فكرة

علمني أبي…

علَّمني أبي أن العفةَ والكرامةَ أغلى ما بالإنسان، اعتدتُ صلاتَه عند طلوعِ الفجر وصوتُه يملأ المكان. غرَس في قلبي حبَّ الأوطان، علّمني أن الإنسانَ بلا وطنٍ لا يساوي إنسانًا، كان سببَ ثقتي بنفسي، فبكلِّ جَمعٍ يكون لي فيه صوتٌ ورأيٌ، وكأنّني أملِكُ من العمُر أعوامًا حتّى أدمنتُ الوقوفَ على المنابرِ والكلام، وكتبتُ من اللغةِ أبياتَ شِعر وقصصًا وحُلْوَ الكلام..

علمني أبي أنّ الأدبَ روحٌ تجسِّده الخطوط تجمع نوتاتٍ مرسومةً بدقة، منطوقةً بالألحان؛ وبأن اللغةَ كالموسيقى، تطرِبُك، تؤثّر فيك تجعلكَ مفتونًا بسحر كلماتها، فتقنعُك، تأسركَ، ترضيك. علمني أن أكتُب لأطلِقَ ما في دواخلي من أحاسيسَ تُعبِّئ بياضَ أوراقي؛ لتنتشِلَني خطوطُها إلى الراحة والأمل.

علّمني أن الرسائلَ أفصحُ من الكلام. فها هي رسالتي، بعدَ فترةٍ طويلةٍ من توقفي عن الكتابة، كنتُ مغيَّبة، مقيدةً ومكبَّلةَ الفِكر، كنتُ أبحثُ عن الإيمانِ في داخلي، كان هذا كلَّ ما أحتاجُ إليهِ ففرَرتُ إلى الله، فررتُ إلى الحنَّان المنَّان الكريم، كنتُ على يقينٍ أن الحياةَ ليست دارَ رخاءٍ وإنّ فيها من العسر ما فيها من اليُسر لكنّي لم أكن أعلمُ أنّ الإنسانَ ضعيفٌ إلى هذا الحدّ، كنتُ أعرفُ أنّ الإيمانَ في قلبي سينقِذُ ما تبقّى من ذاتي المقصّرة.

تلك الذاتُ التي تحبُّ الحياةَ وتخافُها معًا، التفتُّ إلى إيماني، فرفعني الإيمانُ إلى حيث المولى، أتَّكل عليه وألقي حِملي وخوفي، وأتغاضى كلَّ التغاضي عما سيفعلُه بي القدَر المجهول، فمَن يملِكُ مفاتيح الغَيب سواه، مَن يملِكُ الدواءَ لكلِّ داء إلاه، مَن يملك تيسير الإدبار إلا هو عز جلاله… في الكمالِ أمران أن ترى الكونَ بوطنٍ ومنزل مِلؤه الإيمان.
علّمني أبي أن أفرَّ إلى الله في شكواي، فلو لا عِلمنا بوجودِه لتعِبَت أحوالُنا ولَمَا استطعنا احتمالَ دنيا لا تُسمن ولا تُغني من جوع، دُنيا لا تُهديك الحياةَ على طبق مِن ذهب، لا تُرضيك، ويُرضيكَ اللهُ أحسنُ الخالقين، فإذا حزنت تدرك وجودَ القادرِ على تغييرِ الأحوال، تَمرضُ وتعلم وجودَ الشافي، تغضبُ وتعرف وجودَ العادل، وأنت بين كلِّ ذلك مدرك أنها دنيا فلا تحزن وأنت بين يدي القادر..
وهذه المرةُ الأولى التي أنقطِع فيها عن الكتابة إلى هذا الحدّ، وعدت لأن الله قال في كتابه العظيم “لا تيأسوا من روح الله”.

علمني أبي أن أفرحَ لأن الحياةَ لا تستحقّ الحزنَ والخوفَ والقلق.. علمني أنه مهما كانت ظروفُ حياتي قاسيةً عليها ألا تجبرَني على تغيير أحوالي.
علمني أن أقفَ على قدميَّ في كلّ مرة أضعُف فيها وتخور قُواي.

علمني أني سأكونُ على ما يُرام، وأني في خيرٍ عظيم، وبأن صفاءَ سريرتي وطيبةَ قلبي أغلى كنوزي. علمني أن أستقبِلَ الحياةَ بحفاوة بالغة، وبأن الأمور تقاس مجتمعة لتملأَ عينَيك بها؛ فكِسرةُ خبز لا تكفي لتسدَّ رمقَك، عينٌ واحدة لا تكفيك لتبصرَ كلّ شيء، ونجمة واحدة في سماءٍ معتمة لن تبهِرَك وحدَها، عندما تجتمعُ الأشياءُ مع بعضِها تصبحُ الصورةُ مكتملةَ السِّحر. علمني كيف ألملِمُ دنياي لتصبح الصورةُ مكتملةً والحياةُ مرضية.
علمني أنَّ السماءَ والأرضَ والشجرَ والبحرَ وحدها لا تعني شيئًا، لكنَّ لملمة الأجزاءِ تعطي جمالًا ساحرًا، فسبحان مَن خلق كل هذا وأحسن تدبيره.

علمني أن كلَّ المبادئِ في بيتنا مُنتقاة بعناية، وأنّ الصمتَ فضيلة، وأنّ الغضبَ لا يُصلِح الإنسان، علمني أن أحتميَ بثقافتي، وأتمسّكَ بعلمي، وأن أكونَ حرة، وأن أنطِقَ بالحقّ، ولا أخاف إنسان.

علمني أنّ طبقَ النحاس القديمَ أكثرُ قيمة من طبق الزجاج الجديد، وأن كلّ لؤلؤةٍ من اللآلئ تمتلكُ خصائصَ تنفرِد بها عن غيرها، فلا توجد لؤلؤتان متشابهتانِ في سماتهما التي تُميزِّهما، أن أنظُر إلى الأشياءِ على بعد مسافةٍ لألحَظَ جمالَها وقيمتَها؛ لأنّ العينَ قد تخدع، لكنّ الروحَ لا تقوى على ذلك.

علمني كيف أصنَعُ قصتي وأنامُ بين القصص، لتُكملَ أحلامي الحكايات…
وأن السماءَ في بلادي لا تشبهُ السماءَ في أي مكان، حمراءُ هي السماءُ في بلادي، حمراءُ وصفراءُ وزرقاءُ وبرتقاليةٌ هي السماءُ في بلادي، فقط في بلادي، تبدو السماءُ مزيجًا من الألوان.
علمني أن أخافَ لكي لا يندثِرَ اسمي تحتَ التراب، كيف يكون خوفي دافعًا نحوَ النّجاح.
علمني مثلًا روسِيًّا:

” كلنا أقرباء؛ فقد جفَّفت شمسٌ واحدةٌ ثيابنا”.

علمني أنّ الحبّ غيرُ مشروط، وأنّه يقعُ في القلبِ موقعَ الروحِ…اللهم أقرَّ عيني برؤية أبي بصحة وعافية.

رزان الزيود

كاتبة، وأستاذه جامعية في قسم اللغة الانجليزية بجامعة البترا، تخرجت من الجامعة الأردنية حيث حصلت على درجة البكالوريوس في تخصص اللغة الإنجليزية التطبيقية/ قسم اللغويات. حاصلة على درجة الماجستير في اللغة الانجليزية من المملكة المتحدة.
زر الذهاب إلى الأعلى