خواطر باحثة علمية

سِيمنار (ندوة علمية مُشفرة)

 ما زلنا في بداية الطريق في حياة الماجستير الدراسيّة في ألمانيا، ننسج من سلاسل الدنا قصص من حياة علماء على كوكب الأبحاث والعلوم.

في المختبر العمليّ الأوّل يجب أن نقدم ما يسمى سيمنار Seminar وهو مناقشة ورقة بحثيّة من إحدى المجلات العلميّة ويتمّ فيها عرض أهم ما توصل إليه هذا البحث من مقدمة مختصرة من ثم أهم الأدوات والطرق العلميّة ومن ثم يتم التركيز على النتائج يعرض فيها كل الأشكال والرسوم البيانيّة وشرح ملخص واضح جداً، وأخيراً مناقشة أهمية البحث والوقوف على أهمية التجارب الموجودة فيه، وكذلك إمكانية النقد وإعطاء بدائل عديدة وباستخدام عرض الشرائح Powerpoint على شاشة عرض أمام البروفيسور والزملاء.

تسلّمت الورقة البحثيّة المليئة بالطلاسم الجينيّة التي لم أسمعْ بها قط، مع كل كلمة (طُلسم) كنت أبحث في جوجل معنى هذه الطلاسم، أخذتْ مني وقتاً طويلاً لأفهم ماهيّة البحث في هذه الورقة، ولأكون أكثر وضوحاً كانت مقالة علميّة للمجلة المشهورة Cell التي يتسابق كبار العلماء للنشر فيها، وربما إذا وضعت الآن في محرك جوجل كلمة Cell Journal وفتحت ورقة بحثيّة ستُدرك كم كان حجم الطلاسم بالنسبة لي; لأنني لم أرَ مثل هذه الورقة البحثيّة إلّا في هذا السيمنار .

للإطلاع علىورقتي البحثية الأولى في أول سيمنار لي في ألمانيا

في اليوم التالي سألت زميلتي إنْ كانت قد أنهت تحضير السيمنار الخاص بها، فهزّت كتفيها بلا مبالاة وقالت بالألمانيّة، ( سأقوم بتحضيره الليلة ) ، فقلت لها مستغربة  ( ولكن موعد التقديم غداً ) فردت .. ( إنه مجرد سيمنار ) !

هذا الشعور المريع الذي كان ينتابني دائماً عند سؤالهم عن أي شيء بأنّه عاديّ ومعتادين عليه، فلماذا دائماً بالنسبة لي كأنّني سأخوض غمار حرب لا يوجد فيها جنديّ غيري؟

وجاء موعد السيمنار وبدأ أوّل طالب بعرض الورقة البحثيّة ومن مجلة Cell، أبهرتني جرأته وثقته بنفسه، لم يرتج صوته لمجرد الوقوف أمام خمسة عشر طالب وطالبة وبروفيسورين ومشرفي المختبر، بدأت طريقة عرض الشرائح على الـ Powerpoint احترافية للغاية، كان يتكلم ويناقش دون القراءة عن الشرائح أو ورقة، أعجبني أنّه كان يتنقل بنظره بين الجميع ولم يكن خجولاً ينظر إلى الأرض أو إلى شاشة العرض ليتجنب التوتر، كلّ الطلاسم المعقدة في ورقته البحثيّة غدت كالصلصال يُشكلها ويتكلم عنها بطريقة مبسطة مفهومة للجميع، والأغرب أنّه بعد عرض نتائج البحث أستأذن ليقول رأيه وانتقاده للطريقة التي استخدمت في إحدى التجارب والتي أعتبرها قديمة وغير دقيقة، هنا أصابني شيء من الأسى الشديد على حالنا وعلى حال باحثينا في العالم العربيّ، فهمست إلى نفسي وكأنّني أتحدث مع مُلقي السيمنار (أنت تنتقد تجربة في ورقة بحثيّة صدرت من فلوريدا، لو تعلم يا توماس أنني في بلدي لم أسمع بها قط)، وانتهى من عرض السيمنار الخاص به وشكر الحضور لحسن استماعهم وهو سعيد للإجابة على أي سؤال، شكره البروفيسور المسؤول بحرارة وعبر عن استمتاعه بعرضه وتقييمه كما أنه ليس لديه أي أسئلة تُذكر. نقل توماس نظره بين الحضور بانتظار سؤال ونظر إليّ وكأنّه يعلم أنه فوق رأسي تعلو مائة علامة استفهام، ثم قال موجهاً كلامه للبروفيسورين: إذاً اسمحوا لي أن أسألكم عن أمور أثارت فضولي هي هذا البحث.

تساءلت بيني وبين نفسي : متى استطاع توماس وزملائي الآخرين أن يتقنوا إدارة ندوة علميّة كهذه بهذه الحرفية؟ إنّهم خرّيجون جدد من البكالوريس، هل من المعقول أنّهم تعلّموا كلّ هذا في مرحلة البكالوريس، المثير للاستغراب والعجب أنّ جميع زميلاتي وزملائي في هذا اليوم أدّوا أداءً لا يقل امتيازاً عن توماس، لا أريد أن أقول لكم كيف كان سيمناري يومها، جزم الجميع أنّني أوّل مرة أُلقي فيها ندوة علميّة باستخدام الـ Power point.

 وبقي السؤال يلازمني زمناً أنّه متى تعلم هؤلاء الطلبة فن إلقاء الندوات؟ وقد عرفت الإجابة لاحقاً من ابني الصغير في الصف الثاني عندما أتى وقال لي: “ماما يجب أن أقوم بتحضير (سيمنار) ندوة علمية وأناقشها مع التلاميذ في الصف عن حياة حيوان أليف”؟

علياء كيوان

طالبة دكتوراة في الأحياء الجزيئية وناشطة اجتماعية. مقيمة في ألمانيا، أم لثلاث أطفال، أعمل في بحوث السرطان، هوايتي الكتابة والقراءة، همي هو النهوض بالمرأة العربية في المجتمعات الأوروبية ويكون لها بصمة ومكانة، أسست مجلة المرأة العربية في ألمانيا وهي أول مجلة إلكترونية ناطقة باللغة العربية في ألمانيا تهتم بشؤون المرأة والأسرة العربية بشكل عام.
زر الذهاب إلى الأعلى