صوت المعلم

هل تريد أن تكون معلماً؟

التعليم تلك الوظيفة التي يبحث عنها الكثير من خريجي الجامعات، بغض النظر عن تخصصاتهم، والتي في نظرهم تمثل مهنةً يسترزقون منها فقط، غير مدركين للتحدّيات التي ستواجههم حين يظفرون بهذه المناصب، قد يقول قائل: كل شيء ظاهر للعيان، لكن ليس كل من يرى كمن يسمع، فالمُتتبع للمسار التربوي هذه السنة يرى العجب العجاب، هنالك إهمال واضح، وإقصاء مباشر لكل المبادرات التي من شأنها النهوض بهذا القطاع الحساس، قصد السير به نحو شاطئ النجاة، حتى أضحت المدرسة اليوم غير مرغوبة فيها من طرف التلميذ، الذي صار يستخدم شتّى السبل لكي لا يتواجد بها، قد تدفعه في العديد من الأحيان إلى فعل أشياء لا تمت لحرمة المدرسة بأي صلة.

شهدت المدرسة الجزائرية هذا العام أحداثاً مأساوية – إن لم نقل كارثية – تسببت في إحداث شرخ واضح ونزيف يهدد بالمزيد من التعفن، أُفقِدت هذه المهنة جوهرها، وجعلت الجميع ناقماً على الأستاذ، ويحمله المسؤولية المباشرة عن كل ما يحدث فيها، متناسين بذلك أن التلميذ يتأثر بكلّ ما حوله، وإذا لم تقم الأسرة والمسجد وجماعات الأقران بدورها في تنشئة هذا الفرد، فلن يكون بإمكان الأستاذ لوحده أن يتحمل العبء كاملاً، فهو موجه ومرشد، وعمله يبقى ناقصاً إن لم تتضافر جميع الجهود لتكوين هذا الفرد من النواحي النفسية والأخلاقية والاجتماعية والمعرفية، وإعداده الإعداد السليم ليكون فرداً صالحاً يخدم مجتمعه ووطنه، والأب الذي لا يحسن السيطرة على ثلاثة من أبنائه، لا يحق له أن يلوم الأستاذ الذي يظل طوال اليوم مع أربعين تلميذاً، تتعدد عقلياتهم وطبائعهم وتوجهاتهم، لست هنا بمقام الناقد الذي يتتبع السقطات والهفوات، ولكنه حق وجب أن يقال، لربما يصل إلى أسماع المعنيين، فيعملون على إصلاح الخلل ورأب الصّدع، قبل أن يحدث مالا يُحمد عقباه.

البداية كانت بالإضرابات التي قام بها الأساتذة، مباشرة بعد نهاية الفصل الأول، والتي حملت شعار “الجوع ولا الرجوع”، واستمرت قرابة خمسة أسابيع، دون أن تلتفت الجهات المعنية لنداءاتهم، ولم تلق الدعوات التي أطلقتها جمعيات أولياء التلاميذ للجميع بالتعقل، والبحث عن مخرج مشترك أي آذان صاغية، مما دفع الأوضاع التعليمية نحو منعرج خطير، هدّد مستقبل التلاميذ بشبح السنة البيضاء، وموازاة مع ذلك، قررت النقابات تصعيد اللهجة، عن طريق القيام باعتصامات ووقفات احتجاجية أمام مديريات التربية على المستوى الوطني، تنديداً بما أسموه الظلم الممارس على الأستاذ، يأتي هذا التصعيد بعد أن عجز الجميع عن الوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف.

من جانبها صرحت وزارة التربية الوطنية أن بعض المطالب التي نادى بها الأساتذة غير مشروعة، ولا تدخل في صلاحياتها، ولجأت إلى الخصم من أجور المضربين، وتهديدهم بالفصل من العمل، كما أصدرت تعليمات، ألزمت بها المؤسسات التربوية بإجراء امتحانات الفصل الثاني بالنسبة للأساتذة غير المضربين، ما جعل العديد من التلاميذ يرفضون هذه الفكرة في ظل هذه الظروف، والتي جاءت مفاجئة على حسبهم، ولا تسمح لهم باختبار حقيقي لقدراتهم، وأعفت طلبة البكالوريا من امتحانات الفصل الثاني،
ليعود بعدها التلاميذ إلى مقاعدهم مجبرين على تحمل حشو الدروس، وكذلك تقليص البعض منها بحجة أنها غير مهمة! الأمر الذي يطرح علامات استفهام كثيرة حول كيفية التعامل مع المواقف الطارئة، والطريقة التي ينتهجها المختصون في وضع المناهج، فإذا كانت هذه الدروس غير مهمة – حسب رأيهم – لماذا تم إدراجها في المقررات الدراسية؟ ولو كانت كذلك فعلًا، لِمَ لَمْ يتفطن لها واضعو المناهج حتى اليوم؟!

فيما تبقى أنصاف الحلول التي تلجأ إليها الوزارة في كل مرة، غير كافية البتة لإيجاد مخرج يناسب الجميع، فبعد أن قررت الاستعانة بالأساتذة المتقاعدين وإغرائهم بأجور مرتفعة، طرحت خطة بديلة وهي الاستنجاد بطلبة المدارس العليا للأساتذة، كي يلتحقوا على شكل متربصين، فيما بقي الحل الغريب الذي اهتدت إليه في الأسبوع الخامس من الإضراب، هو تزويد التلاميذ بأقراص مضغوطة تضم كل الدروس، وهو ما يطرح تساؤلاً حول جدوى الأستاذ والمدرسة، حيث احتوت هذه الأقراص على دروس محذوفة، لم تمسّها التعديلات الأخيرة في المناهج.

في ظل هذه الظروف صار همُّ التلميذ فقط كيف ينتقل للسنة الموالية، دون تحصيل معرفي، مما عزز من ظاهرة الغش التي صارت عقيدة لدى البعض، وصار كل أستاذ يؤدي واجبه بنزاهة غريبة، ومحل استغراب واستهجان ليس فقط من التلاميذ، بل تعدى الأمر ذلك إلى بعض “التربويين” الذين ساهموا في تفشي هذا السلوك بين بعض التلاميذ، الذين صاروا يستعملون تقنيات حديثة جداً، ويوظفون التكنولوجيا لخدمة أغراضهم، ووصل الأمر بهم في بعض الأحيان إلى تهديد الأساتذة، بل والاعتداء عليهم بدون رقيب ولا حسيب، وما زاد الوضع سوءاً هو المتاجرة بالنقاط، التي أصبحت تباع وتشترى، وتدّخل بعض الأشخاص الذين يحسبون على المنظومة التربوية في شؤونٍ ليست من اختصاصهم.

وقبل أن يسدل الستار عن آخر فصل من فصول هذه المسرحية البائسة، شهدت عدة مدارس عبر الوطن تمزيق الكراريس والكتب، وحرقها في مناطق أخرى، بل تعدى الأمر ذلك إلى إحراق مؤسسات تربوية بأكملها، وإحباط محاولات أخرى، أشياء غريبة تحدث، تطرح الكثير من علامات الاستفهام، حول الأسباب الحقيقية التي جعلت المدرسة في نظر التلميذ مكاناً منبوذاً لا يريد التواجد به، ويتحجج بشتى الذرائع لكي يغادره مبكراً، حتى ولو أدى ذلك إلى قتل زميله أو أستاذه بسبب خلاف بسيط!
فيما تبقى التصريحات التي تصدر من هيئات عليا في الوزارة تثير دهشة واستغراب البعض، حيث اعتبرت خريجي الجامعة المشاركين في مسابقات التوظيف الأخيرة، غير مؤهلين للتدريس على حد قولها، باعتبارهم فشلوا في الإجابة عن أسئلة بسيطة، خلال المقابلة الشفهية، التي يعلم القاصر قبل الداني نوعية الأسئلة الموجهة فيها، والتي لا تمت لوظيفة التعليم بأي صلة، حيث تفاجأ الكثير من المترشحين بأسئلة غريبة، اعتبروها إهانة لهم، وعبروا عن امتعاضهم بقولهم: “لا تقدّم لأمةٍ يُهان فيها المعلم” و”الأمة التي تُهمل صُنَّاع عقول أبنائها لن تُكتب لها نهضة أو انطلاق”.

عبد الرؤوف جناوي

أستاذ التعليم الثانوي لمادة التربية البدنية والرياضية، متحصل على شهادة الماستر الأكاديمي في التعلم الحركي، مهتم بالتعليم عموما، الحكمة المفضلة عندي دائما “اصمت ودع إنجازاتك تتحدث”
زر الذهاب إلى الأعلى