مدرسة فرنسية.. نظام غذائي فريد لزيادة النشاط الذهني
في ظل التطور الهائل الذي تشهده وسائل التعليم الحديثة، تتنافس المؤسسات التعليمية حول العالم لتسخير جميع الموارد العالمية، للوصول إلى مراحل متميزة في استخدام الأدوات التعليمية، كان من بينها ما عمدت له مدرسة فرنسية للتعليم الابتدائي، باستخدامها نظامًا غذائيًا فريدًا، يهدف إلى زيادة فاعلية الجسم، وتنشيط خلايا الدماغ وزيادة فاعليتها، والحفاظ عليها من الإصابة بالتهابات الدماغ الشائعة.
مدرسة “غارد” الابتدائية في إقليم “غارد” جنوب فرنسا، بدأت منذ عام 2015 بتطبيق نظام غذائي فريد، يعتمد على الأطعمة العضوية المُنتجة بأساليب لا تتضمن مدخلات صناعية مستحدثة غير طبيعية، حيث لن تحتوي أو تتعرض هذه المنتجات التي يتناولها الطلبة على أي مبيدات حشرية صناعية وسماد كيماوي، وخلال نموها لم يتم تعديلها بالتعرض للإشعاع أو المذيبات الصناعية أو الإضافات الكيماوية، ويطلق على هذا النوع من التغذية العضوية في فرنسا اسم “BIO”.
إنتاج ذاتي للأغذية العضوية بدأ بالمدرسة وانتهى بعموم المدينة
ويقول “إدوارد شاليوت” عمدة مدينة “غارد”: “إن هذه الأغذية العضوية تنتجها المدينة بشكل ذاتي، من دون الحاجة إلى استيرادها من مكان آخر”، فيما لفت النظر إلى اتساع رقعة مستخدمي الأغذية العضوية في المدينة، وهو ما أسهم في انتشار زراعتها، بعد الزيادة الملحوظة في طلبها من أهل المدينة والمؤسسات التعليمية فيها، فيما لفت “شاليوت” النظر إلى أن اعتماد الغذاء العضوي يتم حاليًّا بشكل يومي في مدرسة “غارد” فقط، غير أن الحكومة المحلية للمدينة تبحث اعتمادها في عموم مؤسسات المدينة التعليمية طيلة الأيام الدراسية، وذلك بعد دخول الأغذية العضوية للمنازل، واعتمادها في قسم خاص ضمن مراكز التسوق.
ويتم صنع الأغذية من نوع “BIO” بالاعتماد على ما تنتجه المدرسة ذاتيًا، مع استثمار بعض القطع الزراعية القريبة من المدرسة، التي خصصت المدرسة معظمها لزراعة النباتات، التي تصلح مراعي للحيوانات، حيث يتم استخدام لحومها في النظام الغذائي للطلبة، الذي اعتمد في جانب كبير منه على النباتات والأسماك والأغنام.
ويقول عمدة المدينة “إدوارد شاليوت”: “إن اعتماد هذا النظام الغذائي جاء بعد دراسات مستفيضة استمرت لأعوام مع مختصين في التغذية، والطب العام وأمراض الدماغ والأعصاب والطب النفسي، من أجل زيادة المستوى الذهني للطلبة، الذين يقضون معظم وقتهم في المدرسة، حيث يبدأ دوام الأطفال فيها من الساعة التاسعة صباحًا، وينتهي في الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر.”
المدرسة حافلة بأكثر من قرن من المنجزات التعليمية
وتقول مديرة المدرسة “ميليسا بلانكندال”: “إن المدرسة -منذ إنشائها في عام 1905- شهدت استخدام العديد من الوسائل التعليمية التي كانت تعتبر مختلفة وقتها، والتي أسهمت بتميز المدرسة، وحصولها على العديد من الجوائز على مستوى الجمهورية، فضلًا عن التفوق الذي حققه طلابها بعد انتقالهم إلى الجامعات والمعاهد الفرنسية.”
وأضافت السيدة “بلانكندال”، أن مدرسة “غارد” الابتدائية، تعتبر من أول المدارس على مستوى الجمهورية، التي اعتمدت مستشارين في الصحة النفسية والعامة، لتقييم وتقويم برامجها التعليمية، واستخدام الأساليب الترفيهية في التعليم، مع تخصيص يوم أسبوعي للدراسة خارج المدرسة في الأماكن المفتوحة، الذي ما زال معتمدًا في المدرسة كل يوم أربعاء.
وفي سعيها للمحافظة لحماية الأطفال من جميع المخاطر داخل المدرسة وخارجها، اعتمدت المدرسة منذ نشأتها على نظام تعليمي خاص يشارك فيه الأهالي من خلال دروس أسبوعية، تُسهم في تعريف الآباء على الأساليب التعليمية، وكيفية المساهمة في تنمية قدرات أبنائهم البدنية والذهنية.
نتائج مذهلة لجميع المراحل العمرية
ووفقًا لاختصاصية التغذية الفرنسية “إلن جوينود” مسؤولة قسم التغذية والصحة العامة في المدرسة؛ فإن النظام الغذائي تم اعتماده من قبل وزارة الصحة الفرنسية، وهو ما وفَّر دعمًا أكبر للمدرسة لزيادة عدد الأصناف، وتعميم التجربة للمراحل العمرية الأكبر في مؤسسات المدينة التعليمية الأخرى.
وتقول “جوينود”: “بعد اعتماد عدد من الأهالي للنظام الغذائي العضوي ذاته في المنزل، لاحظ الفريق الصحي المشرف على الطلبة، زيادة تتراوح من 40% إلى 60% في النشاط الذهني للطلبة، بعد ثلاثة أشهر من اعتمادهم على النظام الغذائي العضوي.”
فيما أكدت اختصاصية التغذية، أن هذه النِّسَب سجلت زيادة أكبر عند الأطفال والعوائل الذين اعتمدوا نظامًا نباتيًا كاملًا خاليًا من اللحوم، في حين أكدت “جوينود” أن الطلبة الذين يعتمدون نظامًا غذائيًا نباتيًا بالكامل، يتم إعطاؤهم أغذية خاصة تحتوي على العناصر الغذائية التي تعوضهم عن تلك التي تحتويها اللحوم.
فيما أشارت أخصائية التغذية الفرنسية “إلن جوينود” إلى تخصيص وجبات لحوم مذبوحة على الطريقة الإسلامية، حيث تضم المدرسة 40 طالبًا مسلمًا، يتم صناعة وجباتهم خالية من لحوم الخنزير ومشتقاته، والمنتجات التي يدخل الكحول وخل الكحول في تصنيعها.
كما تعتمد المدرسة غذاءً خاصًّا للحالات المرضية التي تتطلب عناصر غذائية خالية من السكريات أو البروتينات المعقدة، حيث تقدم لهم وجبات غذائية خاصة بالتنسيق مع الفريق المعالج لحالتهم المرضية، حيث تتم صناعتها من الأغذية العضوية ضمن المواصفات التي تتطلبها حالتهم المرضية.
النظام الغذائي “BIO” يأتي ضمن برنامج تربوي متكامل
ويقول عمدة المدينة “إدوارد شاليوت”: “إن الحكومة المحلية لمدينة “غارد” تبحث دائمًا عن التجارب الفريدة المبنية على أسس علمية”، مشيرًا بذلك إلى مشاركة المدينة في مركز براءات الاختراع الأوروبي EPO في “برلين”، وذلك من أجل مواكبة التطورات وإتاحة المجال للمخترعين لتجربة اختراعاتهم العلمية في المدينة.
حيث يؤكد “شاليوت” على أن النظام الغذائي يأتي تطبيقًا لأوراق بحثية علمية قدمتها فِرَق علمية فرنسية طيلة الأعوام السابقة لوزارة الصحة الفرنسية، وبعد اعتمادها علميًا؛ قامت الحكومة المحلية باعتمادها في المدرسة الابتدائية ضمن برامجها التعليمية، وهو ما حقق نتائج إيجابية بعد 6 أشهر من اعتماده، بحسب الطلبة وعوائلهم والفريق التعليمي لمدرسة “غارد” الابتدائية.
ويقضي الأطفال وفقًا لـ”شاليوت” جميع أيامهم في المدرسة عدا يومي العطلة الأسبوعية في السبت والأحد، بالإضافة إلى يوم الأربعاء الذي خصصته المدرسة للنشاطات الرياضية والترفيهية والتعليمية، داخل المدرسة وخارجها، فيما أكد العمدة “شاليوت” على أن المدرسة والحكومة المحلية، تعمل مع الأهالي على اعتماد النظام الغذائي ذاته في المنزل، لتحقيق النتائج المرجوة من النظام الغذائي العضوي.
النظام الغذائي “BIO” يمكّن المدرسة من تحقيق المركز الأول
واستطاعت مدرسة “غارد” بعد اعتمادها النظام الغذائي “BIO” من الحصول على المركز الأول لعام 2017 للمرة الثالثة على التوالي، باعتباره أفضل نظام غذائي مدرسي في إقليم “لنكدوك روسيون” جنوب فرنسا، والمركز الثالث على مستوى فرنسا.
وفيما يتعلق بالنتائج التي حققها النظام الغذائي على الطلبة، تقول “ميليسا بلانكندال” مدير مدرسة “غارد”: “إن النتائج ظهرت جلية بعد الموسم الأول من استخدام النظام الغذائي، الذي بدأت المدرسة باعتماده بشكل كامل في سبتمبر/ أيلول من العام 2015، والتي تمثلت باستجابة ذهنية أعلى، ونشاط بدني أكثر، مقارنة بالموسم الذي قبله للطلبة ذاتهم.”
فيما أشارت “إلن جوينود” مسؤولة قسم التغذية والصحة العامة في المدرسة، إلى أن نظام “BIO” أسهم بصورة فاعلة في زيادة مناعة الأطفال، وزيادة نشاطهم الرياضي، مع انخفاض ملحوظ في حالات الإرهاق التي كانت تصيب الطلبة أثناء ممارستهم للنشاط الرياضي.
وأضافت “جوينود” أن عدد الوجبات المقدمة حاليًّا هو 250 وجبة غذائية، تقدم على شكل ثلاث وجبات؛ وجبة غداء رئيسة، مع وجبتين صغيرتين، تقدم الأولى بعد الساعتين الأوليين من الدوام، وتتكون من عناصر غذائية مهمة تُسهم في زيادة النشاط العام للطلبة، أما الوجبة الثانية فتحتوي على مجموعة من الفيتامينات الضرورية للنشاط الذهني، التي يتم تقديمها قبل ساعتين من نهاية اليوم الدراسي، في حين يُقدم في يوم الأربعاء الخاص بالأنشطة الرياضية؛ مجموعة من عصائر الفواكه الطبيعية، بالإضافة إلى الوجبات المعتادة.
ووفقًا لما أكده “إدوارد شاليوت” عمدة المدينة منذ 26 عامًا، فإن المدينة تسعى لإشاعة هذه الثقافة الصحية لعموم المواطنين، والتخلص من السموم التي تشوب أغلب الأغذية المصنعة، وتجنب النباتات المعدلة وراثيًا، والحيوانات التي تعتمد في نموها المتسارع على المكملات الغذائية المصنعة.
تفاعل الطلبة مع النظام الغذائي
ويؤكد الفريق التعليمي لمدرسة “غارد” امتداد رقعة مستخدمي النظام الغذائي العضوي “BIO” لخارج المدينة، واعتماده في المدن المجاورة، وعدد من العوائل على مستوى إقليم “لنكدوك روسيون”، وذلك بعد تفاعل الطلبة مع النظام الغذائي والنتائج التي حققها.
وتقول الطالبة الفرنسية “ايفا دانيال” -10 سنوات-: “بعد أن خصص قسم التغذية يوم الاثنين من كل أسبوع وجبة غذاء عضوي كاملة؛ كنت أظن أن هذا النظام الغذائي هو أحد العقوبات المدرسية، بسبب جديته وخلوه من المنتجات التي نراها على التلفاز ومراكز التسوق، ولكن بعد اعتماده بصورة يومية في المدرسة؛ وجدت بأنه نظام فريد أسهم بزيادة نشاطي”.
فيما ترى “بارجريت” -والدة “ايفا”- أن النظام الغذائي العضوي أسهم في زيادة النشاط البدني والذهني لأبنائها، فيما أكدت على تطبيقها خطوات البرنامج التربوي الأخرى، التي ساهمت بزيادة ثقافة أبنائها، وتحسين قدراتهم التعليمية.
فيما يرى الدكتور “دافيد فليش” طبيب الأطفال في مستشفى جامعة “نيم”، أن النظام الغذائي العضوي “BIO” لا يفيد الأطفال في المرحلة الحالية وحسب، وإنما يمكنه تقديم نتائج مستقبلية واعدة، وذلك من خلال حماية الأطفال من المخاطر التي تسببها الأغذية المعالجة كيميائيًا، والمعدلة وراثيًا، فيما أشار الدكتور “فليش” إلى أنه يعتمد النظام الغذائي الجديد أحد أساليب المعالجة الصحية في عيادته.
الجدير بالذكر هو أن مراكز التسوق الكبرى في مدينة “غارد” بدأت في اعتماد النظام الغذائي العضوي “BIO”، وذلك بعد اعتماده في خط الإنتاج والتعامل مع المزارعين المنتجين له، فضلًا عن صنع منتجات أخرى من هذه الأغذية العضوية من دون أي معالجة، ولا سيما العصائر الطبيعية، والأغذية النباتية الجاهزة.