دراساتدراسات وأبحاث عربيّة

نشأة العمارة الإسلامية .. كيف أصبح للإسلام عمارة؟

ارتبطت العمارة الإسلامية في أذهاننا عادة بصورة مبهمة تشكل تصورنا عنها، بزخارفها الهندسية واستخدامها لفنون الخط العربي والمساجد والقباب والأقواس، وبعض الصور من معالم معمارية معروفة كقبة الصخرة المشرّفة وقصور الأندلس ومساجد تركيا.

لكن ما حقيقة وجود عمارة إسلامية؟ هل ترتبط العمارة الإسلامية فقط بهذه المظاهر الشكلية؟

كيف نستطيع إعادة تعريف العمارة الإسلامية لتتسع لاستيعاب الطرز الممتدة على طول العصور والأقطار والتفاعلات الحضارية الكبيرة التي مرت بها، وبالتالي القدرة على إعادة تعريفها ضمن مفردات العصر الحالي ومتطلباته؟

هذا ما سنناقشه في هذا البحث، إذ يحوي عنوان هذا المقال افتراضين لقارئهما: 

– حقيقة وجود ما يسمى بـ “العمارة الإسلامية” وبالتالي سمات وصفات شكلية مادية وملموسة، سواءً كانت سمات إنشائية أو تصميمية أو فراغية امتازت بها العمارة الإسلامية دومًا وارتبطت باسمها، وسنبحث في تعريفها الأشمل.

– سؤال “كيف” الذي يتناول كيفيات وآليات تشكّل العمارة الإسلامية، وسنتناول هنا بعضها من ناحية سوسولوجية، تاريخية وعقدية.

المحتويات: 

هل هناك عمارة إسلامية؟ 

آليات التشكل

الحاجات الثلاث

نشأة المدينة الإسلامية 

الطرز المعمارية الإسلامية في العصور المختلفة

خاتمة

كيف تتشكل هوية المدينة؟ وأين نحن من العمارة الإسلامية؟ 

اقرأ أيضًا

ما هي العمارة الإسلامية إذن؟ – مترجم-

أولًا: هل هناك عمارة إسلامية؟ 

تبدو حقيقة وجود ما يسمى بالعمارة الإسلامية حقيقة بدهية لكثير من الناس، ومع ذلك فقد دارت سجالات طويلة لقرون بين الباحثين والمستشرقين حول حقيقة وجود عمارة إسلامية.

تنوعت التفسيرات التي حاولت الإمساك بسمات الوحدة في العمارة الإسلامية وأصول تشكلها في ظل الامتداد الجغرافي والزمني الكبير الذي خلق تنوعًا هائلًا فيها.

منهم من حاول تعريف العمارة الإسلامية بعناصر المدينة التي تشكّلت ضمنها، ومنهم من حاول تعريفها برصد العناصر المعمارية والفنية المشتركة كالقباب والزخارف المنتشرة بينها، ومنهم من قال بعدم وجود عمارة إسلامية بقدر ما كانت عمارة إقليمية، إذ إن مسجدًا في الصين في عهدها الإسلامي يشبه بيتا صينيًا أكثر مما يشبه المساجد الإسلامية(1).

يرى الدكتور جميل عبد القادر أكبر في بحثه “هل هناك مدينة إسلامية؟” (1) بدايةً وجوب إقامة الفرق بين طريقتين في النظر إلى معيار الحكم للإجابة عن هذا السؤال:

أولها: هو النظر إلى “المنتج النهائي” “End product” ونحن نتحدث فيه عن آثار ملموسة ومادية، سمات وصفات إنشائية وتصميمية وفراغية في المباني الإسلامية كالمساقط الأفقية والزخارف والعناصر الإنشائية قد نقوم برصدها في معظم البناء الإسلامي كأساس لسؤال وجود عمارة إسلامية من عدمه.

ثانيها: هو النظر لـ “آلية التشكل” “Process”: وهي المبادئ والقيم والعقلية (mentality) التي حكمت البناء المادي للعمارة عند المسلمين وطرق اتخاذ القرار بعيدًا عن التركيز في شكلها النهائي على ما هو عليه الآن.

ويقترح لإنهاء النقاش الطويل الدائر لسنوات حول حقيقة وجود مثل هذه العمارة وكيفية تصنيفها في ظل التنوع الكبير والشديد في أشكال العمارة الإسلامية أنّ البحث في السمات الشكلية المشتركة بين المدن الإسلامية المختلفة والتركيز على “المنتج الشكلي النهائي” “End product” قد لا يقود لأكثر الإجابات وضوحًا وشمولًا لهذا السؤال -ومع وجود دلائل وعلامات فراغية وبصرية مشتركة بوضوح في التشكيلات المعمارية على طول الأقطار الإسلامية-، نظرًا لاتساع الأقطار التي امتدت إليها رقعة النفوذ الإسلامي، واختلاف العمارة بين الأقاليم، فعمارة الصين ستختلف بالتأكيد عن عمارة دمشق لاختلاف الظروف السياسية والاقتصادية والبيئية والزمنية التي شكلت هذه العمارة.

حركية المادة:

هذا ما أبقى المفكرين في جدال دائر دائم حول هذا الموضوع، ويرى أن ما يجب أن ننظر إليه كحلقة التوحيد الأساسية حقًا بين كل أشكال العمارة الإسلامية هو “حركية البيئة” أو “Decision making process” وهي مجموعة القواعد والأفكار المستندة لمرجع ما والتي تضبط آلية وعقلية اتخاذ القرارات في محيط ما مع ما يتوافق مع الظروف المتغيرة باستمرار، وتجعل المادة أداة متحركة ومتغيرة ومرنة في يد الفكر، وهذا يعني عدم الثبات على إنتاج تكوينات بصرية متشابهة بقدر الثبات على الفكر الذي شكّل واختار هذه التكوينات وفق ما يخدم معتقداته وحاجاته.

وبالتالي فإن ما يتمسّك به المسلمون من قيم وعقيدة وطريقة في التفكير واتخاذ القرار انعكس دومًا بصور مختلفة ومتنوعة ليشكّل الطريقة التي بنيت عليها قرارات المسلمين في تحريك المادة البنائية لتخدم هذه القيم والقواعد.

وهذا ما يجعلنا نجد تنوُّعًا هائلًا في أشكال العمارة الإسلامية على امتداد الأقطار المختلفة، ولكنَّه يوفر لنا تفسيرًا وفهمًا لأشكال الوحدة التي نشعر بها في هذه الفراغات وطريقة بنائها على هذه الشاكلة. 

هذه النظرية تتيح لنا فهمًا عميقًا وتحليليًّا لجميع منتجات العمارة بشكل عام والعمارة الإسلامية الممتدة بشكل خاص، ونستطيع من خلالها رصد الكثير من الظروف المختلفة التي أثرت بالمعمار المسلم صعودًا ونزولًا وفهم خياراته والحلول التصميمية والفنية التي لجأ إليها وفق المعطيات الحضارية والاجتماعية والسياسية والجغرافية والدينية المختلفة، وفهم ما هو ثابت وما هو متغير منها. 

ثانيًا: آليات التشكل 

الحاجات الثلاث: 

“لذا فإن رؤيتنا الشكلية للعمارة وتصورنا لها يقترن بوظيفة تحملها، كأننا نسخر أداة واحدة لإرضاء أكثر من قيمة، سواءً كانت هذه القيمة حاجة متأصلة في نقصنا البيولوجي أم في قيمنا المجتمعية، سواء كان هذا البناء بيتًا أم مصنعًا أم معبدًا فإننا نبحث في طياته عن بقايا نقص عندنا، هذه هي بداية قصة البناء.”(2)

تمتاز العمارة عن بقية الفنون بوظيفية عالية، إذ إن العمارة فن من الفنون لكنها لا تتحقق إذا لم تلبي احتياجات الإنسان الأساسية من مأوى وسكن ومكان للعبادة ومختلف مقاصد البنيان.

وتشترك مع الفنون الأخرى في قدرتها على حمل الأبعاد الجمالية والإنسانية وتطويعها لخدمة رغبة الإنسان الدائمة في التعبير الجمالي والفني والشخصي حول ماهيته وهويته وتوقه الدائم للكمال والجمال.

وكلما استطاع الإنسان تحقيق حاجاته الأساسية من إيجاد مأوى ومسكن تفرَّغ أكثر لخلق بيئة رمزية وجمالية تعبر عنه، والعكس صحيح.

في هذا الصدد يرى المعمار والفيلسوف العراقي رفعة الجادرجي أن الإنسان يولد بنقص بيولوجي متأصل في كيانه، لا يستطيع إشباعه بدون تحقيق رغباته على 3 مستويات تنطلق منها نشاطاته كافة وهي: الحاجة النفعية، الحاجة الرمزية والحاجة الجمالية (الاستطيقية). (3)

تهتم الحاجة النفعية بتحقيق متطلبات الحياة الأساسية للإنسان من مأكل ومشرب ومأوى وتكاثر، أما الحاجة الرمزية فهي تحيل إلى ارتباطات الإنسان بمحيطه ومجتمعه وعلاقاته المختلفة من حوله، فيبدأ بمحاولة فهم علاقاته المحيطة وخلق معان لها وتأطيرها والتعبير عنها.

وأخيرًا تأتي الحاجة الجمالية التي تتسامى على حاجات الإنسان المباشرة، ولا تأتي إلا بعد تحقيق الحاجات القاعدية الأولى: النفعية والرمزية، وتنطوي على وعي بحقيقة وجوده وتفرده، مما يدفع الإنسان عن البحث الدائم وخلق جماليات لأجل الجمال بحد ذاته بأقل قدر من الارتباط مع حاجاته النفعية والرمزية، وتعمل كدافع مستمر نحو الخلق والابتكار الجديد لديه. (3)

في ظل هذا التفسير للحاجات يمكن تشكيل مرجع جيد للنظر لمعظم منتجات العمارة الإسلامية ورصد تحولاتها وتغيراتها المختلفة، إذ تعمل المنتجات المعمارية كدليل مباشر على مستوى اكتفاء المجتمع في تلك الفترة، من ناحية تحقيق حاجاته النفعية المباشرة، الإحالة على ارتباطات رمزية اجتماعية متماسكة أو ضعيفة، وقدرته على إنتاج جماليات معمارية خالصة بعد تحقيقه للمتطلبات الأولى الأساسية. 

أوضح الارتباطات التي تظهر لدينا هنا هو الارتباط بين المدنية والقدرة على التقدم والتفوق العمراني، فلطالما ارتبطت طرز العمارة الأشهر بمدن قوية ومكتفية مما يفسح المجال للإبداع الفني والعمراني.

حيث إن ظروف العيش الصعبة كنمط حياة البدو أو القبائل يحصر المجتمع في الدائرتين الأوليين من تحقيق الحاجة النفعية والحاجة الرمزية فحسب؛ إذ تنحصر هموم القبيلة في تأمين المسكن والمشرب، توسيع النفوذ، تأمين الحماية، وما يلزم هذه المتطلبات من تنقل دائم. وتنحصر الحاجة الرمزية في تشكيل أعراف القبيلة وارتباطاتها مع بعضها وما حولها.

في حين كلما زاد استقرار المجتمع وقدرته على تأمين فائض الإنتاج من الحاجات الأساسية زاد احتمال توجهه نحو تعبيرات رمزية وجمالية أكبر، ويشمل هذا الإنتاج العمراني والفني بأشكاله المختلفة. 

نشأة المدينة الإسلامية 

تتنوع تعريفات المدينة وتختلف، لكن معظم تعريفاتها تذكر ضرورة وجود قطعة من الأرض بحدود ثابتة، يقيم عليها مجموعة من السكان، تحكمهم سلطة وتنتظم تعاملاتهم بمجموعة من القواعد والقوانين، وتتوفر فيها متطلبات العيش الأساسية وتتمتع بالأمن والاستقرار. (4)(5)

تحمل عبارة “الإسلام دين مدني” (5)التي وردت ضمنًا أو صراحة على لسان الكثير من الباحثين والمستشرقين افتراضًا وأساسًا مهمًا لفهم أحد المنطلقات الأساسية لوجود ما نسميه بالعمارة الإسلامية.

إذ إن الإسلام منذ بدايته في عهد الرسول (ص) وضع الأسس التي حوّلت مجتمع الجزيرة العربية ومناطق النفوذ الإسلامي فيما بعد إلى دولة ومدن وأمصار.

وقامت على هذه الأسس العناصر التي تعرّفت بوجودها المدينة الإسلامية وشكّلت نقطة الانطلاق لفنون العمارة الإسلامية على طول العصور فيما بعد. 

نقطة التحول:

ظهرت هذه الملامح بالتغيرات الجذرية التي طرأت على مجتمع المدينة المنورة منذ الهجرة النبوية، حيث كانت نقطة انطلاق لتحول النظم القبلية التي كانت تحكم في شبه الجزيرة العربية شيئًا فشيئًا إلى بناء مدني وبداية “دولة إسلامية” حقيقية.

جاء ذلك ابتداءً مما حملته العقيدة من مبادئ العبودية والمساواة عامّةً وما حوته تشريعاتها من تعاملات وأحكام ناظمة في الميراث والملكية والتعاملات المالية وحقوق الجار.

والقرارات النبوية التي خلقت نوعًا من الوحدة والقوة والاكتفاء في المجتمع الإسلامي، وتعزيز مفاهيم الارتباط الأوسع من الارتباط القبلي فأصبح هناك “أهل قباء” و” أهل المدينة” و”أهل الطائف”، والمؤاخاة التي ساهمت في إذابة التفرقة بين القبائل.

وإقامة سوق للمسلمين قريب من مساكنهم وعدم حكره على اليهود وإقرار نظام الرقابة عليه.

وإقطاعات الأراضي وتقسيم القبائل المختلفة في حدود جغرافية واضحة تحت قيمة “صلة الرحم” بين ذوي القربى.

وأقرَّ الرسول مبدأ إحياء الأرض الموات إذ إن من يحيي أرضًا ميتًا تصبح ملكًا له، ومبدأ الاستخلاف إذ كان يولي حاكمًا ينوب عنه عند غيابه.

وتوزعت المساجد على مساحات متقاربة كوحدة تربط بين المناطق المختلفة وتحدد مراكزها، وظهر تخطيط واضح متماسك للمدينة ينطلق من الـ”مسجد الجامع” كمركز للمدينة وتتصل به طرق رئيسة وفرعية وتحيط به أحياء للقبائل والمهاجرين الذين أقطعهم الرسول الأراضي الخالية في المدينة.

وكل هذا بأمر حاكم واحد منظِّم – وهو الرسول عليه السلام- على خلاف ما كان من تفرّق الرأي بين رؤساء القبائل.

أحدثت هذه الإجراءات وغيرها الكثير ممّا يسهل إيجاده في السيرة الأولى فرقًا جذريًا في تحول “يثرب” إلى “المدينة المنورة” وشكّلت بعدها الأساس الذي قامت عليه كل المدن الإسلامية لاحقًا. (3) 

وضع لبنة البناء الحضاري:

ومع أن البناء الحضاري بشكله الناضج لم يظهر بوضوح في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من ناحية منتج نهائي (end product)، إلا أنَّ معظم الإجراءات والعمليات (Processes) التي ستؤثر في شكل المجتمع والمدينة الإسلامية وضعت أسسها في تلك الفترة.

إذ إن التغيير لم يكن فقط تغييرًا عقديًا إنما أثّر في نمط الحياة على المستويات الفردية والجمعية كما أوضحنا آنفًا، وجاء أثره عميقًا جدًا في أصل الإنسان وكينونته وأعمق إيماناته ابتداءً مما حملته العقيدة من قيم العبودية الكاملة لله لا لسواه وليس انتهاءً بتجلّي الوحدة والمساواة والمفاضلة بالتقوى لا بسواها بين الناس وإذابة الحدود القبلية والمناطقية إلا بالمعروف، بعيدًا عن أي تمجيد لأي مظهر طالما قام أساسه على ما يحمله من معنى وراءه.

إذ شملت العقيدة الجديدة تغييرات أساسية على الشكل المادي لحياة الناس أيضًا ليتكامل جوهرها مع مظهرها.

من التشريعات التي أثرت بشكل جذري في الأنماط الفنية والمعمارية هو تحريم التماثيل والتصوير، إذ إنه لا يصح لأمم حولت عقيدتها حديثًا أن يُملأ محيطها بتماثيل كانوا يسجدون لها قبل سنوات. (6)

شملت تشريعات الإسلام آدابًا وتعاملات على مستوى الفرد والعائلة والمجتمع كصلة الرحم ووجوب الاستئذان وحرمة البيوت وأهمية الستر وغيرها مما انعكس مباشرة على طرق البناء وخيارات المسلمين التصميمية.

مضافًا إليها الخطوط العامة الاجتماعية والمدنية الجديدة التي أعادت الابتكار لفراغات معمارية جديدة أو إعادة التعريف لفراغات موجودة.

كالمسجد الذي شكّل مركزًا اجتماعيًا ودينيًا للصلاة والبيع والاجتماع واتخاذ بيوت لمال المسلمين وتصميم البيوت مع ما يتناسب مع تشريعات الإسلام وآدابه.

الخط العربي في العمارة الإسلامية:

وانعكست كل هذه العوامل وغيرها على المعمار الإسلامي الضارب في أنحاء الأرض، فالمسلمون الذي وحدتهم الكلمة والإيمان بالقرآن لم يكادوا يتخلوا في أي من المظاهر الجمالية التي انتجوها عن فنون الخط العربي والكلمات والآيات القرآنية التي تزين بيوتهم وقصورهم ومساجدهم على حد سواء.

فأثر الكلمة البالغ النابع من قدسية القرآن وأحرفه العربية انعكس على كل أشكال الفنون التي أنتجوها، خاصة مع الحاجة لإيجاد بديل جمالي مختلف بعد تحريم التماثيل والتصوير التي كانت منتشرة في معظم الطرز المعمارية والفنية المتواجدة.

فنجد لجوءهم لفنون الخط العربي، وجمالية الأشكال الهندسية والعلاقات الرياضية بينها، وتجريد الأشكال الطبيعية كالأشجار والزهور للابتعاد عن التجسيد المباشر لأشكالها. 

قصر الحمراء-الأندلس

مقام السيدة زينب – سوريا

مثال على فن الأرابيسك الإسلامي

يشكل فهم هذه المنظومة الفكرية والعوامل المتداخلة الأساس الذي نستطيع من خلاله تتبع تطور شكل الخيارات التصميمية، إذ تطور شكل الدولة الإسلامية وتوالت عليها الأنظمة الحاكمة مع توالي الحكام والأزمان والفقهاء، وبدأت الحضارة تراكم منتجاتها النفسية والمجتمعية والعمرانية تباعًا.

وتداخلت الظروف المختلفة جغرافيا وثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا صعودًا ونزولًا لتتشكل تحت ظلالها سمات العمارة في العهود الإسلامية المتتالية.

اقرأ أيضًا

الانعكاسات الثقافية والاجتماعية على العمارة الإسلامية

تاليًا سنستعرض الخط الزمني لأهم الطرز المعمارية الإسلامية وأهم سماتها. 

الطرز المعمارية للمدينة الإسلامية في العصور المختلفة

يعرف الطراز المعماري بأنه جملة السمات الشكلية والعناصر المعمارية التي تربطها علاقات نسبية واضحة بينها ويسير عليه جماعة من الفنانين وينتشر في قطر من الأقطار. 

وبناءً على هذا التعريف فقد انتشرت الكثير من الطرز المعمارية على امتداد حدود الدولة الإسلامية في العصور المختلفة.

سنحاول هنا تقديم نظرة عامة على ارتباط الطرز المعمارية الإسلامية بتحقيق المجتمع لحاجاته وتطوره وطرق اتخاذ قراره. 

يقسم المستشرق جوستاف لوبون الطرز المعمارية التي ظهرت في ظل الدولة الإسلامية إلى الطرز التالية: (7) 

الطراز العربي قبل ظهور الرسول محمد:

وتبدو معالم هذا الطراز مبهمة إذ لا يوجد الكثير من الآثار التي تعود إليها إلا ما يمكن أن نستشفه من آثار اليمن القديمة وبعض آثار الغساسنة.

وهذا يعيدنا إلى ما ذكرناه بداية عن ارتباط العمارة الإسلامية بنشأة الإسلام كقوة جامعة وموحدة وأساس للمدنية والعمران في منطقة شبه الجزيرة العربية وما حولها. 

الطراز البيزنطي – العربي 

وهو ما ظهر من امتزاج المؤثرات الشرقية السورية والساسانية بالمؤثرات الإغريقية واليونانية، ويحدد لوبون هذا الطراز في الفترة ما بين القرن السابع الميلادي وحتى الحادي عشر (القرن الأول وحتى القرن الخامس هجري)، ويظهر هذا في بداية نشأة الدولة الإسلامية بشكلها الأكثر استقرارًا مع بدء الدولة الأموية.

يظهر في هذا الطراز أنَّ الحاجة النفعية لبناء أماكن الصلاة والمساكن والأبنية، أو إعادة استخدام المباني الموجودة أصلًا بما يناسب تشريعات الإسلام، والتغير في طبيعة المجتمع والحاجة الرمزية للتعبير الهوياتي الجديد، تظهر على شكل عمارة مختلطة بين الأنظمة البنائية والفراغية والحرفية القديمة.

نرى تقسيمات فراغية في المساجد الجديدة مشابهة للكنائس البيزنطية التي أعيد تحويل بعضها لمساجد.

مع ذلك نستطيع رصد بدايات تشكّل الهوية العمرانية الإسلامية باختلاف تقسيمات البيوت والاهتمام بفنون الخط العربي وغيرها مما ظهر بشكل أساسي في مناطق النفوذ الإسلامي في بدايات العهد الإسلامي كدمشق ومصر وإفريقية وصقلية وبدايات دولة الأندلس.

الجامع الأموي – دمشق

الطراز العربي الخالص

ظهر هذا الطراز بأوضح ما يكون في مصر والأندلس، وبلغ ذروته في مصر في مسجد قايتباي.

في الأندلس ما بين القرن العاشر الميلادي والخامس عشر وذلك بعد فتحها على يد الأمير الأموي عبدالرحمن بن معاوية، إذ إن أنظمة العمران فيها بدأت كخليط من الأنظمة المحيطة كالطراز الأموي والمغربي والقشتالي.

لكن المعمار الأندلسي استطاع بعدها التخلص من هيمنة النظم القديمة والتفوق على محيطه وخلق طرز معمارية وحلول إنشائية وفراغية وبصرية مبتكرة، تحقق الحاجات القاعدية وترقى لتحقيق الحاجات الجمالية الخالصة.

إذ إن ازدهار دولة الأندلس مدنيًا وعلميًا وثقافيًا والتنوع الحضاري الهائل الذي التقى في الدولة الجديدة أسس حاضنة ممتازة لازدهار العمران وتصنيفه كنمط معماري فني خالص وأصيل.

مسجد قايتباي- القاهرة، مصر

الطراز العربي المختلط 

يظهر هنا اختلاط العمارة الإسلامية مجددًا بالطرز المعمارية السائدة في المناطق الجغرافية التي ظهرت فيها، وظهر هذا في نهايات دولة الأندلس بعد عودة القشتاليين للسيطرة على أجزاء منها تدريجيًا.

وفي عمارة الدولة العباسية بالعراق والتي تأثرت بالحضارة العراقية القديمة والحضارة الفارسية، كمسجد سامراء ومسجد أبي دلف ومآذنهم الحلزونية المستقاة من “الزاقورة” البابلية، والطراز العربي الفارسي.

وأبرز معالمه مسجد أصفهان، والعمارة العثمانية التي تأثرت بموقع عاصمتها قسطنطينة كالعاصمة السابقة لبيزنطة، وطرز العمارة المملوكية والصفوية والهندية التي ظهرت بمواقع مختلفة وظهر تأثرها واضحًا بعمارة محيطها.

الزقورة البابلية القديمة

المئذنة الملوية في سامراء – العراق

مسجد أصفهان – إيران

خاتمة: كيف تتشكل الهوية المعمارية؟ وأين نحن من العمارة الإسلامية؟ 

يلخص رفعة الجادرجي طرق إشباع الحاجة الجمالية بحركتين متلازمتين، التنوع وضبط التنوع(3)، وقد نستطيع من خلال فهم هاتين الحركيتن فهم أشكال القبح الناجمة عن نضوب التشكيلات البصرية المبتكرة، أو تفجر المحيط بأشكال بصرية عشوائية غير مضبوطة.

فالقدرة على فهم العناصر البصرية والفراغية التي نستخدمها ضمن مضامينها وسياقاتها الأصلية، والقدرة على ضبط علاقاتها، وفهم كيفية تشكّلها والتحكم باستقبال المفردات المعمارية والفنية الجديدة في ظل التطور الهائل معماريًا وهندسيًا وإنشائيًا، هو الأساس في الحفاظ على هوية جمالية متماسكة وإعادة القدرة على ابتكار حلول بصرية معمارية وفنية متسقة مع أنفسنا وحاضرنا وما نريد الوصول إليه. 

لطالما كانت العمارة أبرز دليل على ما حملته كل الحضارات القوية والعظيمة من شعور الفرد فيها بالاتساق والعزة والرغبة في التعبير عن هذا الاتساق بكل الطرق. وكما يقول وينستون تشرشل:

” نحن نبني مدننا، وهي تعود فتبيننا”(2)

 

فالعمارة هي تعبير دائم وصارخ عن حلقة متصلة من الفكر والعلم والعمل يخرج على شكل ناتج مادي بتشكيلات مختلفة، وأي ضعف او تفسخ في أحد هذه الحلقات يظهر بالضرورة على الأخر. 

المصادر والمراجع: 

(1) أكبر، جميل. هل هناك مدينة إسلامية؟. مجلة جامعة الملك سعود، م6، العمارة والتخطيط، ص 3-28 بالعربية. الرياض. 1984 م

(2) العمارة والفن، كيف ارتبطت العمارة بروح الإنسان وجسده؟_موقع ميدان_تم الإطلاع في شباط/2020. 

 (3) الجادرجي، رفعة. صفة الجمال في وعي الإنسان (سوسولوجية الاستطيقية)، ص13-43. بيروت.مركز دراسات الوحدة العربية.2013

(4)إبداح، ميسون. المدينة الإسلامية (نشأتها وأثرها في التطور الحضاري)، ص 9-11. إربد. حمادة للدراسات الجامعية. 2012

(5) عثمان، عبد الستار. المدينة الإسلامية، فصل (نشأة المدينة الإسلامية)، ص 43-78. الكويت. سلسة عالم المعرفة. 1988 م

(6) تحريم التماثيل”.. هكذا خلق الإسلام نسخته الخاصة من الفنون. تم الإطلاع في شباط/2020. موقع ميدان. رابط المقال: 

(7) وزيري، يحيى. العمارة الإسلامية والبيئة (الروافد التي شكلت التعمير الإسلامي)، الفصل الثاني. الكويت. مطابع السياسة. 2004م

رغد حبش

بكالوريوس هندسة معمارية من الجامعة الأردنية، أعمل مع مؤسسات شبابية مجتمعية وفي صناعة المحتوى، مهتمة بالعمارة و الفنون وعلم الاجتماع أبحث وأكتب عنهما وفيهما. أؤمن بقوة كل كلمة، وبهندسة العمارة كأقوى تعبير عن وحدة العلم والفن والفكر.
زر الذهاب إلى الأعلى