رؤية مثقف

عقول تقليديّة

هناك أبجديات لتكوين الإنسان النابه الذي يحسن إدارة عقله، ويستثمر طاقته الفكرية في تعزيز نجاحاته, وإيصاله إلى أهدافه بطرق جديرة بالتقدير والإعجاب. هندسة بناء النجاح البشري تحتاج لمنظومة من الأسس والقواعد المعرفية التي توظف عمليا لدعم الفرد في مراحل سنواته الأولى بما يتناسب مع حجم الآمال والطموحات المنعقدة عليه في السنوات التالية.

هذه الفكرة التي تلقى ترجمة على أرض الواقع في أكثر من بلد يحفل بطاقات بشرية ساهمت في وضعه في المكان اللائق هي ما يجب أن نتفقدها نحن في مجتمعاتنا حيث نفتقر إلى الآليات الكفيلة بصناعة عقول مفكرة تأبى التقليد ، وإعارة عقلها للموجة السائدة في المجتمع، وترتقي بفكرها إلى آفاق أكثر انسجاما مع أهداف التغيير نحو الأفضل ذلك الحلم القديم المتجدد.

من أهم قواعد بناء الفرد القادر على استثمار طاقته العقلية أن نعيد صياغة الفلسفة التعليمية القائمة على استظهار الطالب لمجموعة من المواد الدراسية التي يطالب بإعادة عرضها في الورقة الامتحانية كما وصلت إليه دون زيادة أو نقصان، ولا يماري عاقل أنه قد كثر الأخذ والرد في مسـألة قصور  هذه الفلسفة عن صناعة الفرد الذي نريد. لكن الحديث الطويل والنقاش الذي يتشابه في كثير من الأحيان مع السفسطائية اليونانية لم يثمر عن نتائج ملموسة على أرض الواقع. وجه الشبه مع السفسطة اليونانية أن رموزها كانوا يجادلون عن قضايا لم تثبت صحتها، وأضاعوا على المجتمع اليوناني فرصا ثمينة في استثمار أفكار سقراط الذي عارضوه بشدة لكونه دعى لكسر القيود والتحرر من الأفكار التقليدية ونقد الذات للوصول إلى الحقائق المغيبة تحت حجج التقليد، والتراث المقدس.

إن مناخنا التعليمي يقاوم اليوم كما قاوم بالأمس كل محاولة لكسر الجدار الإسمنتي الذي بناه في العقول نظام لم يتح أي مجال لجهد الطالب، ونشاطه في جمع المعلومة ونقد ما يدرسه، كما أن المقاومة الداخلية لأي فكرة تحرض على التمرد على النمط السائد، وتدعو ليمارس الطلاب والطالبات دورًا محوريًا في الوصول للمعرفة هي مقاومة هائلة. بعض المعلمين والمعلمات ومن فوقهم في السلم الوظيفي ما زالوا يشبكون بين أصابعهم، ويديرون ظهورهم للصوت المتسائل عن أي خطوة للتغيير تختص بالمراحل الإعدادية والثانوية والحجج الجاهزة التي عرفها الصغار والكبار هي أنه لا جدوى من أية محاولة لزحزحة النظام القائم، ووضع بدائل لن ترحب بها الوزارة أو الموجه المختص! النقاش مع هؤلاء المتشبثين بالواقع، العاجزين عن الإتيان ببدائل ترفد العملية التعليمية هو حوار طرشان يؤكده التكريس البطولي للنظام السائد وبحرفية متناهية يحسدون عليها. هؤلاء الملكيين أكثر من الملك قادرون دون شك على مضاعفة كمية الإحباط في نفوس الغيورين على مستقبل الوطن حيث تنخفض فرص التغيير طرديا مع ذلك التكريس المخل لثقافة “لا أرى لا أسمع لا أتكلم خلاف ما أثبته الكتاب المدرسي العتيد“.

المطالبة بجيل مفكر في ظل سياسة تعليمية تعود الطالب على التكرار العفوي، وإلغاء طاقته العقلية في التفكير والتحليل واستخلاص النتائج هو نوع من الرهان على الجواد الخاسر، وكما أن للنجاح مقدمات، فللفشل مقدمات أيضا والفشل الذي أعنيه يتجاوز بمراحل عدة ما قد يظنه البعض رسوبا في مادة أو مادتين، أو إعادة سنة دراسية حسب ما هو شائع في ثقافتنا التعليمية التي تحتاج إلى جهود إنقاذ تتجاوز الجهود الحالية التي تبذلها وزارات التربية والتعليم في الدول العربية، كما أنها تتطلب جهودا استثنائية من قبل القطاع الخاص الذي لا يزال حتى اللحظة متفرجا على المسيرة التعليمية في عالمنا العربي.

تكوين الإنسان المفكر لن يتحقق ونحن نحاصر طيلة اثنتي عشرة عامًا عقل الطالب بسلسلة متوالية من الوسائل التي أثبتت ضعفها، وقلة فاعليتها في تحقيق مخرجات ترضي الطموحات، وتكبيل العقل طيلة المراحل الابتدائية فالإعدادية والثانوية عن الانطلاق والبحث والتعلم الذاتي سلوك غير قادر على رفد المجتمع بعناصر تساهم في وضعه في الصدارة لأن من رضع الجمود، وتغذى على التقليد، وتربى على التكرار لما يقرأ ويقال، واعتاد أن لا يعبر عن رأيه، ولا يدون ملاحظاته، وألف الاستسلام لسلطة الكتاب وسطوة المعلم، وسلطان الدرجة، بل وكوفئ لكونه أمهر الحافظين لن يقوى أن يعيش تجارب علمية تتحداه لكي يحل رموزها ويقرأ شفرتها، أو أن يقاوم الخطأ بحجج وبراهين تعوّد أن تكون حاضرة بين دفتي كتاب مدرسي فإن كان الكتاب خاليا منه فأنى لعقل يجهل البحث والتنقيب أن يقاوم الموجة العاتية أو يتخذ منها موقفا يعبر عن ثقة بالذات ، ووعي بضرورة المقاومة للهشاشة والتسطيح!!


كاتبة ومحاضرة في مجال تنمية مهارات التفكير الـإبداعي لدى الأطفال والشباب

زر الذهاب إلى الأعلى