هل يُحارب العلمُ باسم الدين؟

المشكلة الكبرى التي ألمِسها في وقتنا الحالي هي “أسلمة العلوم“. نحن نريدُ أنْ نجعلَ العلمَ مسلمًا، فما توافق مع “فهمنا“ للدين قبلناه، وما لم يتوافق مع فهمنا نبذناه ولعنَّا العلمَ وأهلَه. وطريقًا كهذه يستحيل أن تؤدي إلى الحقيقة يومًا ما.
انظروا مثلًا كيف تعاملنا مع الخرافات وروَّجنا لها، هل سمعتم يومًا بقصة نيل أرمسترونج الذي سمع صوت الأذان من على سطح القمر؟ أزعم أنَّ الكثيرَ منَّا قد سمعها من قبل وصدَّقها، مع أنَّه لو وقف الشخصُ مع نفسِه نصفَ ثانية لتذَكَّر أنَّ ألف باء في قوانين الفيزياء هو أنَّ الصوتَ لا ينتقل في الفراغ أصلًا، وليس للقمر غلاف جوي كي ينتقل الصوت خلاله.
إننا في هذه الحالة نضربُ عرضَ الحائط بأبسطِ قواعد الفيزياء التي يعرفها أي طفل في الصف الرابع الابتدائي، لنصدقَ أنَّ ناسا سمعت صوتَ الأذان على سطح القمر، والحقُّ ما شهدت به الأعداءُ. في حين أنَّ ناسا نفسَها حين تكتبُ على موقعها أننا لا نملكُ دليلًا علميًا على أنَّ القمرَ قد انشقَّ، ساعتها نبدأُ في لعنِ ناسا وعلمائها، فهم الكافرون الذين يريدون هدم الإسلام.
إنَّ عقليةً كهذه لا يمكن أن تتقدم أبدًا، هذه العقلية التي تنتقي من العلم ما تريد، والمشكلة الأكبر أن هؤلاء الأشخاص يظهرون للناس على أنهم عُلماء، ولكنهم في الحقيقة لا يُمارسون العلمَ وإنَّما يُمارسون الدجل باسم العلم.
أستحلفكم بالله، هل مَن يرفض نظرية التطور، يرفضها لأن لديه أدلة علمية على بطلانها؟ أم يرفضها من منطلق ديني؛ لأنه يرى أنها تخالف الحكايةَ التي يرويها دينُه؟
إنني أعلم أنَّ غالبيةَ الناس لا يعرفون ماذا تقول نظرية التطور أصلًا ولم يقرؤوا حتى كتاب أصل الأنواع لتشارلز داروين، بل ربما لا يعرفون عن داروين أي شيء سوى اسمه، فماذا تنتظر من أشخاص مستمرين في قولهم بأن النظرية تقول “إن الإنسان أصله قرد“، مع أنَّ هذه الجملةَ لم يقل بها أحدٌ من العالمين!
إن هؤلاء عاجرون عن فهم ما قاله داروين من حوالي ١٥٠ عام، فكيف يفهمون نظرية التطور في ثوبها الجديد أو ما يسمونها بالـ Neo Darwinism؟
ماذا لو قرأ هذا الذي يرفضُ النظرية بناءً على فهمه للدين كتابَ “أبي آدم“ للدكتور عبد الصبور شاهين؟ أو كتاب “كيف بدأ الخلق“ للدكتور عمرو شريف؟ ماذا لو علم أن هناك فهمًا آخر غير فهمه، وأنَّ تفسيرَه لآيات القرآن ليس بالضرورة أنْ يكونَ صحيحًا، وأنَّ لدينا تفسيرًا بل تفسيراتٍ أخرى تتناسب مع العلم؟
إننا لسنا في هذه الحالة أمام نقاش علمي، وإنما أوقفنا العلمَ ونظرياتِه ورفضناها لأجل أشخاص محدودي المعرفة والاطلاع، لا يعرفون إلا رأيًا واحدًا في دينهم وتفسيرًا واحدًا يزعمون أنه الصحيح.
إن المسلمين قبلوا نظرية الانفجار الكبير «Big Bang Theory» لا لأنها الأفضل بيانًا وقوةً في تفسير نشأة الكون ولكن لأنهم يعتقدون أنها لا تخالف فهمَهم للإسلام. فالقضية ليست هل هذا الكلام صحيحٌ علميًا أم لأ؟ وإنما القضية هل هذا الكلام متوافقٌ مع فهمي للدين أم لا؟ فإذا كان متوافقًا قبلوه حتى لو كان محض خرافة ولا أساس له من الصحة، وإن كان متعارضًا مع فهمهم تركوه حتى لو كانت تُدرَّس في أحسن جامعات الدنيا.
فنظرية التطور كمثال ليست فقط تُدرَّس في جامعة هارفارد، لا، بل لها قسم خاص كامل في جامعة هارفارد، ومع ذلك لا يعتد بها إلا النزر اليسير جدًا من المسلمين.
مثال آخر حدث معي شخصيًا، وهو منذ أيام ماضية، تم نشر ورقة علمية جديدة تقترح أن الزمان كان موجودًا قبل الانفجار الكبير، وهو ما يدل على أن الانفجار الكبير ليس هو بداية كل شيء. أرسلتها لصديق لي مهتم بالعلوم أيضًا ثم تناقشنا حولها، فإذا به يرفضها جملة وتفصيلًا. لماذا يا فلان؟ قال: لأننا لو افترضنا وجود شيء قبل خلق الكون، سيكون بذلك أثر سلبي على وجود الله وأنه هو المحرك الأول.
إذن فنحن نرفض ونقبل ليس على أساس علمي، وإنما ننتقي ما هو موافق لأفكارنا، ولو سار كل شخص على هذه الطريق لما تقدم العلم خطوة واحدة، فلو كل شخص يعتنق دينًا معينًا ثم يأتي إلى العلم ليرفض بناءً على دينه ويقبل بناءً على دينه، لما بقي في العلم شيء.
لقد فرغت من كتابة بحث من أيام عن موضوع متعلق بالعلاقة بين الإسلام والعلم، حيث أراد جماعة من الناس أن يبرهنوا من العلم فهمهم (الخاطئ) لأمر في الدين، مستدلين بذلك بأدلة علمية وأدلة تاريخية. وأتيتُ في بحثي لأتقصى هذه الأدلة التي أتوا بها، فإذا بي أصل في النهاية أنه لا توجد كلمة واحدة صحيحة قالوها.
فإذا كانت خطوات الاستدلال على صحة شيء هي أربع خطوات، فقد أخذوا خطوتين ليصلوا إلى النتيجة المتوافقة مع فهمهم الخاطئ والمُضلل ووقفوا إلى هنا وفقط، ولو أنهم أكملوا الخطوتين اللاحقتين لتبين تحايلهم وتدليسهم. ولكن لم يكن بحثهم لأجل العلم وبيان الصواب، وإنما كان البحث لأجل الانتقاء من العلم ما يوافق تفسيرهم.
بل إنَّ القضيةَ تعدت هذه المرحلةَ بكثير، بحيث تغيرت حالُ المسلمين تجاه التطورات العلمية الحديثة. انظر إلى حال المسلمين عند القيام بعملية إطلاق جديدة لصاروخ فضاء، أو حين الحديث عن عملية نقل رأس من إنسان لإنسان، أو حين الحديث عن استعمار المريخ، سترى وجوهَهم “يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ“ ويتمنون لو تفشل هذه التجارب، يتمنون لو يحترق صاروخ الفضاء أو تفشل هذه العملية الجراحية، وكأن أي تطور في العلم الحديث يؤثر بالسلب على إيمانهم.
فبدل أنْ يدفعنا الدينُ إلى المزيد من السعي في التقدم في مناحي الحياة، صرنا نعادي العلمَ ونعادي التطور، ويشتاط المسلمون غضبًا حين الحديث عن أي شيء جديد في العلم.
ولكي أدلل بمثال عملي، منذ أيام قامت الصين بإنبات أو نبتة من القطن على سطح القمر، ولكن للأسف مات هذا النبات بعد يوم واحد من شدة البرد، وأخذتُ أتابع تعليقاتِ الناس على خبر موت النبات، فإذا أغلبها سخرية وفرحًا وشماتة في الصين وفي فشلها من استكمال دورة حياة النبات. نعم، هنا يحق لنا أن نفرح، عند أي فشل علمي يأتي دورنا نحن لنفرخ ونستهزئ، حتى أنني تعمدتُ أنْ أُعلّق على جميع المنشورات التي تتحدث عن هذا الخبر بتعليق إيجابي كتبت فيه “لا بأس أحبتي، فالعلم سينتصر في النهاية، اليوم عاشت ليوم واحد وغدًا سينتجون أنواعًا تتحمل البرد وستعيش لفترة أطول؛ فالمحاولات العلمية تؤدي دائمًا إلى النجاح حتى وإن فشلت إحداها في البداية.“
وهنا أرجع إلى صديقي الذي قال إن افتراضًا كافتراض وجود شيء قبل الكون يقدح في وجود الله، فأجبته بجوابين: إن العلم لا يعنيه هل هناك إله أم لأ. هذه ليست من شأن العلم أصلًا ولا من اختصاصه. ثانيًا: ماذا تقول لو وجدنا في الدين ما يوافق هذا الفرض، هل ستقبله؟ بمعنى: الله يقول (وَهُو الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) إن الله يستخدم كلمة (كان) قبل خلق السماء والأرض، وكان هنا تدل على الزمن. ثم إنَّ الآيةَ تقول أيضًا أنَّ الماءَ كان موجودًا قبل خلق الكون، فما المشكلة في أنْ تكونَ هناك مادةٌ أو زمن قبل خلق الكون؟ بل إنَّ هذا هو الرأي الذي يراه ابن رشد الحفيد وذكره في كتابه “فصل المقال“ وتبنَّى ابنُ طفيل هذا الرأيَ أيضًا.
ساعتها اقتنع صاحبي بقبول هذا الافتراض، وأريد أن أقول: إنني لست مع هذا الافتراض ولا ضده، وحين أتناوله شخصيًا لن أستدل بهذه الآية، ولكني فقط أردت أن أثبت له تلاعبَه وعبثَه في القضايا العلمية.
فالشيء الذي رفضه بناءً على دليل ديني، قَبِلَه بعدها بعشر دقائق بناءً على دليل ديني أيضًا… ومثل هذه العقلية، لن تفلح في دين ولا في دنيا، فلا فهمًا قويمًا للدين يملك، ولا علمًا صحيحًا يعرف.
وأقول ختامًا: إنما ينبغي على الإنسانِ أنْ يتبعَ الدليلَ حيثما قاده إليه، لا أنْ يتبعَ طريقًا ثم يطلب بعد ذلك دليلَها.
المصادر:
(1) https://www.youtube.com/watch?v=-hfmIfv4cQw&t=127s
(2) http://csep10.phys.utk.edu/OJTA2dev/ojta/c1c/earthmoon/overview/atmosphere_tl.html
(3) https://sservi.nasa.gov/?question=evidence-moon-having-been-split-two
(4) https://oeb.harvard.edu/
(5) https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S0370269318300637
(7) https://www.spacex.com/mars
(8) https://www.bbc.co.uk/news/world-asia-china-46873526
(9) https://www.space.com/43025-china-moon-mission-plants-dead.html
(10) كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال“ لابن رشد، ص ٤٣
(11) كتاب “قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن“ للدكتور نديم الجسر، ص ٩٧