رؤية مثقف

مع كل زائر لمعرض الكتاب أتقاسم بعض الآراء

كل سنة تحل في جميع الدول تظاهرة دولية خاصة بالكتاب، ويختلف الاحتفاء بالكتاب من أمة لأخرى، فليس حال العرب والمسلمين وهم يعانون مرض الانحطاط الحضاري في علاقة حب مع الكتاب كما هو شأن الدول التي تعيش حالة ريادة حضارية، فالاهتمام بالكتاب قراءة وتداولًا دلالة تحضر ورقي في الوعي والثقافة والاجتماع، وإهماله بؤس وتخلف وشرود، ويكفي أن نقيس مدى النهضة والتخلف بحجم القراءة والأرقام المتداولة، فمتوسط القراءة في العالم العربي بالنسبة للفرد لا تتعدى ربع صفحة سنويًا حسب المجلس للثقافة المصري، بينما تصل نسبة القراءة في أمريكا 11 كتابًا للفرد وفي بريطانيا سبع كتب للفرد.

وعن النشر فإن العالم العربي ينشر 1650 كتابًا كل سنة، في حين تنشر الولايات المتحدة الأمريكية 85 ألف كتاب سنويًا حسب لجنة الكتاب والنشر، وتلك حقائق صادمة يزكيها الواقع الذي تحظى فيه الثقافة والمعرفة أدنى الترتيب في الاهتمامات، متناسين أن النهوض لا يخرج إلا من دفة الكتب ولا تستحقه إلا الأمم التي تقدس الكتاب، وبذلك سطر الوحي الإلهي انبعاث الأمة المحمدية في أول آية من كتابها العزيز، فكانت المعرفة أساس قيام الحضارة الإسلامية وتعميرها قرونا عدة، والتخلي عنها بداية للانحطاط والتخلف، فالقراءة أساس الوجود بالنسبة للأفراد والأمم، وللأستاذ أبي زيد المقرئ الإدريسي الذي استعرنا منه العنوان أعلاه، مقول شهيرة، يقول فيها “لا نهضة بدون قراءة، لا حرية بدون قراءة، لا وجود بدون قراءة، القراءة هي نسغ الوجود!”.

وإذا كانت أهمية القراءة واضحة ولا يختلف الكثير في تشخيص الواقع الفكري والثقافي العربي البائس، ولا عن مركزية الفكر والثقافة في النهوض، فإنه ينبغي الإشارة إلى طبيعة التعاطي مع الكتاب والمعارض الخاصة به، حتى تكون الصلة وثيقة بالمعرفة السليمة والوعي لنقدي المتحرر من كل سلطة وتأثير سلبي، ومنه أتقاسم مع كل قارئ لهذا المقال وزائر للمعارض الخاصة بالكتاب بعضا من الآراء.

أيها الزائر العزيز لمعرض الكتاب، أتقاسم معك كلمات وآراء أحسب أن الأخذ بها سبيل للبناء السليم للعقل وتحرير له من كل تأثير، لنتذكر الآتي:

لا تخضع لشهوة الاقتناء وحب التملك للكتاب وحسب، حينذاك ستملأ أكياسًا عدة بالكتب، لكنها في الحقيقة فارغة، إحذر الاستسلام للكتب التي تعمل بمنطق الإغراء والإثارة، فيكون الإخراج الفني لبعض الكتب مثيرًا للناظر، حيث تجذب بعض دور النشر التي تنشر هذه الكتب العديمة الفائدة والفاقدة للعمق كثيرًا من الزوار، لكنهم ليسوا قراء حقيقة، ولا تعتبر تلك الكتب كتبًا بدلالة الكتاب الذي نتحدث عنه، والذي ينتظر منه الإسهام في الارتقاء بالوعي وتحرير العقل.

وبناء على ذلك، فكم من دار نشر لا تقدم إلا أكوامًا من ورق، وكم من كاتب يخفي في داخله شخصية التاجر وطباعه، فهو تاجر مقنع بعباءة الكاتب والمفكر، يشتغل بمنطق السوق وقيمه قيم السوق حسب المفكر عبد الوهاب المسيري رحمه الله ولا صلة له بالمعرفة والبحث العلمي، فلا يحترم إدراك القراء ووعيهم، ولا تهمه الكتابة والتأليف إلا من حيث العائد المادي، أو البحث عن النجومية في عالم تشكل الصورة وشبكات التواصل الاجتماعي سلطة على الإدراك والوعي.

تذكر، أن للمثقفين والكتاب أدواء كباقي الفئات، ولو اطلع القراء على بعض تلك الأدواء لكثير من الكتاب لنفروا من أصحابها، وهم على حق في ذلك، فهناك كتاب لامعون تقرأ لهم بتثاقل وأنت في حالة قرف لما يتداول عنهم من أمراض وعاهات تلبست بهم، فتجد صراع النخب الفكرية في كثير من الأحيان محكومة بنزعة الإقصاء وبلغة لا تنتمي للمعرفة وأخلاقيات الحوار والقبول بالاختلاف والتعدد في الرأي الذي ينبغي أن يكونوا أنبياء في الدعوة إليه، لذلك يبقى المهم هو الكتاب وقيمته العلمية، فالتقييم يكون على مستوى الأفكار التي تحملها المؤلفات لا الأشخاص، فلا تلتفت لما يقال عن كاتب أو مفكر حتى لا تجعل هوة بينك وبين إنتاجاته، فتحرم نعيم المعرفة، فالتعاطي مع الأفكار أيًا كان أصحابها هو الجوهر، والدخول معها في حوار نقدي بقراءتها هو السبيل الأسلم، وكم مما هو متداول عن كثير مجرد إشاعات تخاطب فينا الغرائز والانفعال العاطفي، والإدراك السليم يكون مركبًا بطبيعته.

تذكر، وأنت تبحث في رفوف الكتب، لا تجعل نفسك أسيرًا للإيديولوجيا، أو تابعًا لشخص بعينه أو مدرسة فكرية واحدة، فتقتني ما يؤكد قناعاتك ومدركاتك السالفة، فالكتاب الذي تقتنيه ينبغي أن يقدم لك حياة جديدة بعد قراءته، والكتاب الذي لا يزيل الغشاوة أو يدفعك للتقوقع والانغلاق على ذاتك ويشدك بالسلاسل والأغلال لما هو مقرر عندك، يأسرك ولا يمنحك الحرية، الحرية جوهر الوجود الإنساني، والمعرفة ينبغي أن تكون رافعة للتحرير من كل سلطة مادية أو رمزية تستعبد الإنسان.

إجعل نفسك وأنت تحط الرحال بمعرض الكتاب، كمن يبحث عن ثقب ليأخذ منه ضياء الشمس ليزيل عنه الرطوبة التي اعترته في الظلمة، أو باحثًا عن هواء نقي ليدفع عنه حالة الاختناق، وكل ذلك لا يتم إلا من خلال فسح المجال للرؤية بالاتساع والنظر من زوايا متعددة، فالاختلاف ينبغي التأسيس له في مداركنا وسقيه من منابع متعددة.

تذكر، أنه لا ثراء بدون تنوع وتعدد، والأرض القاحلة لا تعرف تنوعًا في الفصول، فهي عبارة عن صيف طويل، كذلك العقل الجامد، هو أسير أحادية البعد – هربرت مركيز الإنسان ذو البعد الواحد – والنظر تغذيها الوثوقية المؤبدة للجهل والتخلف، فلا مناص من انفتاح القراء على مجالات متعددة لتنوير عقولهم وفتح مداركهم لتنوير التفكير، ومن ثم الدفع بالمجتمع من حالة الركود إلى الحركة، وهذا لن يكون إلا بتجاذب الوعي الكامن فيه والاختلاف في أنماط التفكير، ولزوار المعرض تنويع القراءات حسب المجالات، وليكن من كل مجال معرفي أروعه وما يعتبر أصلًا من أصوله، فهناك كتب تشكل أعمدة مجال معرفي معين لا يمكن الانفتاح على المراجع دون المصادر الأساسية، ولك أن تتخيل ذلك في كل باب من أبواب المعرفة.

زوار المعرض فئات متنوعة وكذلك المعروضات، وأغلب ما كتب أعلاه مفيد كثيرًا في جانب منه لمن لم يحتكوا كثيرًا بالكتاب والمكتبة، وهذا من واقع الثقافة والبحث العلمي الذي يحتفظ بمكانته الدنيا في سلم اهتمامات عالمنا العربي والإسلامي الذي يعمل ساسته على صناعة التخلف لاستدامة التحكم بهم، وفيه جانب من الرأي والإشارة لمن ألفوا الزيارة وتربطهم صلة بعالم الكتاب أو زيارتهم بقصد محدد كما هو عند الباحثين الذين يسعون الإلمام بالتخصص من خلال رصد ومواكبة أهم الإصدرات في مجاله لإغناء أبحاثهم والتجديد فيها، فهم كذلك بحاجة لأن يتجنبوا الكثير من المحاذير، سيما القيم السلبية التي طغت عند مثقفينا، فمن يخطون خطواتهم في الأسلاك المتقدمة للتعليم العالي أو من يقرؤون بنهم هم مشاريع كتاب ومفكرين في المستقبل، وسيكون ذلك جناية على المجتمع إذا لم يكونوا أوفياء لقيم المعرفة والبحث العلمي، وكذلك المجتمع يحتج منهم الرصانة في التأليف وإنجاز البحوث، تجنبًا لإعادة إنتاج التخلف في منجزنا العلمي ومن أجل حركة فكرية تنمي الوعي ولا تحبطه أو تسقيه أكثر بمياه تذكي فيه نزعة التقليد والجمود لا الحركة والتجديد.

يحيى عالم

يحيى عالم، كاتب وباحث مغربي، طالب دكتوره بمختبر “الدراسات الدينية والعلوم المعرفية والاجتماعية” بجامعة محمد بن عبدالله بفاس، مهتم بقضايا الفكر والحضارة. نشر عدة مقالات ودراسات وأخرى قيد الإعداد.
زر الذهاب إلى الأعلى