فكرة

من طلب العلم إلى التخصصية.. رحلةٌ عبر الحياة!

تَـــمُــرُّ لحظاتُ وجودِنا في الحياة كرحلةٍ نخوضها بحثًا عن أهدافٍ عدة؛ لنجد أن جَعبتَنا تمتلئ بقائمة من الأشياء التي يجب علينا تنفيذها حتى ننجح في رحلتنا. الكثير من هذه الأشياء يرتبط بالعلم، سواءً كان ما يحركنا هو شغف المعرفة، أو السعيُ إلى خدمةِ البشرية من حولنا، وحتى إن كان الأمر يقتصر على الاستفادة من العلم في كونه مصدرًا للرزق والحياة. لكن دائمًا ما كانت رحلة العلم مليئة بالتساؤلات، تبدأ من سؤالنا عن كيفية طلب هذا العلم، وما الأشياء التي ينبغي لنا تعلمها بالتحديد، وهل ينبغي لنا الاكتفاء بجانب معين من العلم طلبًا للتخصصية أم أنه ينبغي علينا السعي للنهل من كل جوانب العلم الموجودة. ربما كانت هذه التساؤلات قديمة دائمًا، لكن الإجابة عليها تتجدد دائمًا، وأحاول معكم الإجابة عليها مرة أخرى.

لماذا نحتاج إلى طلب العلم؟

لكي نتمكن من الإجابة على هذا السؤال بشكل صحيح، علينا أن نعود إلى المعجم، ونبحث عن تعريف كلمة علم، حيث يمكننا أن نجده كالتالي: إدراك الشيء بحقيقته. وبالطبع للعلم أنواعٌ متعددة، يصنفها المعجم كذلك على أنها تنقسم إلى ثلاثة أنواع: العلم اللَّدُنِّي أي: العلم الرباني الذي يصل إلى صاحبه عن طريق الإلهام، والعلوم الحقيقية، وهي التي لا ترتبط بالأديان أو الملل كعلم المنطق، وأخيرًا العلوم الشرعية: وهي التي ترتبط بالعلوم الدينية.

بالتالي فإن سعينا إلى إدراك الأشياء على حقيقتها هو أمر مطلوب طوال الوقت؛ لأنه يمنحنا القدرة على التعايش مع واقعنا بشكل صحيح. مع العلم يمكن لحياة الإنسان أن تتحسن، وكذلك يمكن للمجتمعات أن تتقدم. وإن كان تعريف العلم يتحدث عن الإدراك، فهذا يعني محاولات الإنسان المستمرة من أجل الإدراك؛ لذلك أتعجب من هؤلاء الذين يظنون أنه طالما حدث تقدم في العالم، فإنهم غير معنيين أبدًا بالاطِّلاع ومعرفة هذا التقدم، أو من يظن أنه لمجرد التقدم الذي بلغناه حاليًّا، أنه لا يحتاج إلى المعرفة.

أيًّا كان نوع العلم الذي نتحدث عنه، فهذا يعني أنه على الإنسان المحاولة المستمرة من أجل إدراك هذا العلم، لكن قبل أن نتحدث عما يجب علينا فعله من أجل ذلك، سوف نتطرق إلى الحديث عن نقطة هامة، وهي شغف المعرفة.

شغف المعرفة

يقول ألبرت أينشتاين في اقتباس شهير له: “أهم شيء هو ألا تتوقف عن السؤال” قد يبدو هذا الأمر سخيفًا لدى البعض، وهو كيف يمكن للإنسان أن يستمر في طرحه الأسئلة، حتى إن كان غير قادر على إدراك الإجابات. وأنا أؤمن بما قاله أينشتاين، وهو أننا عندما نطرح الأسئلة، فإن هذا دليل على الرغبة في الوصول. إن كنا سنعرف الإجابات بسهولة، لأي شيءٍ سوف نطرح الأسئلة؟ وهذه المعادلة حتى يقتنع بها الناس، فعليهم أن يؤمنوا بشيءٍ هام يمكنني تعريفه على أنه “شغف المعرفة”.

شغف المعرفة يمكنني أن أصفه في رحلة موسى والخضر، حيث موسى الذي يمكننا أن نعتبره من أعلم أهل الأرض في هذا الوقت، يرافق الخضر بحثًا عن المزيد من المعرفة. يُخبر موسى فتاه “لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا”، فهو موسى الرسول النبي، صاحب العلم، على استعداد أن يقضي عمره في السير حتى يبلغ موقع الخضر، ليتعلم منه.

منذ فترة طويلة قرأت في رواية “عالم صوفي” للكاتب “جوستاين غاردر” وكان هناك اقتباس في الرواية يقول فيه:

الأكثر ذكاء من يعرف بأنه لا يعرف.”

وبالتالي فإننا نخوض رحلتنا في المعرفة طوال الوقت، نتسلح بشغفنا ناحية المعرفة، ندرك أن بحر العلم لا ينضب ولا يجف أبدًا. والآن يمكننا أن نبدأ بالحديث عن رحلة طلب العلم والتخصصية.

طلب العلم

يمكننا أن نعتبر طلب العلم فريضة داخلية على كل فرد في المجتمع، باختلاف أفكار ومعتقدات وآراء كل شخص، لكنه في النهاية مطالب بطلب العالم، لذاته قبل أن يكون للآخرين. وفي وقتنا الحالي، أؤمن أنه لا مخرج من أي أزمةٍ، شخصية كانت أو مجتمعية، إلا من خلال العلم. لكن كيف يمكن لأحدنا أن يسعى في طلب العلم؟

– تحديد الميول الشخصية: من الأشياء الهامة التي سوف نحتاج إليها في رحلة طلب العلم، هي معرفة ميولنا الشخصية، وأي أبواب العلم نفضل تحديدًا. غالبًا شغفنا بالمعرفة يظهر في هذه الأبواب أكثر من غيرها، فنجد أنفسنا نهتم بأنواعٍ معينة من العلم. لكن لا تدع ميولك فقط هي التي تحدد لك أنواع العلم الذي يجب عليك تعلمه، بل امنح نفسك فرصة لمعرفة أنواع أخرى.

– إدراك الفوائد من العلم: بعيدًا عن ميولنا الشخصية التي تحدد لنا جزءًا من الرحلة، فإنه ينبغي علينا أن نكون قادرين على إدراك فوائد العلم من حولنا. لا سيما وأنه في كل حقبة زمنية، يكون هناك احتياج أو سيطرة لجانب معين على الجوانب الأخرى. وبالتالي نجد أن المنتفعين من دراسة هذه العلوم، يعتمدون عليها في أن تكون مصدرًا للرزق، أو يستفيدون منها في مساعدة غيرهم، كمن يدرس الطب في المناطق التي تتعرض لأوبئة وأمراض كثيرة، من ثم تحتاج إلى أطباء لإيجاد حل لهذه المشكلة.

– البداية بالعام لا الخاص: إن كنت تسعى في طلب العلم، يفضل أن تبدأ الأمر بمصادر عامة، تتحدث عما تريده بشكل مبسط. هذا الأمر سوف يساعدك على شيئين: الأول: أن تعرف عن الكثير من العلوم في وقت قليل، الثاني: أن تحدد لنفسك أي مجالاتٍ سوف تستمر عليها فيما بعد، وكذلك الطريق الذي سوف تسلكه في هذه المجالات.

– التجربة والاحتكاك: من الأشياء الهامة كذلك في طلب العلم هي اهتمامك بالتجربة والاحتكاك. التجربة يمكنك أن تقوم بها بمفردك، كأن تحاول تطبيق ما تتعلمه بنفسك. أما الاحتكاك فهو ما سوف يمنحك الفرصة لتعرف أشخاص مختلفين يمارسون هذا العلم، ولذلك يفضل أن تبحث دائمًا عن الاحتكاك بمختصين في هذا المجال، وتسألهم عن كل شيء تريده، وكذلك تأخذ منهم النصائح التي يمكنها أن تفيدك في الرحلة.

التخصصية

غالبًا تعتبر التخصصية هي الامتداد الأساسي لمسألة طلب العلم. فمع محاولاتنا الدائمة لتحصيل العلم، من المتوقع بنسبة كبيرة جدًّا أن يحدث انجذاب من ناحيتنا لنوع معين من العلم، ونقرر أن نكون مختصين به. ومن الفوائد التي تصنعها التخصصية لك، أنها تمنحك الخبرة، وتزيد من مهارتك في جانب التخصصية الذي تمارسه.

على مستوى الحياة الشخصية، فعندما تتخصص في شيءٍ ما، هذا يجعلها مصدرًا للرزق بالنسبة لك، وهذا شيء تحتاج إليه في حياتك بالتأكيد. أيضًا إن كنت تتعلم من أجل إفادة الناس، فنحن نثق دائمًا في آراء مختصين وخبراء في مجالهم أكثر من أي شخص آخر. أيضًا التخصصية سوف تمنحك القوة، وهذه القوة يمكنك استغلالها في إحداث تغيير إيجابي في حياة الناس من حولك.

وكما أجبنا في الفقرة الماضية عما يجب علينا فعله من أجل طلب العلم، الآن سوف نتحدث عما يجب علينا فعله للتخصص في مجال ما من العلم.

– التركيز على الخاص:  نحن تحدثنا في طلب العلم عن البدء بالعام، والآن بعد أن قررنا أن هذا هو الجانب الذي يناسبنا للتخصص، علينا أن نبدأ الرحلة من أجل التركيز على الخاص. أي نبدأ في التفرع أكثر في المجال الذي نريده، وهذا التفرع يجب أن يحدث بناءً على منهج معين، بحيث ننتقل من نقطة إلى أخرى بشكل يمنحنا أكبر قدر من الفائدة.

– الممارسة الدائمة:  الممارسة هي النتيجة التي من المتوقع أن نحصل عليها من خلال التجارب والاحتكاك، حيث إنه بالقدر اللازم من التجارب، سوف نتعلم المطلوب من أجل الممارسة، وكذلك الاحتكاك ونصائحه سوف يمنحنا خطوات الآخرين في الممارسة. وبناء على ذلك يمكننا أن نصل إلى الشكل النهائي والصحيح من الممارسة، وهذا لا يعني أننا قد وصلنا إلى القمة هكذا، بل إنه ما يزال أمامنا العديد من الأشياء لنتعلمها في الممارسة، ولذلك يجب أن تكون ممارسة مستمرة ودائمة.

– الأمانة: عندما نتجه إلى التخصصية، فهذا يعني أن نظرة الآخرين لنا سوف تختلف، وسوف يتعامل البعض معنا بثقة شديدة، وبالتالي يجب علينا أن نتحلى بالأمانة التي تجعلنا نقول الصدق دائمًا، وإن كنا لا نعرف أو أخطأنا في شيءٍ ما، فيجب علينا أن نعترف بذلك، وأن نسعى إلى معرفة الصواب دون مكابرة.

اعرف شيئًا عن كل شيء، واعرف كل شيء عن شيء

كثيرًا ما يقارن الناس بين طلب العلم والتخصصية، وبعض الناس يرى أن وجود أحدهما، سوف يلغي الآخر بالتبعية؛ لأن الشخص سيركز كل مجهوده على جانب واحد فقط.

والحق أنني أرى بأن هذا الأمر غير صحيح، نحن نحتاج إلى الاثنين في حياتنا، نحتاج لأن نملك المعرفة وأن نسعى دائمًا إلى طلب العلم في المجالات المختلفة من الحياة، هكذا يمكننا أن نكتسب الثقافة التي تمكننا من التعايش مع الحياة من حولنا. كما أن الاقتصار على شيء واحد، يجعلنا نفقد الكثير من متعة الحياة والعلم. والتخصصية هي التي سوف تجعلنا نقدر على تحقيق ذاتنا بالقدر الذي نريده، وأيضًا نساهم في تقدم الحياة البشرية بالعلم الذي نملكه.

في رأيي مقولة “اعرف شيئًا عن كل شيء، واعرف كل شيء عن شيء.” هي مقولة صادقة جدًّا، ويمكنها أن تكون منهجًا نسير عليه في حياتنا. تحضرني هنا مقولة للعالم دينيس فلاناغان يقول فيها: “في عصر التخصصية الناس فخورون بأنهم يجيدون فعل شيء واحد بشكل جيد. لكن إن كان هذا كل ما يعرفونه، فهم يحرمون أنفسهم من الكثير من الأشياء التي يمكن أن تقدمها لهم الحياة.”

فمن طلب العلم إلى التخصصية، وبجمعهما معًا في النهاية، أظن أن حياتنا سيكون لها معنى حقيقيٌّ، وسنكون قادرين على أن نترك أثرًا في هذه الحياة في يوم من الأيام.

معاذ يوسف

كاتب مؤمن بالتغيير والأمل والسعي، مؤسس ورئيس فريق دوشة كتب.
زر الذهاب إلى الأعلى