سياسة التلقين وضرورة الابتكار
إن السبيل الوحيد لبناء بلد متقدم علميًا وتكنولوجيًا هو التعليم، حيث لا أمل في أمة وضعت هذا الأخير في آخر سلم اهتماماتها ولا خير في شعب لم يهتم بهذا القطاع الحيوي.
إن أرادت دولة معينة تسليم مشعل القيادة للشباب فالشرط الأساسي هو أن يكون هؤلاء الشباب متعلمين ومثقفين ومبدعين وحاملين لشهادات جامعية وعليا، لأن الكفاءة تقاس بالشهادات والإبداع، وطاقة الشباب قد لا يمكن استغلالها بأفضل شكل ممكن إن لم يكن هؤلاء الشباب من طينة المثقفين. لأجل تحقيق هذا، ومن أجل تكوين جيل جديد يطمح لمعالي الأمور ويريد خدمة وطنه بأحسن شكل، وفي سبيل تعليم الجيل الناشئ وتزويده بالمعرفة الضرورية، في سبيل كل هذا لا بد من وجود مناهج تعليمية جيدة لكي نضمن الحصول على نتائج ترفع رؤوسنا فخراً وعزة.. لكن للأسف الحقيقة ستصدم كل من وهب نفسه ووهب حياته من أجل العلم، الحقيقة التي تكمن وراء كل هذه الأماني والرغبات هي أن المناهج التعليمية التي يعتمد عليها أبناءنا اليوم هي بعيدة كل البعد عن تشجيع الإبداع وتكريس ثقافة النقد والتحليل، إنها مناهج تقدس التلقين المباشر ولا تدع فرصة للطالب لإبداء رأيه فهو في الغالب مجبر على أن يأخذ ما في كتابه المدرسي وكفى! نحن لا نربي أجيالًا يمكنها في المستقبل أن تكتشف وتخترع وتعيد لهذه الأمة مجدها، بل نحن نعمل ليل نهار عن طريق المناهج التي تتوفر عليها كتبنا على إغلاق عقل الطفل وقتل فضوله.
إن التعليم في الدول المتطورة يعتمد على النقاش، المنهاج في تلك الدول ما هو إلا وسيلة مساعدة للتلميذ. المسؤولون عن النظام التعليمي في الدول التي تعرف وتقدر قيمة الإبداع والابتكار أدركوا أن الفائدة ليست في تلقين التلميذ معلومات قد ينساها بعد أشهر، وليست كذلك في حصوله على نقاط عالية عن طريق الحفظ كالببغاء وإنما يكمن هدف التعليم الحقيقي في خلق جيل يستطيع إيجاد الحلول مهما عظمت المشاكل.
الغاية الأسمى من التعليم هي أن يستطيع الشاب مستقبلًا إفادة وطنه وأمته وعالمه بما يعرفه، التعليم ليس لخلق أجيال من التوابع بل هو في الحقيقة يعمل على تأهيل أجيال تفكر بنفسها ولنفسها و ا تنتظر أحدًا ليساعدها على بداية مشوار البحث بل تقتحم مجال العلم وتبدع فيه. إن سياسة التلقين ليست مفيدة بل هي سياسة سوف نحصد ثمارها عما قريب (إن لم نكن قد بدأنا بالفعل في حصد الثمار السلبية)، الطفل الذي يدرس ما يعادل خمسة عشر إلى سبعة عشر سنة مستمرة للحصول على شهادة جامعية ثم لا يستطيع أن يقدم للعالم شيئًا بشهادته.. ما هي فائدة ما تعلمه الطفل هنا؟ نعم، من الواجب الاعتراف أنه من الضروري للطفل أن يجد من يساعده ويوجهه لكن يجب أن يكون جل العمل على عاتق التلميذ ويجب أن نشجع ثقافة النقاش وإبداء الرأي أثناء الحصص المدرسية، يجب أن نعيد النظر في المناهج التعليمية
لكي نستطيع تشجيع الأطفال على النقد و التحليل لأنه من المؤسف أن نقتل ذكاء الطفل وفضوله بإجباره على قبول أشياء قد لا يكون مقتنعًا بها. نحن نحتاج أجيالًا قادرة على تقديم الجديد لأننا نملك القديم ولا حاجة لنا لكفاءات لا تستطيع الإبداع في مجالها، المستقبل لأولئك الذين يقودون العالم بفكرهم وابتكاراتهم، أما الآخرون الذين يرضون بالتقليد والتلقين فلن يخرجوا أبدا من الأزمات التي يعيشونها بل سيدورون دائمًا في نفس الدائرة المفرغة.
أطفالنا هم أمانة في أيدينا، وكما أحب أن أقول دائمًا: إن استطعنا استغلال الجيل الجديد بطريقة جيدة فإننا سنضمن الحاضر والمستقبل، وإن تقاعسنا أو تكاسلنا عن أداء مهامنا فإننا لن نحصد غير خيبات الأمل المتكررة. لابد من زرع القمح كي نحصده، كذلك الأمر بالنسبة للعلم، فلابد من زرع بذور النقاش والحوار والإبداع والابتكار لكي نستطيع مستقبلًا أن نحصد ثمارًا طيبة ولكي نكون قادرين على الخروج من رحم الأزمة الثقافية والعلمية التي نقبع فيها منذ ما سنوات. علينا السعي وراء مناهج تقدس العقل وتقدمه على النقل الحرفي، علينا العمل دائمًا و أبدًا من أجل إعطاء أبناء الجيل الناشئ الفرصة للتعبير عن آرائهم ولمشاركة الأستاذ في الدرس، علينا السهر لتوفير ظروف ملائمة لتلاميذنا ومن بين هذه الظروف برامج تعليمية تعطي التلميذ حقه وتؤكد له أن نقد المعلومات ليس محرمًا و لا عيبًا بل هو ضرورة وأنه إن أراد هذا التلميذ ابتكار شيء معين فمن حقه أن يفعل ذلك ومن واجبنا مساعدته والوقوف في صفه عوض أن نمنعه من تحقيق حلمه بحجة أنه لا يفهم. علينا إعادة الثقة لأبنائنا، فالغرب ليس ناجحًا و نحن لسنا فاشلين و إنما الفرق هو أن الغرب ساند الطفل ونحن قتلنا الطموح والأمل وأغلقنا باب الابتكار.