خواطر باحثة علمية

عقدة الخواجة

لا بد أن تكون قريبا جدًا من بروفيسور ألماني في مجال الأبحاث العلمية لتحصل على اعتراف خطير يقلب موازين تفكيرك رأسًا على عقب، ومن خلال هذا الاعتراف تعود ركضًا قرونًا من الزمن لترى انعكاس هذا الاعتراف على علمنا وحضارتنا.

كيف لا، وقد كان الأوروبيون في ذلك الزمن يتوافدون لنيل العلوم من جامعة قرطبة، ويتنافسون على نيل منح التعليم من السلطة  الحاكمة آنذاك ليقول مفتخرًا إنه درس بمنحة من جامعة قرطبة، وكيف كانت اتفاقيات سلام تبرم بين حاكم قرطبة وبعض الحكام الأوروبين تكن من شروطها التعليم.

هذه الحقائق قبل قرون ما زالت تدمي قلوبنا، ولكن ماذا عن تنافس الدول العربية الآن في جذب العقول الأوروبية والأجنبية إلى جامعاتها ومعاهدها التعليمية الضخمة، ودفع مبالغ طائلة وامتيازات فاخرة لا يحلم فيها هذا العقل الأوروبي أو الأمريكي في بلده؟! وقد يقبل هذا العقل أو لا يقبل، وما بين القبول والرفض أسرار كبيرة لا يعلمها إلا قلة.

للأسف العلماء الأوروبيون والأمريكيون تُدفع لهم رواتب مضاعفة في المعاهد والجامعات العربية لأنهم كذلك، بينما العالم العربي المسكين صاحب الجنسية العربية يدفع له نصف مستحقات العالم الأوروبي أو الأمريكي أو الكندي، مع التمييز الواضح في الامتيازات والمعاملات، فتستغرب إصرار المعاهد والجامعات العربية على معاملة من هو من لحمها ودمها هذه المعاملة، مع أن هذا العالم العربي قد يكون أكثر علمًا وولاءً لأبناء جلدته ولغته.

نقطة سوداء

وتبقى كارثة ما عرفت أعمق من كل ما ذكرت، فبينما كنت في اجتماع يخص رسالتي للدكتوراة، دار حديث جانبي بين بروفيسورين عن دعوة لمؤتمر علمي طبي في إحدى الجامعات العربية، فهز الثاني رأسه نافيًا وقال: طبعًا .. رفضت ..!

عندها لم يمنعني الفضول من السؤال عندما التقت عيناي بأعينهم عقب سماعي جملة الرفض بحدة .. فسألت: إذا سمحت لي، لماذا رفضت؟ أنا أعلم أن مثل هذه المؤتمرات تعاملون فيها معاملة خمسة نجوم. 

رد علي البروفيسور محاولًا أن يكون لطيفًا في الإجابة، مراعاة لأصلي العربي واحترامًا لمكانتي العلمية المميزة لديه: للأسف تواجدي في هذه المؤتمرات العربية نقطة سلبية في سيرتي الذاتية، وبالتالي تضر تطوري المهني، لذلك أرفض دائمًا.

علقت بروفيسورتي عندها قائلة: أنا أيضًا أرفض الذهاب، ولكن أنتم كطلاب دكتوراة مثلكم لا نمانع، لأنكم مازلتم في بداية طريقكم كعلماء، ولكن من مثلنا ومن له باع طويل في العلم، لا يعتبر ذهابنا هناك تطورًا لأنفسنا ولجامعتنا هنا، لأن العلم والبحث العلمي عندكم للأسف متأخر…)

هنا تعمقت في سؤالي أكثر، وسألت: يعني لا تنصحيني أن أعمل كعالمة في الدول العربية؟

للأسف هزت رأسها بعنف وقالت مشددة بالألمانية: Nein  .. يعني لا، أن تعملي هنا في الشركات الطبية مع قلة الراتب والتنافس الكبير أفضل بكثير.

لم أشأ أن أخوض حوارًا ونقاشًا عن وضع البحث العلمي في بلادنا العربية، الذي ما زال في مخاض عسير، ولا يلقى دعمًا من المؤسسات الخاصة التي تستثمر بالملايين في الشركات الأوروبية والأمريكية وغيرها، ولا تضع كما يقول المثل (من الجمل أذنه) في البحث العلمي، بينما هنا في مدينة “(هايدلبرغ) الصغيرة تجد مليونيرًا مثل “ديتمر هوب” يتبرع بالملايين سنويًا لجامعة هايدلبرغ لخدمة البحث العلمي، ففي السنة الماضية تبرع لمختبرنا وحده بجهاز كلفته مئتا ألف يورو، وهذه السنة تبرع لتطوير المستشفى الجراحي في هايدلبرغ برقم بالملايين حيث إن كلفة تجديد المستشفى هي ثمانون مليون يورو، ونصف هذا المبلغ -كما تحدثت عنه مصادر إعلامية- هو تبرعات من مؤسسات خاصة!

امتيازات خرافية

أرعبني حديث البروفيسورة في هذا اليوم الذي كان يوم التحكيم الأخير في نهاية مشروعي للدكتوراة، الذي غمرتني فيه الفرحة من كم الثناء الذي حصلت عليه على التقديم، ولكن غصة هذا الحديث آلمتني في الصميم .

فتحدثت عما سمعت مع مصدر مقرب، فقال لي: ( لماذا أنتِ مستغربة ؟ هناك مستشفيات ضخمة في الدول العربية طلبت من مستشفى هايدلبرغ الجامعي بروفيسورية أطباء ألمان في تخصصات عدة ليعملوا لديهم لمدة سنتين مقابل امتيازات خرافية، فرفض هؤلاء الأطباء، فتحدثت إليهم شخصيًا أستفسر عن الرفض، فقيل  لي: نعم المبلغ المدفوع مغري جدًا ولكن سيرتي العلمية والمهنية أهم بكثير! .. فأنا عندما أذهب هناك لن أتطور أبدًا، وبالتالي أكون قد ضيعت وقتًا بلا فائدة ..)

جاءتني حالة ضحك هيسترية اجتمعت فيها كل أنواع المشاعر والخيبات من هذه الحقائق، فسألت الشخص مرة أخرى: ولكن هناك علماء أوروبيين يعملون في العديد من الجامعات العربية والمعاهد، ألا يفكرون مثل هؤلاء؟

قال لي: مثل هؤلاء الذين يعملون هناك لا ينظر إلا إلى الأموال والامتيازات الخيالية، التي لن يحظى بها في بلده، فيقول لنفسه .. “دعني أعمل كذا سنة أبني لي بيتًا وأؤمن حياتي في وطني ومن ثم أعود فأفتح عيادة أو ما شابه أتسلى بهم بقية عمري”.

لن أضع المزيد من الملح على جراحنا ولكن أليس علمائنا العرب الذين يتعلمون في المهجر أو حتى في بلادهم، والذين يدفعون كل ما يملكون في سبيل شهادة علمية أو خبرات ترفع من وضعهم المعيشي وتشعرهم بالاستقرار العائلي، هم أولى الناس بهذه الأموال الطائلة التي تدفع من أجل استجداء العالم الأجنبي، الذي يترفع عن الحضور، خوفًا على نقصان مقداره العلمي أو من أجل أن يجني ثروات طائلة؟!

أليس العالم العربي عندما تعطى مكانته العلمية حقها سيعمل بإخلاص، ويعطي كل من حوله خلاصة علمه ويعمل جاهدًا على تمثيل وطنه على أكمل وجه، بينما العالم الأجنبي قد يكون الولاء لجامعاتنا العربية أخر اهتماماته؟!

أما حان الوقت لأن تفيق جامعاتنا ومعاهدنا العربية من عقدة الخواجة!

علياء كيوان

طالبة دكتوراة في الأحياء الجزيئية وناشطة اجتماعية. مقيمة في ألمانيا، أم لثلاث أطفال، أعمل في بحوث السرطان، هوايتي الكتابة والقراءة، همي هو النهوض بالمرأة العربية في المجتمعات الأوروبية ويكون لها بصمة ومكانة، أسست مجلة المرأة العربية في ألمانيا وهي أول مجلة إلكترونية ناطقة باللغة العربية في ألمانيا تهتم بشؤون المرأة والأسرة العربية بشكل عام.
زر الذهاب إلى الأعلى