفلك والفيزياء والسحر “. جاء عن طريق الخيميائي “زوسيموس Zosimos” ذو الأصل اليوناني والمولود في “أخميم  بمصر”في القرن الثالث والرابع (300_400 م).

الخيميائي “زوسيموس Zosimos

ويعد هذا الكتاب من أوائل الكتب التي تناولت الكيمياء وأجهزة تقطير وصهر وغيرها من عمليات كيميائية مختلفة .

بالإضافة إلى ذلك شمل الكتاب العديد من المفاهيم الغريبة كربط الحركة بالنمو والتجسد واللاتجسد وممارسات غير علمية كالروح والسحر وغيرها.

إكسير الشباب وتحويل الرصاص إلى ذهب:

شمل الكتاب أيضًا أول ادعاءات شغلت الكيميائيين مدة طويلة من الزمن حيث كان أول من آمن بتحويل الرصاص والمعادن الرخيصة إلى ذهب، وصناعة “إكسير الشباب Elixir of life” الذي يحقق الخلود .

كل ذلك من خلال مادة أسطورية تدعى حجر الفلاسفة lapis philosophorus””.

كانت كيمياء تلك الفترة أفكار مبهمة وغامضة وتأملات فلسفية ليس لها أي دلالات علمية غير أنها أتاحت البدايات الحقيقية لإنشاء علم الكيمياء كما نعرفه اليوم.

الخيميائي كان شخصًا يغلفه الغموض يجلس بمحرابه ليتأمل، ليتفلسف ويجرب، يملأ القوارير بالمواد المختلفة، يكتشف الأشياء ويحلل.

كل هذا جعل الخيميائي أقرب للمشعوذ والساحر   – بالنسبة للمحيطين به – منه إلى العالم بالشكل الذي نعرفه اليوم.

جابر ابن حيان (أبو الكيمياء):

جابر ابن حيان

في حوالي 700م جاء العالم الإسلامي “جابر بن حيان ” الملقب بأبي الكيمياء لإسهاماته العظيمة ومؤلفاته الكثيرة جدًا في مجال الكيمياء.

يقول “ماكس ميزهوف Max Meyerhof ” الطبيب والمستشرق الألماني :

يمكن إرجاع تطور الكيمياء في أوروبا  إلى جابر بن حيان بصورة مباشرة. وأكبر دليل على ذلك أن كثيرًا من المصطلحات التي ابتكرها ما زالت مستعملة في مختلف اللغات الأوربية”.

يعد “ابن حيان” أول من تعامل مع الكيمياء كعلم منفصل، وينجح جابر بن حيان لأول مرة في كسر حلقة الجمود المحيطة بالكيمياء ويأسس مبدأ التجريب، وينحي الفلسفة جانبًا ويعتمد التجربة العلمية في الاستنتاج.

وكغيره من علماء تلك الفترة تأثر بنظرية العناصر الأربعة وأن الكون يتكون من “تراب ونار وهواء وماء” غير أنه أضاف عنصرين آخرين:

  • الكبريت ليصف الاحتراق.
  • والزئبق لتفسير المعادن.

أدخل جابر بن حيان كثيرًا من المصطلحات الكيميائية المستخدمة حتى اليوم مثل:

  • القلوي Alkali.
  • الأكسير Elixir.
  • الكحول Alcohol.
  • النفط Naphta.

كما كان جابر أول من استخدم أجهزة ما زالت معتمدة حتى الآن في المعامل كـ”الأنبيق Alambic”، و”المعوجة Retort” ليستخدمهم في عمليات التقطير.

عرَّف ابن حيان الكيمياء في كتابه “العلم الإلهي” بأن :

هو الفرع من العلوم الطبيعية الذي يبحث في خواص المعادن والمواد النباتية والحيوانية وطُرق تولدها وكيفية اكتسابها خواص جديدة

ورغم عظمة جابر بن حيان إلا أن الكيمياء ظلت مختلطة بأفكار فلسفية غريبة وأسطورية كنظرية التكوين

وهي تناقش فرضية تكوين كائنات حية داخل المعمل كالحيات والعقارب، والإيمان بأسطورة حجر الفلاسفة lapis philosophorus وغيرها من المعتقدات العجيبة في علم الكيمياء القديم.

الكيمياء قامت على الألغاز وحل تلك الألغاز كان منذ الأزل مهمة الكيميائيين.

دعونا نتساءل هل نجح ابن حيان وغيره من علماء المسلمين والغرب في تكوين حياة داخل المعمل؟

وهل نجحوا في تحويل الرصاص إلى ذهب وتحضير حجر الفلاسفة؟

دعونا نجيب عن هذه الأسئلة عندما نفحص قارورة الاختبار التالية في المقال القادم ..

المصادر :

– كتاب تاريخ العلوم والتكنولوجيا، في العصور القديمة والوسطى ومكانة الحضارة الإسلامية فيه، د. مصطفى محمود سليمان،الطبعة الثانية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008.

– كتاب Readings in Ancient Greek Philosophy: from Thales to Aristotle: from Thales to Aristotle.

– وثائقي  Chemistry: A Volatile History” from BBC

زر الذهاب إلى الأعلى