تحقيقات زدني

مناهج الجيل الثاني … نكسة جديدة تضرب المدرسة الجزائرية

بعد عام كامل من التجربة، وفي خطوة غير مسبوقة ومتوقعة، أعلنت وزارة التربية في الجزائر تجميد العمل ببرامج الجيل الثاني، التي تعد ثالث إصلاحات أدرجت على سلك التعليم في تاريخ البلاد التي استقلت عام 1962، قصد فتح المجال للمرصد الوطني لمراجعة البرامج التي تم تنصيبها مؤخرًا، وسيعود 8.6 مليون تلميذ جزائري بداية من الموسم الدراسي القادم للعمل بالبرامج القديمة.

ويقول في الموضوع رئيس مناهج التربية الإسلامية بوزارة التربية “سيد على دعاس” في تصريح له أن:

“الوزارة الوصية قررت تجميد العمل ببرامج الجيل الثاني، بسبب صعوبة فهم المواد المدرسة، وتراجع مستوى التلاميذ في الأطوار الثلاثة الأول، قصد فتح المجال للأساتذة والمفتشين المنضويين تحت لواء المرصد الوطني لمراجعة الكتب الذي نصبته وزيرة التربية، الأسبوع الماضي، لمراجعة كل البرامج من السنة أولى ابتدائي إلى غاية السنة الثالثة ثانوي، لإعداد نظرة شاملة عن البرامج التي تدرّس، وهذا بعد الجدل الكبير الذي صاحب عملية توزيع الكتب المدرسية الجديدة الخاصة بالجيل الثاني السنتين الماضيتين”.

ويضيف المتحدث أن: “التلاميذ سيدرسون بداية من الموسم الدراسي القادم البرامج القديمة، رغم أنهم درسوا هذا الموسوم وفقًا لكتب الجيل الثاني”.

صرخة التلاميذ

لم يخف “رؤوف ” تلميذ في السنة الثانية ابتدائي، تعبه بعد عام كامل من الدراسة، ظهر منهك القوى من كثرة التفكير ينتظر بشغف نهاية الموسم الدراسي الحالي، للاسترخاء والتخلص من عبئ المذاكرة الثقيل وحفظ الدروس والامتحانات وأجوائها.

وقال رؤوف في تصريح لشبكة “زدني”، وهو مطأطأ الرأس ومقوس الظهر من شدة ثقل المحفظة التي كان يحملها على ظهره، يقاوم الآلام التي تنتابه من حين إلى آخر على مستوى العمود الفقري: “أنا تعبان، ومتخوف من النتائج التي سأتحصل عليها في نهاية الموسم الدراسي الحالي، بسبب صعوبة استيعاب الدروس التي تقدم لنا، هناك تغييرات كثيرة طرأت على الكتب المدرسية، ويشير إلى أنه اضطر إلى الاستعانة بالدروس الخصوصية لمراجعة الدروس وإعادة شرحها بطرق بسيطة لتسهيل الفهم، رغم أن الطور الابتدائي لا يحتاج عادة التلاميذ فيه إلى الدروس التدعيمية.

ويضيف التلميذ: “أنه مجهد وغير مهيأ نفسيًا للامتحانات، بسبب كثرة الدروس، والمواد التي تتطلب مراجعة كبيرة”.

ولا يقتصر هذا الوضع على رؤوف فقط بل ينطبق أيضًا على “ملاك” و”وئام” زميلتان له في القسم، سجلتا تراجعًا كبيرًا في معدلهما الفصلي، نظرًا لصعوبة فهم الدروس، وتقول “وئام” في تصريح لشبكة “زدني” أنها تحصلت على معدل سبعة من عشرة، خلال الفصل الثاني رغم أنها واضبت على مراجعة الدروس بشكل يومي.

وعن الكتب التي وجدت فيها صعوبة كبيرة في فهمها استدلت “وئام” بكتاب التاريخ والجغرافيا وكتاب التربية المدنية. وتشير إلى أنها تضطر في غالب الأحيان إلى الاستنجاد بوالديها، وحتى أشقائها الذين يزاولون دراستهم في الجامعة عجزوا على حد تعبيرها في مساعدتها، وقالت إن معدلها الفصلي في مادتي التاريخ والجغرافيا سجل تراجعًا كبيرًا خلال الفصل الثاني مقارنة بالفصل الأول، وتحصلت على ستة من عشرة بسبب كثرة الدروس التي تتطلب تركيزًا كبيرًا خاصة كثرة التواريخ التي تعبر عن الأحداث التاريخية التي شهدتها الجزائر.

وتقول وئام في السياق ذاته إن أستاذتها داخل القسم، تضطر في بعض الأحيان إلى تقسيم الدرس إلى فروع بهدف إيصال المعلومات إلى ذهن التلاميذ.

صغارنا لا يفهمون الدروس:

ومن جهته قال أستاذ السنة الثالثة في الطور الابتدائي بإحدى المؤسسات التربوية بولاية بسكرة “رضوان فقير”، في تصريح لـ”شبكة زدني”: إن كتب الجيل الثاني احتوت على بعض المصطلحات أكبر من سن التلميذ في هذه المرحلة العمرية، خاصة أولئك الذين يقطنون في المناطق النائية، متسائلًا كيف لتلميذ يبلغ من العمر 8 سنوات أن يقرأ عن “بيتهوفن” و “دوبلن” عاصمة أيرلندا والحضارات النوميدية، وهو لا يعرف حتى المنطقة التي يقطن فيها؟

ويشير المتحدث إلى وجود صعوبات كبيرة في نقل المعلومات للتلاميذ، قائلًا: “إن هذه المناهج تحتاج إلى التكنولوجيا بهدف تسريع وتيرة الفهم لدى التلميذ، ويضيف: “كيف تطلب من تلميذ في سن الثامنة أن يراجع 10 مواد، يدرس ثمانية ساعات كاملة في اليوم في ظل ظروف مزرية، يحمل يوميًا على ظهره محفظة يتجاوز وزنها 7 كلغ، فأي طاقة ذهنية أو بدنية تستوعب كل هاته الظروف الصعبة”، ويؤكد المتحدث أنه وفي ظل تفاقم مشاكل المدرسة الجزائرية التشريع الجزائري قيد المدرسين بضرورة تنفيذ برنامج الدولة بحذافره دون معارضة.

أين يكمن الخلل؟

ويرى الدكتور والأستاذ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة 20 أوت 1955 بسكيكدة “وليد بوعديلة” في دراسة معمقة أنجزها على كتب الجيل الثاني، اطلعت “شبكة زدني” عليها، أن: “بعض الكتب وأهمها كتاب التاريخ أكبر من سن التلميذ المتمدرس في هذه المرحلة العمرية”. وطالب حينها بفتح تحقيق علمي بيداغوجي من مختصين في علم نفس الطفل، لمعرفة هل المادة التاريخية المقدمة في هذه المناهج تناسب المرحلة العمرية أم لا ؟ وهل باستطاعة طفل في الثامنة فهم أمور تاريخية هامة، مثل الأدوات الحجرية، والنقوش الصخرية، والمواقع الأثرية، والمسكوكات والمخطوطات، ومراحل التاريخ القديم؟

واستدل صاحب الدراسة ببعض المعلومات التاريخية التي تضمنها كتاب التاريخ والجغرافيا للسنة الثالثة ابتدائي، والتي لا تتناسب مع سن التلميذ أبرزها نقطة المصادر اللامادية (الشفوية) للتاريخ، فالحديث عن الأسطورة التي تمثل مادة ثرية للمؤرخ هي من شأن الأبحاث الانثربولوجية او الدراسات الثقافية والأدبية،.

والأدهى من هذا يقول الدكتور والأستاذ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة 20 أوت بسكيكدة، أن: ”

مؤلفو الكتاب زجوا بالطفولة في مشاكل وصرعات الكبار بحديثهم عن حدث انتخاب رئيس الجمهورية في الجزائر، كما استدل أيضًا بزج التلميذ في متاهات هو في غنى عنها كالدروس التي وردت في كتاب التربية المدنية للسنة الثالثة ابتدائي، المتعلقة بالفروق بين الجنسين داخل الأسرة والفروق الحضارية بين الأطفال عبر العالم، متسائلًا ما علاقة المطبخ وأعمال المنزل بالمساواة بين الذكور والإناث؟ فمجال النصوص المقدمة للتلميذ من المفترض ان تكون عن التكافل الأسري، وليس الاختلاف الجنسي وعدم التمييز بين الذكور والإناث”.

التلاميذ ضحية أساتذة ضعيفي المستوى

ويؤكد في الموضوع الأستاذ في الطور الابتدائي وممثل عن النقابة الوطنية لعمل التربية والتكوين في الجزائر، “طغرارة خالد” في تصريح لـ”شبكة  زدني” أن: “تراجع مستوى التلاميذ هذا العام كان بسبب صعوبة فهم التعديلات الجديدة التي أدرجت على الكتب المدرسية والمتعلقة بمناهج الجيل الثاني”.

وأضاف المتحدث: “إعلان الوزارة الوصية عن قرار تجميد العمل ببرامج الجيل الثاني، بسبب صعوبة فهم المواد المدرسة وتراجع مستوى التلاميذ في الأطوار الثلاثة الأول، هو دليل على صعوبة تطبيقها في الميدان”.

وأرجع الأستاذ فشل هذه الإصلاحات بعد عام من التجربة إلى عدة أسباب أبرزها، اعتماد المنهج الجديد على نظام الحشو في تقديم الدروس، وهو ما لم يستوعبه أغلبية المتمدرسين، إضافة إلى ذلك عدم خضوع الأساتذة لتكوين حول هذه المناهج الجديدة، حيث اقتصرت العملية على المفتشين فقط، وهو نفس المطلب الذي سبق وأن رفعت بعض التنظيمات النقابية للوزارة الوصية، وطالبت بتكوين الأساتذة واعتبرت أن الشروع مباشرة في تطبيق مناهج الجيل الثاني هو قرار “ارتجالي” وشبهتها بإصلاحات رئيس اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية البروفيسور بن على بن زاغو، فنتائجها كانت كارثية وأتت بنتائج عكسية على المدرسة الجزائرية.

ويضف الأستاذ في الطور الابتدائي “طغرارة خالد”: إن عواقب تجميد العمل ببرامج الجيل الثاني ستكون وخيمة على التلاميذ”.

وكانت وزيرة التربية “نورية بن غبريت” قد اعترفت خلال إشرافها على افتتاح المخطط الوطني للتكوين في قطاع التربية من 2017 / 2020، أن ضعف مستوى الأساتذة خاصة في مادة الرياضيات والفهم المكتوب جعل التلاميذ أقل مستوى مقارنة مع نظرائهم في العالم، وشددت على تكوينهم وإعداد مرجعية عامة للأسلاك العاملة في القطاع، بهدف تفادي الخلط في المهام وتوضيح الأحكام والتنظيمات التي تخص كل عامل، وشددت المسؤولة الأولى لقطاع التربية على ضرورة تحسين نوعية التعليم الممنوح للتلاميذ، من خلال تحسين تكوين الأساتذة الذين أكدت ضعف مستواهم وعدم قدرتهم على نقل المعلومات للتلاميذ بشكل سلسل.

كما دعت الوزيرة كافة مدراء المؤسسات التربوية لتنظيم ساعات التدريس حسب ظروف منطقتهم، دون انتظار قرار إداري في هذا المجال. وهو التصريح ذاته الذي أدلى به رئيس المجلس الإسلامي الأعلى ووزير الشؤون الدينية السابق “أبو عبد الله غلام الله”، داعيًا إلى ضرورة تكوين المعلمين والاعتماد على خريجي المعاهد العليا للأساتذة في التأطير البيداغوجي، موضحًا في سياق حديثه أن خريجي الجامعات ينقصهم التكوين الذي يعد أهم صفة يجب أن يمتلكها المدرس، واعتبر غلام الله أن مهنة التدريس ليست وظيفة تسير من طرف النقابات، بل إنما هي مهمة لتربية الجيل الصاعد  على حب الوطن وتلقينه قيم وأخلاق الإسلام.

نكبة التعليم المستورد

ويقول رئيس المنظمة الوطنية لأولياء التلاميذ “علي بن زينة”، في تصريح لشبكة زدني: “إن بعض الكتب أكبر من سن التلاميذ المتمدرسين في هذه المرحلة العمرية، مستدلًا بكتب الطور الابتدائي، فمؤلفو هذه الكتب عمدوا إلى تكوين تلميذ متشبع جنسيًا، فهناك شق كامل في كتاب السنة أولى ابتدائي يتحدث عن التكاثر وطرقه، ويتحدث كتاب آخر خاص بتلاميذ السنة أولى متوسط عن الثقافة الجنسية، وهذا موضوع لا يناسب الطفل في هذا السن”.

ويضيف قائلًا: “إنه وبعد اطلاعه على جميع الكتب المدرسية الخاصة بالجيل الثاني، خلال إشرافه على متابعة دروس وواجبات أبنائه اليومية، وجدها فارغة المحتوى لأنها لا تتضمن معلومات تناسب التلاميذ في هذه السن”.

ويؤكد المتحدث أن بعض الأساتذة خاصة أولئك الذين تم توظيفهم حديثًا وجدوا صعوبات كبيرة في إيصال المعلومة للتلميذ، بسبب عدم خضوعهم لتكوين، وهو ما أثر سلبًا على المستوى التعليمي للتلاميذ.

وحسب الإحصائيات التي تمكنت منظمة أولياء التلاميذ من جمعها، يقول على بن زينة: “تم تسجيل تراجع كبير في معدلات التلاميذ، ورغم ذلك ترفض الوزارة الوصية الاعتراف بفشل إصلاحاتها، وتحمل الأساتذة المسؤولية دائمًا بسبب الإضرابات التي شهدها القطاع مؤخرًا”.

ويرجع رئيس المنظمة الوطنية لأولياء التلاميذ أسباب نكسة التعليم بالمدرسة الجزائرية إلى “استيراد” المناهج التربوية من دول أخرى، فالتعليم الذي يتلقاه التلاميذ الجزائريين في المدارس ” مستورد “، وقال:

“لما لا تطبق الجزائر التجربة التي خاضتها فنلندا وسنغافورة، حيث أصبحت فنلندا مثالًا يحتذى به بين جميع بلدان العالم، في كيفية بناء نظام تعليمي فائق الفعالية، وتربع هذا البلد الإسكندنافي على عرش العالم في كفاءة النظام التربوي”.

توقعات بارتفاع نسبة الرسوب

وتوقع النائب البرلماني والمتتبع للشأن التربوي “حسن عريبي” ارتفاع نسبة الرسوب المدرسي هذا العام، وقال في تصريح لشبكة زدني: “إن التوقعات ستكون كارثية على التلاميذ والمنظومة التربوية بشكل عام”.

ويشير إلى أنهم سيوجهون سؤالًا شفويًا للوزير الأول أحمد أويحي بخصوص تجميد العمل ببرامج الجيل الثاني، فهذا القرار دليل قاطع على فشل الإصلاحات التي جاءت بها وزيرة التربية “نورية بن غبريت”.

واتخذت الوزارة الوصية في هذا السياق مؤخرًا عدة إجراءات استعجالية، من أجل مواجهة ظاهرتي التسرب المدرسي، وإعادة السنة، خاصة بعد تسجيل نسبة لا تقل عن الـ30 بالمائة من الإعادة في الطور الابتدائي، وأبرز هذه الإجراءات تكوين ما يزيد على 26 ألف مدير مؤسسة تربوية في الأطوار الدراسية الثلاثة ابتدائي، متوسط وثانوي.

زر الذهاب إلى الأعلى