فكرة

في عالم “الكيبورد” هل انتهى للأبد خط اليد؟

هناك تقنية فنية في أدب الخيال العلمي تعتمد على “ماذا يحدث لو؟“

“ماذا يحدث لو“ اكتشفنا كواكب مأهولة؟!

“ماذا يحدث لو“ اختفى القمر؟!

“ماذا يحدث لو“ توقف الزمن؟!

في العام 2016 قررت فنلندا وهي الرائدة وصاحبة المركز الأول في تكنولوجيا التعليم أن تلغي بشكل كامل الكتابة اليدوية داخل المنظومة التعليمية، وتعتمد على لوحات الكتابة الالكترونية.

هذا القرار المستحق للتأمل والمثير للجدل في آن واحد. هنا نطرح السؤال “ماذا يحدث لو“ استيقظ العالم فجأة دون كهرباء ولا شبكات إنترنت ولا اتصال؟

“ماذا يحدث لو“ فُقدت التكنولوجيا وانقطعت الطاقة هكذا بين يوم وليلة؟

ما مصير بشرية لا تستطيع أن تدون بالقلم وتستخدم الورق والحبر؟ وما مصير العلوم والمعرفة؟؟

في فنلندا كان رأي عضو المجلس الوطني للتعليم الفني، (مينا هارمانين):

“لقد اعتدنا منذ الصغر على حضور حصص الكتابة بخط اليد، حتى نتمكن من الكتابة بشكل أسرع، ولكن الأمر اختلف في هذه الأيام، حيث بدأ الأطفال تعلمه في الصف الثاني أي من سن ثمانية أعوام، ويستغرقون في ذلك عامًا دراسيًّا، قبل الانتقال إلى التركيز على ما يكتبونه، بدلًا من طريقة كتابته“، وأضاف: “ليس لديهم الوقت ليتعلموا الكتابة النسخية بسرعة، فهي لم تعد مفيدة بالنسبة لهم“.

كما أكد أنه: “اعتبارًا من عام 2016، سيتم تدريس التلاميذ فقط الكتابة اليدوية المطبوعة، وسيقضون المزيد من الوقت في تعلم مهارات لوحة المفاتيح، الأمر الذي أدركنا أنه مهم جدًا لسوق العمل.“

هناك دراسة بريطانية تمت عام 2012 وجدت أن ثلث المستطلعين والمشاركين في تلك الدراسة لم يكتب أي كلمة بشكل صحيح باليد في الأشهر الستة السابقة! وفي العديد من الولايات الأميركية أُلغيت العديد من دروس الكتابة النسخية من المناهج الدراسية.

هل تلك المؤشرات مثيرة للبهجة أم مثيرة للقلق؟

هل نحن من نروض التكنولوجيا أم هي من تروضنا؟!

الكتابة باليد تعد واحدًا من الأفعال البشرية التي تحمل بصمة الشخصية وهويتها المميزة.

لكلٍّ خطه وحروفه وبصمته الواضحة، الكتابات والوثائق التاريخية حملت بصمات أصحابها رغم مرور السنين ومن خلال بصماتهم وخطوطهم تمكن خبراء الخطوط من تأكيد صحتها أو نفيها، من خلال الخط نؤكد أو ننفي هل تلك الكتابة تنتمي للشخص نفسه أم لا؟!

فكيف ببساطة بحجة التقدم والتطور التكنولوجي نفقد هوية واضحة وبصمة شخصية مميزة؟! ونصبح كلنا متشابهين وخطوطنا نسخًا مكررة تفتقر إلى روح صاحبها؟!

لا تزال الولايات المتحدة تناقش اتخاذها قرارًا تعليميًا مشابهًا لفنلندا، في حين بدأت أستراليا تطبق تدريجيًا هذا النظام، وهو تخصيص وقت أكبر لتعليم الكتابة على الأجهزة اللوحية بدلًا من خط اليد، ففي حين كان تعليم الخط في ستينيات القرن الماضي يستغرق ما معدله 45 دقيقة يوميًّا من وقت الطالب، أصبح معدل الوقت المخصص له مؤخرًا 5 دقائق فقط.

الداعمون لهذا القرار يرونه خطوة إيجابية لتحسين مهارات التعلم ولمواكبة العصر وتوفير الوقت المستهلك للمهارات الكتابية اليدوية واستغلاله في مهارات أكثر فائدة.

حسنًا.. ولكن هل يقتصر الأمر على الكتابة فقط؟

ماذا عن الرسم والفنون والتخطيط؟

ثم ماذا عن مستقبل لا نستطيع أن نقرأ أيضًا وثائق ومخطوطات قديمة مكتوبة بخط اليد؟ لن يقتصر الأمر على التدوين بل القراءة أيضًا.

خط اليد أكثر من مجرد ورقة وقلم

يشبه خط الشخص البصمات: قد يقلده الناس، ولكن لن يستطيعوا كتابته بطريقة مماثلة. تتشارك عدة عوامل للتأثير في خط الشخص في الكتابة المكان الذي نشأ فيه الشخص، مع أول لغة تعلمها، وأشكال الكلمات فيها، مع بعض العوامل المختلفة فيخلقون نمطًا فريدًا من الكتابة لكل فرد. حتى التوائم الممتاثلة لا تتشابه خطوطهم.

وعلى المستوى الطبي اضطراب الخط أثناء الكتابة أواختلاف الخط عن المألوف قد يكون من مؤشرات الإصابة ببعض الأمراض.

يقول “ستانسيلاس ديهاينس“، العالم النفسي في جامعة «كوليج دي فرانس» في باريس: «عندما نكتب يجري تنشيط دارة عصبية فريدة من نوعها. فثمة تعرّف جوهري وأساسي على هذه الحركة، أي (حركة اليد) لدى تدوين إحدى الكلمات، على صورة تعرُّف على المحاكاة الفكرية التي تدور في الدماغ”.

في 2012 قامت “كارين جيمس“ وهي اختصاصية نفسية في جامعة إنديانا بعمل دراسة على الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة.

كان هدف الدراسة استنباط تأثير الكتابة اليدوية في أنشطة المخ.

في العينة الأولى عُرض على الأطفال بطاقات تحتوى على أحد الحروف الأبجدية وطلب من الطفل تقليد الحرف وإعادة كتابته.

عندما قام الأطفال بإعادة رسم الحرف بأيديهم ونسخه ظهر لديهم نشاط في ثلاث مناطق في الدماغ وهي المناطق المسؤولة عن القراءة والكتابة لدى البالغين.

وهي: التلفيف المغزلي الأيسر، والتلفيف الجبهي السفلي، والخلفية القشرية الجدارية.

– في المقابل عرض على العينة الثانية من الأطفال الآخرين أن يقوموا فقط بطباعة الحرف من خلال الكمبيوتر.

وكانت النتيجة أن لم يظهر على أدمغتهم أي نشاط وكان تأثير هذا الفعل ضعيف جدًا في نشاطهم العقلي.

وفي جامعة واشنطن لاحظت فيرجينيا بيرنجز الاختصاصية النفسية أن الكتابة اليدوية تساعد على توليد الأفكار بشكل أكثر.

كما أن الأشخاص الذين يكتبون بأيديهم تكون جملهم أكثر إبداعًا وصياغتها أحكم وأقوى.

كما أن المصابين بعسر القراءة يرون قراءة الكلمات المطبوعة أصعب من قراءة الكتابات والنصوص اليدوية.

مزايا عديدة يجب عدم إهدارها

– في العلاجات النفسية تستخدم الكتابة اليدوية لتحسين المزاج، بعض الأطباء يرى أن كتابة جملة محفزة أو مفرحة أكثر من مرة باليد يساعد على تهدئة الأعصاب واكتساب حالة نفسية جيدة.

– ليس هذا فقط، أيضًا كبار السن المعرضون للأمراض الشيخوخة والذاكرة تساعدهم الكتابة اليدوية على تحفيز مناطق مختلفة في الدماغ وتنشيطها.

الأمر أشبه بعمل تمارين رياضية للمخ حتى لا يصيبه الترهل والكسل.

– في دورية “سايكيولوجي توداي“ وفي تقرير عن أهمية تعلم الكتابة بالخط المائل لتطوير المخ، حيث إنه من خلال تعلمه يتطور التخصص الوظيفي للمخ الذي يدمج كلا من الإحساس، والتحكم في الحركة، والتفكير.

ولكتابة خط يد مقروء، هناك حاجة إلى التحكم في حركات الأصابع الدقيقة أيضا.

– إن إشراك الجسم بالكتابة يدويًّا يساعد على فعل نشاط أكثر شمولية. يوجد شيء مادي ومتعدد الأبعاد بشكل فريد حول وضع القلم على الورق لتكوين الكلمات والجمل.

– يشهد العديد من الكتاب على قيمة المسودة الأولى المكتوبة بخط اليد والعملية اللاحقة في القراءة والتفاعل مع كتاباتهم عن طريق التعليق عليها وتصحيحها وتحريرها وإعادة تشكيلها ككل. فالنسخ على الشاشة يحثنا بدلًا من ذلك على التعديل، سهولة الحذف والمسح لا تساعد العملية الإبداعية كثيرًا.

– الأفكار تحتاج إلى التنفس، الكتابة اليدوية تساعد على هذا التنفس بإبطاء التدفق وإعطاء كل فكرة الوقت اللازم.

– الكتابة اليدوية لشخص ما مقرب هو شيء أكثر حميمية ولا تنقله الكتابة على الألواح الإلكترونية بأي شكل، لطالما كان الخط يحمل بصمة صاحبه وشعوره وهواجسه.

– الكتابة البارعة لها تدفق مهدئ وإيقاع، في حين أن التكنولوجيا والثقافة تحثنا على العمل بشكل أسرع وأكثر كثافة، فإن المهام مثل الكتابة يمكن أن تساعدنا في إيجاد توازن سليم في عملنا، وتعلمنا، ولعبنا.

– لقدرة على الكتابة دون عناء تمكن العقل من التركيز على نحو أكبر على موضوع ما؛ فالصعوبة بالكتابة اليدوية تتطلب طاقة دماغية قيِّمة بعيدًا عن أي مهمة كتابة، ولكن عندما تتقن هذه المهارة، فإنها تصنع الفارق. الكتابة اليدوية الماهرة والمليئة بالأصول هي مصدر للتعلم!

نحن لا ننكر أهمية تعلم النسخ والكتابة على لوحات المفاتيح الإلكترونية؛ فالتكنولوجيا ومفرداتها هي لغة العصر الحديث التي لا يجوز بتاتًا تجاهلها. ولكن من المهم ألا نجعل التكنولوجيا هي من تروضنا وتُفقدنا هبة مميزة ومتفردة كالكتابة بخط اليد.

ما المانع من تعلم الاثنين بل إجادتهم معًا؟!

بالمقارنة بين خط أطفالنا في الكتابة اليدوية مع خطوطنا عندما كنا في مرحلتهم العمرية نفسها.

بل بمقارنة خطوطنا مع خط الأجيال السابقة لنا نجد أن الجمال الشكلي على سبيل المثال للخط في انحدار متواصل.

والاهتمام بأصول الخط وقواعده وجمالياته.

لنمرن أيدينا قليلًا، ونكتب لأحبائنا بخطوطنا المميزة لكل واحد منا عبارات مرحبة ومحفزة وجيدة تنقُل إليهم القليل من أرواحنا معها.

حتى لا يأتي اليوم الذي تصبح فيه الكتابة اليدوية فنًّا مندثرًا.

المصادر:

12 Reasons Why Handwriting Is Important

فنلندا تعلن نهاية الكتابة اليدوية في المدارس

The Handwriting Debate

زر الذهاب إلى الأعلى