الأدب

قصة لم تنتهي بعد

  • وأخيرًا رن الجرس، لتبدأ حصة اللغة العربية التي طالما انتظرتها، وعلى غير العادة دخلت إلينا معلمة اللغة العربية بثوبٍ فلسطينيٍّ جميلٍ، مطرزٍ بألوانِ العلمِ الزاهيةِ تحمل إلى ناظرها معانٍ ساميةٍ راقيةٍ، وقد رُسِمَت على وجه المعلمة ابتسامةً تمدنا بالأمل، وقالت بصوت مليءٍ بالتفاؤل: اليوم سنسافر مع درسنا إلى القدس، حيث سنجد لؤلؤةَ الحضارةِ الإسلاميةِ، مسرى رسول اللهِ محمد صلى الله عليه وسلم، وقلبَ الوطنِ العربيِّ النابضِ! ولكن سرعان ما تحول صوتها المتفائل إلى صوتٍ تكبته وتخنقه الحسرة، عندها نَظَرَت إلى الأرضِ وقالت: أو القلب “النازف”، فقلنا جميعاً بصوت واحد: بالتأكيد إلى المسجد الأقصى، وأمسكنا جميعاً بأيدي بعضنا البعض وبصوتٍ واحدٍ هتفنا: هيا لنحلق نحو المسجد الأقصى. في تلك اللحظة شعرت بقلبي يقفز يريد أن يتحرك من مكانه، ومع كل ثانية كان ينبض آلاف النبضات فهو لا يطيق صبراً الوصول إلى المسجد الأقصى . كانت نسائم الحرية المحملة بروائح دم الشهداء تملأ أنفي طوال الطريق، كنت  أشعر بالأرض تنبض بالحضارة الإسلامية وتريد أن تصرخ بأعلى صوتها وتُسمِعُ العالمَ أنها عربية، ومع أمطار الخير والعطاء ارتقينا إلى أرض المسجد الأقصى، وبدأنا جولتنا في رحاب الخير والشرف والعراقة والبركة، فهنا حائط البراق، البراق الذي وقف ينتظر أن يحمل على ظهره أعظم وأشرف الخلق، ومن محراب المسجد كنت أسمع صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن في صلاته وهو يؤم الأنبياء عليهم السلام في أرجاء المكان، وهناك إلى جانب قبة الصخرة خالت إلي صورة عمر بن الخطاب وقد فتح بيت المقدس، أما على أبوابِ المسجد كان يقف صلاح الدين الأيوبي وجيشه تملأ أعينهم العزة، وفي وسط ساحة المسجد كنا نقف نحن حائرين إلى أين نتوجه، ثم قررنا البدء بقبة الصخرة، كانت نقوشها العربية الإسلامية تحمل الكثير لتقوله، فهي تحوي في سطورها الكثير من الحضارات التي تعاقبت عليها، وأما ألوانها فأحسست أنها تريد أن تنطق شكرًا للهاشميين على ما بذلوه من جهودٍ من أجلِ إعادةِ إعمارها هي والمسجد الأقصى. ومن وسط تلك المشاعر والأحاسيس ولمسات الجمال، نادت معلمتنا حان وقت الغداء، فتوجهنا جميعاً نحو شجرة زيتون مزروعة إلى جانب المسجد لتناول الغداء عندها، ولكن استوقفني صوت، بدا وكأن أحداً يبكي، التفت خلفي لكنَّ أحداً لم يكن، دققت في مصدر الصوت، فإذا به ينبعث من المسجد الأقصى! فتوجهت نحوه بخطواتٍ متأنية يحدوها شعور غريب والتففت حوله فرأيت عجبًا، لقد كان المسجد الأقصى يبكي ويذرف الدموع شاكيًا همه للمسجد الحرام! فجلست أراقب ما يجري بهدوء.  المسجد الأقصى: آهٍ يا أخي من جور الأيام، آهٍ من ألم قاتل. المسجد الحرام: ما بك؟ ما الذي حل بك؟ لم نألف كلمة “آه”، ولم نعتد على الشكوى والألم، فما الذي جعلك تتألم وتتوجع؟ وما الذي جعلك ترفع صوتك بالبكاء إلى حدٍ يُسمِعُ الآخرين نواحك؟! المسجد الأقصى: كيف لا أنوح ولا أُسمِع العالمَ نواحي؟ كيف لا أصرخ وأتألم؟! سرطان يا أخي سرطان، سرطان اقتحم قلبي وانتشر ولازال في أرضي، سرطان بل واللهِ أدهى وأمر؛ فهو من أصلٍ صهيونيٍّ خبيثٍ، أضعفني ودمر لبناتي، وأخال أنني سأسقط في أي لحظة. المسجد الحرام: سرطان! لا يمكن هذا، فأنت شجرة ممتدة الجذور في الأرض وقفت في وجه الريح العاتية لا يهزها إعصار ولا زلزال … أنت من أنت…؟ أنت من تطأطأ أمامه رؤوس الجبابرة لعظم شأنك…أنت من يرتبط اسمه بالحبيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم – ، لهذا عليك الصبر…والسرطان على انتشاره وقوته لا بد من استئصاله في يوم ما. المسجد الأقصى: لكن أمتي أمة هدها طول السبات، حتى إن الناظر إليها يشك بأنها لا زالت على قيد الحياة؛ ولا عجب في ذلك فقد اعتادت وألفت هذا السرطان الذي بات كالأخطبوط يمد أذرعه في كل أعضائها، مستشعرًا الوجود العربي والديني لينفث سمومه المستمرة التي تغطي الموجودات حوله وتعطل أي فكرة تدعو إلى اليقظة والعودة إلى أمجاد العرب، آهٍ آهٍ… فقد اشتقت إلى صلاح الدين كثيرًا، اشتقت لزمن العزة والنصرة، اشتقت إلى جحافل المصلين تؤمني في كل جمعة،  فأبنائي يعانون من ذلك السرطان الخبيث الذي يستنزف دمائهم في كل يوم والعرب ساكتون صامتون…لا لا، لا أريد أن أظلمهم فهم يشجبون ويستنكرون وباستنكارهم هذا هم يقتلون أي أمل في نفسي للتحرر من قيود سرطان الصهيون. هذه هي قصتي يا صاحبي، وتسألني لم أبكي! وإلى جانبه وقف طفل بقدمٍ واحدةٍ وقد بدا عليه الحزن والأسى وقال بأعلى صوته: لست وحدك من يريد أن يحدث العالم بقصته، أنا أيضاً أريد أن أحدثُهُم بقصتي، أريد أن أحدثُهم عن قصةٍ نطق بها الطيرُ والشجرُ والحجرُ، عن قصةِ بيتٍ قنديلُه مكسور، عن قصةِ لعبتي المحروقة، عن كيفيةِ قتل الزنبقة، عن النارِ التي أحرقت الجديلة، عن الدمعةِ التي تنهمر كل يومٍ من كلّ أم فلسطينية، عن عرسٍ لم يُحتفَل به، عن نزهةٍ لم نستمتع بها، عن طفلةٍ لم يسمحوا لها بأن تنمو وتكبر، عن كرةٍ لم يستطع طفل قطعت قدمه أن يقذفها، عن حمامةِ السلامِ قتلتها دبابة قتلةِ الأنبياء، عن قصة مفتاحٍ لم يستعمل منذ زمن، كتاب الله وماذا حصل له في المسجد المدمر، عن كذبة “السلام”. وعندها صرخت بأعلى صوتي قائلةً: أنا أيضاً عندي قصة، عندي قصة أجيال قادمة، أجيالٍ ستحررك يا أقصى، قصة علمٍ فلسطيني عنيدٍ عزيزٍ شريفٍ يرفضُ أن ينكس، عن حلمٍ مستمر، وأملٍ لا ينتهي، فلنبدأ بإشعال شمعةٍ لإنارة طريق تحريرِ فلسطين، شعاعِ نورٍ لإنارة ظلمة الليالي الحالكة وجبروت الظلام في هذا العالم، فيا أيها العالم هل سمعت قصتي؟ حينها قالت المعلمة: انتهى درسنا لهذا اليوم، لكن القصة لم تنتهي بعد، ولا زال المسجد يتألم وينتظر من يخلصه، فمن منكم سيكون صلاح الدين القادم؟ طالبة في الصف الحادي عشر مدرسة حكومية في الأردن

زر الذهاب إلى الأعلى