خواطر باحثة علمية

مرساة النهاية

ربما من أجمل مراحل الإحساس بإقتراب حصاد ما زرعت خلال فترة دراسة ماضية، هو أن يقول لك البروفيسور المسؤول: ما لديك من نتائج تكفي لكتابة رسالتك، فعليك أن تبدأ الكتابة.

في الوقت الذي ما زلت أشعر في قرارة نفسي بالخوف من حجم المسؤولية .. وأتساءل في نفسي .. رسالة مرة واحدة؟ وشعرت بقشعريرة تسري في جسدي لأن نصف العلامة تقع على جودة الكتابة  فقط..!

مشرفي Luo كان سعيدًا جدًا لأن أن ينهي لديه طالب دراسة الماجستير هو وحده إنجاز عظيم وتكتب ضمن السيرة الذاتية، وهو ذات الشعور بالسعادة الذي شعرت به خلال دراسة الدكتوراه عدما أشرفت على طالبين وعند نجاحهم كانت فرحتي تعادل حينها فرحتهم أو مثل فرحة نجاح أحد أولادي.

الكتابة وتسليم الرسالة كانت محددة بوقت مدته شهر فقط وهذا يتضمن الكتابة والتصحيح من المشرفين ثم الطباعة إلي ثلاثة نسخ وتسليم إحداها إلي مسؤولة قسم الماجستير في كلية العلوم ليتحدد الامتحان الشفوي.

دفتر المختبر Lab Journal

وهنا ضخامة المسؤولية تشعر بها عندما تعود أدراجك إلى البيت تحمل معك كل ملفات النتائج ودفتر المختبر الذي يسمى Lab journal والذي يعد من أهم الوثائق للطالب والقسم، ففيه تدون كل التجارب والنتائج بالتاريخ وأحيانًا بالساعة، وكذلك الإعادات والمحاولات الفاشلة والناجحة، المواد بأسماءها كاملة حتى إسم الشركة ورقم الكتالوج، وهذا ينطبق على الأجهزة التي أستخدمتها خلال رحلتي في بحث الماجستير.

لكن لماذا؟ حيث يستهين البعض أو يتكاسل عن الكتابة اليدوية.

ببساطة فهو يوفر عليك الوقت الكثير عند كتابة رسالة أو ورقة بحثية، فدقائق الأمور يجب أن تكون موجودة مثل أحجام أو أوزان أو تراكيز أو حتى ملاحظات بسيطة تكون قد تلقيتها خلال عرضك نتائجك ضمن سيمنار أو مقابلة البروفيسور الفردية.

وهذا الدفتر ليس ملكك بل هو ملك القسم الذي تعمل فيه، فعليك بعد الإنتهاء منه إعادته ويتم الاحتفاظ به في مكتبة القسم مدون عليه إسمك وتاريخ التسليم، ويعتبر مصدر موثق  يستعان به في تجارب لاحقة من قبل طلاب آخرين، كأن يسأل أحدهم عن تجربة معينة فيقال له فلان في سنة كذا قام بها وستجدها مدونة بتفاصيلها في دفتره.

وقد حصل وإن احتجت Lab journal لمرحلة الماجستير أثناء دراسة الدكتوراة، فذهبت إلى القسم وطلبت الإطلاع على بعض تفاصيل احتاجها وتصوير عدد من الصفحات وكانت فعلًا مثل الكنز الثمين.

الرحلة في عالم الكتابة

كان شعوري حينها وكأنني في رحلة كولومبوس، غارقة في غرفتي بين الأوراق والمصادر وذلك ضمن ساعات محددة في النهار وخصوصًا وأنا أم لثلاثة أطفال، لذلك عدد من الساعات مكثفة للكتابة في النهار ومثلها في الليل.

وكان لا بد لي قبل البدء في الكتابة الاطلاع على تجارب الآخرين، مثل رسالة الدكتوراة الخاصة ب Luo والتعرف على الترتيب الصحيح للمعلومات وكيفية عرضها، أكثر ما أعجبني هو قسم ال Acknowledgment وتعني تقريبًا التقديم أو الإهداء، وهو القسم الذي سيشعر فيه قلبك وضميرك بإرتياح ورد الجميل لكل من كان له فضل عليك خلال فترة الدراسة.

ولن أتحدث كثيرًا عن  طريقة الكتابة لأن المصادر التي تتحدث عن ذلك كثيرة، ولكن أكثر ما يجب أن نبقيه في ضمائرنا هو أخلاق الكتابة فلا نفكر بالغش أو سرقة أفكار الآخرين، فسعادة النجاح لن تتحقق كاملة إذا كان هناك ذرة خيانة لعملك وللآخرين.

وهذا يتجلى خصوصًا في قسم المناقشة Discussion وهو أهم الأقسام الذي يركز عليه الممتحنون صراحة، حتي إنني لاحظت إن بعضهم من كثرة إنشغالهم لا يقرأون غيرها، لإنه القسم الذي يتجلى فيه أسلوبك وفنك وبراعة إبحارك في عالم البحث والكتابة، وكذلك محاولة إرساء سفن نتائجك في مرسى عقول كل من قرأها، فإن علقت المرساة على سطح صلب عندها تستطيع أن تغرز علم النجاح الأولي ولكن إن فلتت المرساة من ضحالة السطح وخربطة الأفكار وعدم تسلسلها فهذا يعني إن سفينة رسالتك في ضياع وستحتاج الكثير من الوقت لترسو بطريقة أمنة.

لذلك كان الوقت الأعظم هو الذي أمضيته في كتابة المناقشة، وأما عن آلية التصحيح التياتبعها مشرفي كانت أيضًا إستراتيجية ومرتبة، حيث كنت أنهي كتابة كل قسم وأرسله له للتصحيح والمراجعة وطبعًا كان يعود لي خلال ساعات ببعض العلامات الحمراء والملاحظات الجانبية، حيث كانت أحيانًا تثير غضبي وأحيانًا أخرى البكاء من إعادة كتابة قسم كامل سهرت عليه ليلة أو أكثر فلم يكن الموضوع سهلًا أبدًا، ولكن التصميم لإخراج العمل بأجمل صورة كان الدافع لأن أقبل ملاحظات مشرفي الدقيق جدًا وأعمل بها.

ولكن عندما أرسلت له المناقشة وهو القسم الأخير عادت بأقل علامات حمراء وملاحظة حمراء جانبية جميلة يكتب لي فيها (أبدعتِ علياء! استمتعت بكل كلمة فيها وتمنياتي لك بالنجاح، بإمكانك الآن إرسال الرسالة كاملة إلي البروفيسور شتيفان لمراجعتها وتصحيحها).

أرسلت الرسالة كاملة إلى شتيفان في الأيام التي سبقت عيد الكريسماس لأفاجأ في اليوم التالي للعيد أن الرسالة حطت في رسائلي الإلكترونية بتعليق جميل يكتب فيها، قمت بتعديل بعض الأمور التجميلية للبحث وبعض المفردات القليلة ولكني فخور جداًا بهذا البحث، تستطعين بعد الإجازة طباعته وعمل إجراءات التسليم وأخذ موعد الامتحان.

سلمت الرسالة حسب النظام والآن حان موعد الفصل، فهي الآن تحت يد البرفيسورين الممتحنين وهما من عمالقة العلماء في كلية العلوم في جامعة هايدلبرغ ومشهود لهما بذلك وقد قال لي أحد زملائي يالحظك العاثر باختيار هؤلاء.

فكيف كانت علامة الرسالة وكيف كان امتحان الدفاع عن الرسالة والبحث بوجود هذين البروفيسورين العملاقين وكذلك بحضور المشرف المباشر بروفيسور شتيفان ولم يسمح ل Luo وزوجي الحضور.

هذا ستجدونه في الخاطرة المقبلة إن شاء الله  من خواطر باحثة علمية.

علياء كيوان

طالبة دكتوراة في الأحياء الجزيئية وناشطة اجتماعية. مقيمة في ألمانيا، أم لثلاث أطفال، أعمل في بحوث السرطان، هوايتي الكتابة والقراءة، همي هو النهوض بالمرأة العربية في المجتمعات الأوروبية ويكون لها بصمة ومكانة، أسست مجلة المرأة العربية في ألمانيا وهي أول مجلة إلكترونية ناطقة باللغة العربية في ألمانيا تهتم بشؤون المرأة والأسرة العربية بشكل عام.
زر الذهاب إلى الأعلى