خواطر باحثة علمية

ست سنوات من الانتظار

وجاءت ساعة الصفر، موعد الامتحان تفصلني عنه فقط بعض دقائق الانتظار والتي ستثمر عن شهادة حلمت بها طويلاً وانتظرتها ست سنوات منذ أن خطت قدمي أرض ألمانيا، في اللحظات التي بدأت أجهز فيها نفسي مر في خاطري شريط هذا المشوار الطويل…

ربما لا يدري أحد إنه عندما تزوجت كانت وصية والدي حفظه الله لزوجي بأن يتيح لي فرصة إكمال تعليمي في ألمانيا وأن يحقق حلم إبنته بأن تصبح عالمة، لم تكن وصية والدي وحده في هذا المضمار بل كانت وصية مسؤولي في مختبر التحاليل الطبية الذي عملت به قبل زواجي والذي درس في لندن، قال لي عند وداعي.. (يا بنتي… لا تعودي إلى الأردن بأموال وعقارات، بل عودي بعلم وشهادات، لأن المال زائل والعلم باق لا محالة). 

وعندما بدأت حياتي في ألمانيا لم يكن تحقيق الحلم بالطريق الوردي السهل، فكانت صخور الصعوبات تصطف على طول الطريق، بدءاً من إرسال شهاداتي إلي جامعة فرايبورغ، حيث كان الرد على “أن أعادل شهادتي بدراسة ثلاثة سنوات أخرى وباللغة الألمانية”، أتذكر جيدًا وكان بين يدي إبني الأول وكان بعمر أربعة شهور إنني بكيت بحرقة لأنهم سدوا الطريق في وجهي تمامًا بهذا الجواب، ولكني قلت لزوجي بشيء من التفاؤل المختلط بالدموع:-

“يجب أن أقابل أحدًا من هيئة تدريس الأحياء في هذه الجامعة”.

قال لي زوجي:- “لا تستطيعين بهذه السهولة، هنا في ألمانيا أن تقابلي أحدًا بدون موعد مسبق”.

ألححت أن يأخذني إلي كلية الأحياء التي كانت بالجانب الآخر من مدينة فرايبورغ، وفعلًا دخلت القسم وأخذت أقرأ أسماء البروفيسورية على الأبواب وطرقت إحداها، فرد علي من في الداخل وقال لي: (تفضلي)، دخلت بوجل وقلت له بالإنجليزية: (عفوًا ليس لدي موعد لكن عندي سؤال مهم)، كان بروفيسور يبدوا في الستينات من العمر وكان لطيفًا جدًا، حدثته عن نفسي وعن حلمي، عن حياتي كأم وعن الأمل إن كان متاحًا أن أدرس الماجستير باللغة الإنجليزية. 

ابتسم ابتسامة واسعة وقال “سيدة بمثل هذا التحدي لن يصعب عليها شيء، ولكن هل تنتظرين بعض السنوات لأن نظام الدراسة في ألمانيا سيتغير ويصبح كالنظام العالمي، بكالوريس، ماجستير ودكتوراة وهناك برامج متاحة باللغة الإنجليزية، أتوقع أن جامعتي توبينغن وهايدلبرغ من الجامعات التي ستبدأ في الموضوع، فتابعي موقعهم الإلكتروني..”

هذا الانتظار كان عبارة عن ستة سنوات، لم يمر يوم إلا وزرت فيه موقع الجامعات الإلكتروني متتبعة أخبار الماجستير بالنظام الجديد، وعندما رأيت إعلان جامعة هايدلبرغ عن طرح برنامج الماجستير باللغة الإنجليزية للأحياء الجزيئية، بدأت بتجهيز كل ما هو مطلوب للتقديم، وقدمت الطلب وكان كل من حولي يقول لي: “لا تضعي أمالًا كبيرة حتى لا تصدمي بالرفض، فجامعة هايدلبرغ صعبة المنال”، ولكن جاءت الرياح بما إشتهت سفني التي إنتظرت ست سنوات في بحر الأمل، وحصل القبول… 

الحلم يتحقق

والآن حلم الست سنوات يقف في قاعة الامتحان أمام ثلاثة بروفيسورية، إثنان هما الممتحنان وهو البروفيسور شتاين بايسر أحد العلماء الذي وضعوا نظريات في علم التطور الحيوي Developmental Biology  وكذلك البروفيسورة رابولد إحدى العالمات الرائدات في علم الجينوم البشري، والثالث هو بروفيسوري شتيفان.

الامتحان الشفوي هو عبارة عن عرض نتائج المشروع على شكل Presentation ومدتها عشرين دقيقة  بالضبط وتقسيم العرض يتضمن ثلاثة شرائح للمقدمة وشريحة للأهداف وشريحة واحدة للتلخيص والبقية للنتائج وبعد إلقاء المشروع هناك خمسة وأربعين دقيقة للمناقشة وطرح الأسئلة. 

بدأت الأسئلة متخصصة بالمشروع ومن ثم عندما أحسوا تمكني التام من الموضوع بدأت البروفيسورة رابولد بطرح أسئلة عامة خارجية وانتهت دقائق الامتحان وخرجت أنتظر حتى يطلب مني الدخول وإعلان نجاحي أو عدمه، فوجدت Luo وزوجي ينتظران بتوتر مع باقي زميلاتي، ناولوني كأس من الماء مشجعين إن الدقائق ستثمر عن احتفال بالنجاح. 

وفعلًا خرج شتيفان وقال بصوت عال… مبروك سيدة أبو كيوان لقد نجحت وبامتياز، ودخلت وصافحت البروفيسورية الممتحنين الذين تمنيا لي النجاح والتوفيق في طريق العلم وشجعوني أن أبدأ طريقي في الدكتوراة بنفس الروح، من فرحتي احتضنت طفلتي الصغيرة التي كانت تبلغ السنة والنصف حينها وتكلل النجاح باحتفال لطيف وبسيط لأن نجاح الفرد هو نجاح الجميع في مجموعة بروفيسور شتيفان البحثية.

في نهاية هذه المقالة أقول لكم… لا تتركوا الأحلام تبتعد عنكم، بل اجعلوها حبيسة عقولكم وقلوبكم، ودعوا جمالها يدغدغ حياتكم ويرسم على وجوهكم  بسمة أمل، ومهما طال الزمن وتكالبت الصعوبات ستتحقق بعضها أو كلها بإرادة الله وبقوة عزمكم وإرادتكم…

علياء كيوان

طالبة دكتوراة في الأحياء الجزيئية وناشطة اجتماعية. مقيمة في ألمانيا، أم لثلاث أطفال، أعمل في بحوث السرطان، هوايتي الكتابة والقراءة، همي هو النهوض بالمرأة العربية في المجتمعات الأوروبية ويكون لها بصمة ومكانة، أسست مجلة المرأة العربية في ألمانيا وهي أول مجلة إلكترونية ناطقة باللغة العربية في ألمانيا تهتم بشؤون المرأة والأسرة العربية بشكل عام.
زر الذهاب إلى الأعلى