كيفما تكونوا يكونوا: التعلم بالتقليد يسبق التلقين
هناك حقيقة مهمة يُغْفِلُها كثير من الآباء عند التعامل مع صغارهم، وهي أن الصغير يتعلم بالتقليد أكثر مما يتعلم بالتوجيه. فالصغير يتعلم اللغة بمحاكاة أبويه وليس بدراسة قواعد اللغة! وقل مثل ذلك عن باقي المهارات وأنماط السلوك التي يكتسبها الصغير في سنوات حياته الأولى .
ومن عجبٍ أن كثيرًا من الآباء يتصرف بطريقة معينة في مواقف معينة، ولكنه يصرّ على ألا يتصرف صغاره على نفس المنوال، ويزعم أنه يريد تعليمهم السلوك الأقوم! ومرة أخرى، فإن هذا المسلك من جانب الوالدين يكون مصدرًا لصراعٍ من نوع جديد. وواضحٌ في هذه الحالة أن الوالدين نَسِيا أن صغيرهما مطبوع على التقليد والمحاكاة. هكذا خُلق، وهكذا يتعلم في السنوات الأولى من عمره. وطبيعي أن حل هذا النوع من الصراع يكمن في أن يسلك الآباء نفس السلوك الذي يطلبونه من صغارهم.
خذ مثلًا ذلك الأب الذي لا يكف عن استخدام ألفاظ نابية في حديثه، فهي تجرى على لسانه مجرى الدم في عروقه. وصغاره من حوله يتعلمون تلك الألفاظ ويضيفونها إلى قاموس معرفتهم، فإذا ردّد الصغار نفس الألفاظ النابية التي تعلموها من رائدهم، جاءهم النّهْرُ والزّجْرُ! فإذا عادوا إلى مثلها كان التهديد والوعيد، ثم العقاب! فمن المُخطئ ومن المُصيب؟!
ليس يفيد أن يعطي الآباء أبناءَهم عشرات التوجيهات والنصائح والأوامر كل يوم عما يليق وما لا يليق، بقدر ما يفيد أن يكون سلوك الوالدين قدوةً لصغارهما.
والزوجة التي تكذب على زوجها، تزرع بذور الكذب في صغارها دون أن تشعر، ولن يفيد بعد ذلك أن يتلقى الصغير عشرات النصائح عن فضيلة الصدق.
والوالد غير المنظم في بيته ونفسه وهندامه، يغرس الفوضى في صغاره بسلوكه. ولن يجدي بعد ذلك أن يُؤمَر الصغير بالنظام وحُسْن الهندام.
كذلك الأم التي لا تعتني بنظافة نفسها وبيتها، تعلم صغارها عدم النظافة. ولا قيمة لأي نصيحة توجه للصغار من بعد عن أهمية النظافة وضرورة مراعاتها.
سلوك الآباء إذن يدخل عنصرًا أساسيًا في صراع الآباء والأبناء، ولمّا كان سلوك الصغار مكتسبًا بتقليد سلوك آبائهم، فيجب أن يكون الآباء قدوة في السلوك القويم. ولا حاجة إلى عشرات التوجيهات اليومية إذا توفر السلوك الفعلي. يكفي أن يفعل الآباء شيئًا فيحاكيهم الصغار.
بتعبير أبسط، فإن سلوك الطفل مرآة لسلوك أبويه. وفي هذا ما يكفي لإلغاء حملة التوجيهات التي تجعل الآباء في حالة عصبية، وتجعل الصغار في حالة تمرد وعصيان.
جدير بالذكر أن كثيرًا من أنماط السلوك التي يعاقب عليها الصغير تكون مكتسبةً من الكبار! ولا يكون الحل التربوي بتجريب كل أنواع العقاب على الصغير، بقدر ما يكون بتوفير قدوة سلوكية من الوالدين، مع التصرف بحكمة تسمح للصغير أن يعيش طفولته في حرية وبراءة، في إطار توجيهيٍ ملائم يعينه على الرشاد.