نصف مليون تلميذ محروم من التعليم في الجزائر
يشكل التعليم أكبر تحدٍ للحكومة الجزائرية، وهاجس يؤرق المسؤولين منذ أن تخلصت الجزائر من ظلم الاستعمار الفرنسي المستبد، الذي عمل ما في وسعه لطمس معالم تاريخ الشعب ونضاله، ومع ذلك لا يزال عشرات الآلاف من التلاميذ محرومين هذا الحق بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال لأسباب وحقائق سنكتشفها من خلال تحقيق “شبكة زدني” حول الظاهرة.
” لا أعرف حروف الأبجدية ولا الحساب سوى العد من 1 إلى غاية الرقم 10، أقضي يومي كله في مساعدة أمي في الجلي والطهي وغسل الأواني المنزلية “
بهذه العبارات تروي الطفلة “سمية طلاش” ذات العشر سنوات لـ“شبكة زدني“ يومياتها المتكررة بعيدًا عن مقاعد الدراسة، هذا الحلم الذي لا يزال يراودها، فالطفلة “سمية” مشتاقة لحجرة الدراسة واللعب في فناء المدرسة برفقة أقرانها، لكن هذا الحلم اصطدم بواقع مرير تجسد في قرار الأب الذي منعها من التوجه إلى مقاعد الدراسة لسببين رئيسين؛ أبرزهما بعد القرية التي تقطن والواقعة بمحافظة “تيزي وزو” عن المؤسسة التربوية، حيث تعرف المنطقة بجبالها الوعرة، أما الثاني فيتعلق بالفقر الشديد الذي تعيش فيه برفقة 8 إخوة، فقلة الإمكانيات دفعت بالأب للتضحية بتعليمها برفقة اخوتها، إلى جانب الخوف من مخاطر عضات الكلاب المتشرّدة.
الصبية ” سمية طلاش ” تابعت حديثها لشبكة زدني بالقول ” أتمنى تعلم طريقة أداء الصلاة وحفظ بعض الآيات القرآنية، فأنا لا أعرف سوى بعض الأحاديث التي أسمعها وأشاهدها في التلفزة، وكان حلمي أن أصبح طبيبة أو معلمة مستقبلًا، إلا أنني وجدت بديلًا في ذلك الأرض تنتظرني لتنظيفها”.
من جهتها بررت أم الصبية ” مسعودة طلاش ” في حديثها لشبكة “زدني”، سبب حرمان ابنتها من الدراسة، بضعف الإمكانيات المادية للأب، وتحدثت كذلك عن بعد المؤسسة التربوية عن القرية التي يقطنون فيها، مشيرة الى أن تلاميذ هذه القرية يضطرون إلى السير على أقدامهم للوصول الى مدارسهم، كما يضطر التلاميذ في فصل الشتاء إلى مغادرة مساكنهم في الظلام للالتحاق بمقاعد الدراسة، مشيرة الى أن كل هذه العوامل جعلتهم يخشون على بناتهم، وقالت: إنها تفضل المحافظة عليهن أحياء وفي صحة جيدة، وتساءلت: ” كيف أستطيع ترك ابنتي، ذات التسعة السنوات، تسير يوميًا الى المدرسة وتعود في جنح الظلام؟
أما هذه الصورة التي يمتطي فيها الأب حمارًا “أعزكم الله” برفقة ابنتيه” ليست ملتقطة من مقتطفات فيلم سينمائي بل هي صورة واقعية، أبت رابطة حقوق الإنسان في الجزائر والتي تتابع عن كثب ملف الأطفال المحرومين من التعليم تزويد “شبكة زدني ” بها ، حيث التقطت من منطقة تسمى “عين الدفلى” غير بعيدة عن العاصمة الجزائر، و أشارت الرابطة أن هذه الصورة تمثل عينة بسيطة لمئات التلاميذ الذين حرموا من الالتحاق بحجرات الدراسة لعدة أسباب في مقدمتها غياب حافلات نقل التلاميذ التي توفرها الدولة الجزائرية بالمجان إلى جانب اعتداءات المُنحرفين وتهديداتهم باختطاف التلاميذ أمام أنظار الجميع.
واقع اضطراري لماضٍ استعماري
لا يمكن الحديث عن التلاميذ الذي لم يلتحقوا أو الذين غادروا مقاعد الدراسة مبكرًا دون العودة إلى الماضي الذي عاشته الجزائر، حيث وَرثـَتِ الجزائر، بعدما استرجعت سيادتها منظومة تربوية كانت أهدافها تتمثل في محو الشخصية الوطنية وطمس معالم تاريخ الشعب الجزائري. إذن كان من اللازم أن تغير هذه المنظومة شكلًا ومضمونًا وتعوض بمنظومة جديدة تعكس خصوصيات الشخصية الجزائرية الإسلامية، ولكن كان من الصّعب أن يغير هذا النظام بين عشية وضحاها.
وقبل الإصلاح الشامل الذي طرأ في 1980 بإقامة المدرسة الأساسية اتخذت عدة إصلاحات وتعديلات جزئية، ولكن ذات أهمية كبرى، وقد تمت بناءً على ثلاثة اختيارات؛ الاختيار الوطني بإعطاء التعريب و”الجزأرة ” ما يستحقان من العناية، والاختيار الثوري بتعميم التعليم وجعله في متناول الصّغار والكبار، والاختيار العلمي بتفتح التعليم نحو العصرنة والتحديث وبالتحكم في العلوم والتكنولوجيا. ومع ذلك لم يشمل هذا المخطط كل التلاميذ، بل بقي الآلاف منهم حبيسين فكر استعماري تغلغل أكثر في القرى والمداشر المترامية الأطراف أي لا يزال الجهل والخوف يطبق على عقول أولياء الأمور، الذين يمنعون أبناءهم خاصة البنات من الالتحاق بقاعات التدريس، إلا أن هذا الواقع ل اينطبق على أولياء أخرين في ذات القرى والمداشر الذين يرغبون في تعليم أبنائهم، ولكنهم واجهوا عراقيل حالت دون تحقيق هذا المبتغى، بسبب بعد المدارس بعشرات الكيلومترات وغياب وسائل النقل.
أرقام التعليم ومكافحة الجهل والأمية
أكثر من 8 ملايين تلميذ.. قرابة 700 ألف موظف.. قرابة 26 ألف مؤسسة مدرسية.. ميزانية سنوية تفوق 789 مليار دينار جزائري، هي أرقام مذهلة تبين ضخامة قطاع التربية الذي يعد أحد أكبر مراكز الإنفاق في ميزانية الدولة، وأكبر مستقطب للموظفين، وهو يشتمل على أكبر حظيرة للمرافق والهياكل بالجزائر، تجعل الجزائر نموذجًا لا محالة للتنمية الاجتماعية ولم لا حتى الاقتصادية، بغض النظر عن الأزمة التي ستعكر استقرار مؤسساتها، وكل هذا بفضل تكريس ”مجانية التعليم” الذي مكن نحو 4 ملايين جزائري من تحقيق حلم “البكالوريا “منذ الاستقلال.
ومع ذلك تبقى هذه الجهود غير مكتملة بسبب عدم تمكن آلاف التلاميذ من تحقيق حلم التعلم، حيث لا تزال الكثير من المؤسسات التربوية والبلديات عبر الوطن تفتقر إلى الوسائل المادية الكفيلة بتعليم التلاميذ في أحسن الظروف، ومنها النقل المدرسي الذي يعتبر حاجة ملحة في كثير من المناطق النائية بحكم اتساع مساحة الجزائر، حيث تحوّل “طلب العلم إلى جهاد يومي يبدأ من الخامسة صباحًا، يضطر الآلاف من التلاميذ يوميًا للاستيقاظ باكرًا وقطع عشرات الكيلومترات مشيًا على الأقدام أو الاعتماد على “الحافلات”، مما يجعلهم عرضة للخطر وربما الموت في طريقهم إلى المدرسة، ولهذا يفضّل تلاميذ آخرون توقيف مسارهم الدراسي نهائيًا. يأتي هذا وسط إحصائيات تتحدث عن قرارات بغلق 10 آلاف قاعة تدريس على المستوى الوطني.
وكمثال على ذلك، عاشت العديد من المحافظات دخولًا مدرسيًا مضطربًا، حيث لم يكن الدخول المدرسي عاديًا بمحافظة “بجاية” جراء عدم التحاق العديد من التلاميذ بمقاعد دراستهم، بعدما منع أولياء التلاميذ أبناءهم من الالتحاق بمقاعد دراستهم في أول يوم من الدخول المدرسي بسبب مشاكل “قديمة” طفت على السطح، أبرزها مشكل مادة ” الأميونت” الخطير الذي تبنى به المدارس، والذي لا يزال يهدد صحة أبنائهم بهذه المؤسسة التربوية، ضف إلى ذلك عدم إحاطة المؤسسة بجدار خارجي مطالبين بتوفير الأمن لأبنائهم بعدما أضحت ذات المؤسسة التربوية لا تسير سوى بمديرها.
نصف مليون طفل حرموا من التعليم
يقول الأمين الوطني المكلف بالملفات المتخصصة بالرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان “هواري قدور “في تصريح لـ“شبكة زدني“ أن مشكلة التسرب المدرسي وحرمان الأطفال من الدراسة لا تزال عقبة كبرى في وجه الحكومة الجزائرية، مضيفًا ” رغم أنه في كل سنة تستقبل المؤسسات التربوية عبر الوطن مع الدخول المدرسي أكثر من 8.600.000 تلميذ حسب إحصائيات وزارة التربية الوطنية، في حين تسجل الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان حوالي 500.000 طفل يتراوح سنهم ما بين 6 و 16 سنة غير متمدرسين في الطورين الابتدائي والمتوسط أو يتركون مقاعد الدراسة مبكرًا.
واستدل السيد هواري قدور في حديثه لشبكة “زدني ” إحصائياته من التقارير الولائية، التي ترد الرابطة التي تتابع ملف التعليم في الجزائر بكل عناية حيث كشف محدثنا عن وجود 48% من الأطفال البدو الرحل لم يلتحقوا أصلًا بالمدارس بسبب عدم توفر مدارس متنقلة، وعدم توفر أصلًا معلومات لدى الإدارة حول المواقع التي تحتاج للتغطية الدراسية، وأحيانًا عدم توفر التأطير التربوي، ليحرموا بذلك من حق أساسي يفترض أن يتمتع به كل طفل في الجزائر.
وترى الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان أنه توجد العديد من الأسباب التي تؤدي إلى حرمان آلاف الأطفال في الجزائر من حق التعليم، منها الفقر المتزايد في بعض المناطق الريفية الذي أدى إلى منع الآباء أبناءهم من الالتحاق بالمدارس، وإدخالهم مبكرًا لسوق العمل لمساعدة العائلة، عاملًا هامًا وبارزًا في الحيلولة دون إلحاق الأطفال بالمدارس أو عدم تمكنهم من الحضور إلى فصولهم الدراسية بسبب القدرة الشرائية التي لا تكفي لسدّ البطون الجائعة ليومين على أكثـر تقدير، فما بالك بشراء الثياب، والكتب، والإطعام والنقل لمن يقيمون بأماكن بعيدة عن المدارس ولا يوجد نقل مدرسي، أو حتى الخوف على البنات تحديدًا من مغامرة قطع عشرات الكيلومترات للالتحاق بالمدرسة، خوفًا من الكلاب الضالة أو الذئاب البشرية وهناك بعض أولياء التلاميذ يتساهلون مع أبنائهم من التمدرس، بسبب شعار أصبح ينتشر في المجتمع بعد ارتفاع البطالة لدى الجامعيين التي تتعدى 30 %، وشعارهم ”اللي درس درس قديمًا”.
وفي هذا الصدد قال محدثنا: ” الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الانسان كانت دائمًا تذكر الرأي العام الوطني و الدولي بأننا في عدة مناسبات قمنا بإعداد تقارير حول التسرب المدرسي ولكن إلى غاية الساعة لم تجد نداءاتنا المتكررة حلولً في الميدان ”
تلاميذ المناطق النائية عرضة لكلاب مفترسة
يقول البرلماني الجزائري حسن عريبي في حديث لـ”شبكة زدني” أنه راسل العديد من المرات الحكومة الجزائرية بشأن محاربة ظاهرة الكلاب المفترسة التي تعترض يوميًا طريق مئات التلاميذ في العديد من المحافظات،كلاب جعلت العديد منهم يغادرون المدارس خوفًا على حياتهم، وأضاف محدثنا “تلاميذنا في القرى والمداشر عبر وطننا العزيز باتت حياتهم الغالية مرهونة بين أنياب الكلاب الضالة والحيوانات المتشردة، حسبما علمناه من احتكاكنا المباشر بالمواطنين”. وحسبما تنشره الصحف من أرقام مرعبة عن حالات تعرّض الأطفال لهجوم هذه الحيوانات التي باتت تبث الذعر والخوف في قلوب الرجال والنساء، كل هذا وسط إهمال ولامبالاة من قبل الجماعات المحلية ممثلة في البلديات والولايات.”
وحسب المراسلة التي وجهها النائب لوزارة الداخلية والتي تحوز”شبكة زدني” نسخة منها، فقد طالب هذا الأخير، بحلول ملموسة بعد عجز السلطات المحلية والبلديات في توفير الحماية من ما وصفه عريبي بإرهاب الحيوانات المتشردة، وفي مقدمتها الكلاب الضالة للتلاميذ والأطفال الذين أصبحوا لقمة سائغة في وجه هذه الحيوانات المتشردة
وقال رئيس جمعية أولياء التلاميذ الجزائريين “خالد أحمد ” في تصريح لفريق “زدني “: إن الجمعية التي يرأسها تدخلت لتسوية مشاكل العديد من التلاميذ من خلال توفير الإمكانيات المادية اللازمة لتمدرسهم، وأيضًا إقناع آباءهم بعدم حرمانهم من التمدرس، مشيرًا إلى أن دورهم غير كاف، فوزارة التربية الجزائرية مطالبة أيضًا بالتدخل لتوفير الإمكانيات للأبناء المحرومين من الدراسة بسبب ضعف الدخل الشهري للأب، وتابع المتحدث قائلًا لشبكة زدني: أنه يجب تنصيب لجنة تشرف على دراسة ملفات التلاميذ الذين توقفوا عن الدراسة حالة بحالة، فأسباب التوقف عن التمدرس كثيرة، فهناك من يحرم أبناءه خاصة البنات من الدراسة لاعتبارات دينية، وهذا من المفروض أن تتم إحالة ملفه على العدالة للنظر في قضيته مثلما ينص القانون “.
وذكر المتحدث لفريق زدني أن القانون بقي مجرد حبر على ورق، وحبيس أدراج وزارة التربية الجزائرية لسنوات طوال، في وقت لا زال العديد من التلاميذ يحرمون من مزاولة تمدرسهم، خاصة أولئك الذين يقطنون في المناطق النائية.