صوت المعلم

لتعليم التمريض مذاق لا يعرفه إلا من خبره

إذا كنت ترغب أن تبقى في عقول الناس، وأن تجعل نسخًا كثيرة منك، فكن معلمًا.. لا تكن معلمًا عاديًا، بل معلمًا مخلصًا متقنًا يبني؛ لو راجعنا التاريخ سنجد الكثير من الأمثلة الحية لمعلمين امتد أثرهم على مدار التاريخ.

كان حلم الوقوف أمام الجموع ومخاطبتهم يداعب خيالي منذ الصغر، وكنت أجد نفسي في تعليم الآخرين وتوجيههم لما ينفعهم؛ كانت آمالٌ واسعةٌ تعتمل في داخلي وتلقي بثقلها على سلوكي، وتبث الهمة داخلي؛ ولأن الظروف الاقتصادية حالت بيني وبين حلمي في أن أصبح طبيبة، حاولت أن أسير بخط مواز، حتى وإن كان بمرتبة تختلف، فذهبت إلى التمريض الذي أرضى الكثير من رغباتي، برغم أني بقيت أفتقد الاستقلالية في العمل؛ لأن التمريض يعتمد بشكل كبير على الأوامر المتلقاة من الأطباء؛ وهو ما كان يشعرني بالحصار.
فبعد حصولي على درجة بكالوريوس التمريض من جامعة القدس أبو ديس، اتجهت للحصول على دبلوم عالي في القبالة، فشعرت حينها بأنني صححت مساري السابق، فمرافقة المرأة في تجربة من أصعب تجارب حياتها، ومساعدتها على احتمال آلام المخاض والولادة، وتثقيفها صحيًّا ودعمها نفسيًّا وطمأنتها ومرافقتها حتى الخروج من المشفى بسلام مع وليدها كان حلمًا عبرته بكامل رغبتي.

ولطالما رددت مقولة عزيزة على قلبي في وصفي لمهنة القبالة والقابلات: “الحياة تولد على أيدينا نحن القابلات؛ فما أروعنا من ملائكة غير منزهة”.

عملت في مستشفى وكالة الغوث في قلقيلية رئيسة القابلات في قسم الولادة ما يقارب أربع سنوات حصلت أيضًا خلالها على درجة الماجستير في علوم البيئة، ولأن حلم التعليم كان لا يزال يؤرقني، ويجذبني إليه، وبدعم وتشجيع من زوجي، قررت الانتقال للتعليم، فانضممت إلى الطاقم التدريسي في كلية ابن سينا للتمريض والقبالة؛ وكان مقرها آنذاك مدينة رام الله التي تحتاج إلى السفر يوميًا ما يزيد خمسة وثمانين كيلو مترًا لبلوغ مكان العمل.

غمرتني النشوة بالعمل الجديد واندفعت أعمل وأنقل ما لدي من علم وخبرات للطلبة والباحثين. وما كدت أنخرط في عملي الجديد، حتى اشتعلت شرارة الأقصى التي كانت ردًا على اقتحام شارون للمسجد الأقصى بعد صلاة الجمعة وتجاهله لجموع المصلين، وارتكب الاحتلال حينها مجزرة داخل الحرم القدسي، وبدأت حقبة جديدة في حياتي حينها، وفي تاريخ فلسطين أيضًا.

لا أستطيع أن أتحدث عن تجربتي في تعليم التمريض دون الحديث عن انتفاضة الأقصى، التي ما إن انطلقت شرارتها حتى أُغلقت المناطق الفلسطينية كافة، وحوصرت المدن، ووضعت الحواجز التي قطعت أوصال المناطق ومنعت التنقل من مكان إلى آخر، مهما كان الأمر عاجلًا أو إنسانيًا، وحدث كثيرًا أن توفي مرضى، وولدت نساء على تلك الحواجز.

بدأت هنا مرحلة جديدة من التحديات المرَّة التي لا بد لي من خوضها، ليس رغبة مني وإنما لأنها فُرضت عليَّ فليس لمثلي أن تتأخر أو تتراجع أمام تحديات واجهتها.

كنت أخرج قبل انبلاج الفجر إلى أطرف مدينة قلقيلية لأنطلق من بين الأراضي الزراعية الموحلة شتاءً والمخيفة لامرأة مثلي لوجود الزواحف من أفاعي وغيرها صيفًا، ولكن المرأة الفلسطينية شجاعة لا تخاف، فالخوف يولي هاربًا من وجهها إن قابلها صدفة.

كنت أمشي مسافة تصل إلى ثلاثة كيلومترات إلى أقرب قرية، فأستقلّ سيارة تنتظرني برفقة آخرين، لتبدأ معاناة الطرق الالتفافية والتي كان كثير منها زراعية متربة، تقابلنا أحيانًا دوريات المحتلين فتعيدنا من حيث أتينا لنعاود البحث على دروب أخرى بديلة غابت عن خاطرهم، لنسلكها وصولًا إلى رام الله التي كنا نضطر إلى دخولها سيرًا على الأقدام لبضعة كيلومترات لفترات طويلة من انتفاضة الأقصى.

وبعد انتهاء الدوام يكون لزامًا عليَّ أن أسلك الدروب الصعبة التي سلكتها في الصباح والتي كانت تزداد صعوبة في ساعات المساء وخاصة مع تكرار العمليات الاستشهادية وعمليات المقاومة التي كانت على أوجها في تلك الفترة، فينتقم منا المحتلون باحتجازنا لفترات طويلة ومنعنا من العودة لمدننا وبيوتنا، وحدث مراتٍ كثيرة أنني وصلت بيتي في ساعة متأخرة من الليل.

كنت أحمل حقيبتي التي تتكدس فيها أوراقي على ظهري وأسير راكضة بأسرع ما أستطيع لأبلغ مكان عملي قبل موعد محاضراتي؛ وحدث كثيرًا أنني تأخرت بغير إرادتي، فكنت أتصل على زملائي في الهيئة التدريسية ليستبدلوا محاضراتهم بمحاضراتي حفاظًا على الوقت، وفي نهاية الفصل الدراسي كنت أعوض ما فاتني من مواد دراسية متبقية وفق برنامج أتفق عليه مع الطلبة والعمادة.

التدريب العملي كان مشكلة أخرى ولكنها أقل صعوبة وتحديًا. دوام التدريب كان يبدأ في الساعة السابعة صباحًا، ولكن لأن التدريب كان غالبًا ما يكون في مشافي وعيادات ومراكز مدينة نابلس الصحية، ولأن المسافة بين نابلس وقلقيلية لا تتعدى ثلث المسافة ما بين قلقيلية ورام الله، كنت أجد السفر إلى نابلس تحديًا أقل من السفر لرام الله.

كنت أجد في التدريب العملي متعة لا يضاهيها شيء؛ فمع ستة من الطلبة يتحلقون حولي أمضي ساعات عملي الثمانية دون أن أنتبه لمرور الوقت، فما بين نقاشات نظرية تتناول جميع فروع العلوم الطبية، وتدريبات عملية على المهارات التمريضية، وإكساب الطلبة سلوكيات وأخلاق المهنة، أمضيت ما يزيد عن أربع سنوات في كلية ابن سينا التي لولا إغلاق الطرق وممارسات الاحتلال التي أحالت تلك السنوات سوادًا، لكانت من أجمل فترات حياتي الوظيفية حتى الآن.

كنت حينها مدفوعة بهمَّة عالية للوصول لعملي مهما كانت الظروف مستحيلة، لأنهي مساقاتي وأنهي أيام التدريب العملي دون غياب، مع طلبة كنت أشعر بأنهم أبنائي الذين أحرص على أن يتطوروا وينشؤوا على أفضل صورة ممكنة.

عدت لتعليم التمريض بعد ثلاث سنوات من مغادرتي لكلية ابن سينا، إلى جامعة النجاح الوطنية- كلية التمريض، التي كانت أيضًا تجربة تفيض بالمتعة والتحديات التي كان أبرزها اضطراري لاجتياز معبر “بيت إيبا” مرتين يوميًا، وتخلي الجامعة عني في اللحظة الأخيرة في إعطائي المنحة الدراسية لإكمال الدكتوراه في بريطانيا.

زر الذهاب إلى الأعلى