تقاريرصحافة التعليم

هيباتيا .. آخر بريق لشعاع العلم بجامعة الإسكندرية القديمة

منذ حوالي 1618 سنة في مصر، وبالتحديد عام 400 ميلادية، إن افترضنا أنك عدت بالزمن إلى هذا التاريخ، وبدأت بأخذ جولة في أحد شوارع منارة العلم الأولى في العالم، مدينة الإسكندرية الفاتنة، فهناك احتمال ما أن تقابل شابة جميلة تُدعى ” هيباتيا “.

وحقيقةً سوف تكون أحد أولئك المحظوظين إن استطعت أن تخوض نقاش معها، لأنك في هذه اللحظة سوف تتبادل أطراف الحديث مع عالمة الرياضيات الأولى في التاريخ، وواحدة من أنبغ علماء الفلك، وأهم الفلاسفة في عصرها، وأحد أكثر الشخصيات المهيبة والمتواضعة في المدينة آن ذاك.

منذ صغرها استطاعت ” هيباتيا السكندرية “ أن تتشرب علوم والدها “ثيون“ وهو من أشهر علماء الرياضيات بمكتبة الإسكندرية في ذلك الوقت، كما كانت متفوقة في العلوم، ونتيجة لذلك، نشأت على حبها للتساؤل والبحث والقراءة، حتى غدت في شبابها عالمة يلتف حولها التلاميذ لطلب علومها، ومخترعة ذكية.

يعود الفضل لها في اختراع “الهيدروميتر“ وهو جهاز يُستخدم لقياس الكثافة النوعية للسوائل، كما أنها كانت فيلسوفة مُخضرمة تُطلق الأسئلة وتحاول إيجاد إجابات لها، وفلكية متمرسة تجد آراءها هنا وهناك عن تصورات حركة الأجرام السماوية وأشكالها.

كيف تعلمت هيباتيا

لقد كانت المدينة تقع تحت سيطرة الحكم الروماني حينها، ورغم أن تعليم الإناث لم يكن شائعًا في ذلك الوقت، إلا أنه كان مهمًا بالنسبة للعائلات الراقية والمفكرة، حيث كانت مسؤولية تعليم الأولاد الصغار تقع على عاتق الأمهات؛ لذلك كان من المهم أن يكنَّ متعلمات هن أيضًا. 

وغالبًا ما كان ينحصر ذلك الأمر على العائلات الحاكمة، والمفكرة، والثرية فقط، حيث كان التعليم مكلفًا حينها وله طريقته الخاصة.

وكان تعليم الصفوة في القرن الرابع الميلادي يمر بعدة مراحل، في البداية يتعلم الأطفال اللغة والأخلاق، ثم ينتقلوا إلى مرحلة تعلم سُبل الحديث اللائق التي تجعلهم بعد ذلك من ضمن الصفوة الراقية بدورهم.

ورغم هذا لم تتجه هيباتيا إلى السير على النهج الذي تتبعه فتيات المدينة الذين يتم تعليمهن الأدب والشعر، وتدريبهن على سلوك الحديث والتعامل منذ الصغر، بل اختارت أن تكون العلوم هي حياتها بدلًا من الحياة التقليدية أو الزواج.

سافرت إلى أثينا وإيطاليا كي تدرس هناك، وعندما عادت، كانت تقضي وقتها إما في القراءة بمكتبة الإسكندرية، أو شرح العلوم للتلاميذ من مختلف الأعمار، أو التأمل ليلًا بالسماء ومحاولة معرفة ما يكمن هناك في البعيد المظلم من أجرام سماوية، ومحاولة توقع أشكالها وبناء النظريات حول حركتها.

كما تأثرت هيباتيا أيضًا بفلسفة “أفلوطين“ واتخذتها منهجًا لها، حيث كانت تعتمد على الرياضيات والإثباتات في تفسير الطبيعة أكثر مما تعتمد على الجانب التجريبي.

ومع مرور الوقت لمع اسم هيباتيا في المدينة، فلم تكن فائقة الذكاء فقط، بل كانت صارخة الجمال أيضًا، لذلك كان دائمًا ما يحاول أسياد المدينة الالتفاف حولها والتقرب منها، والأخذ بنصائحها التي تقدمها.

ومع أن آراءها الفلسفية كانت تُعد بالنسبة للكنيسة في ذلك الوقت أمرًا يهدد نفوذها، إلا أنها كانت تحظى باحترام طلابها المسيحيين، فقد كانوا يستمعون إليها دائمًا ويتناقشون معها حول العديد من القضايا التي كانت تدور في المدينة بذلك الوقت.

مقتل هيباتيا

بعد أن اشتهرت هيباتيا في المدينة، وبدأ الكثير من الأشخاص يتأثرون ويتنورون بآرائها وعلومها وخصوصًا حاكم الإسكندرية “أوريستوس“، بدأت الكنيسة في الشعور بأن نفوذها الديني بدأ في التراجع.

حينها رأي “كيرلس الأول“ مصباح الدين، بأن تلك الشابة المتعلمة تهدده، فشرع في إطلاق الشائعات حولها بأنها ساحرة ومشعوذة تدعو إلى الكفر والإلحاد.

 كما قام أيضًا بإطلاق أحكام تُحرم تعليم وعمل المرأة في ذلك الوقت، حتى استطاع النجاح في مهمته وشحن الأجواء تجاهها في النهاية.

وفي إحدى الليالي السوداء عام 415 م، أثناء عودة هيباتيا لمنزلها، شن حشد من الغوغاء المسيحيون هجومًا عليها، فقاموا بتجريدها من ملابسها، وبدأوا بجرها من شعرها في المدينة حتى تجرح جسدها بالكامل، ثم تقدم أحدهم في النهاية وقام بذبحها، كي تنهال عليها طعنات السكاكين بعد ذلك.

ولم يكتف أولئك المتشددون بقتلها بتلك الصورة البشعة فقط، بل قاموا بسلخ جلدها بالأصداف البحرية، وإلقائها على كومة خشب وحرقها، وكل ذلك لمجرد أنها عبرت عن آرائها الخاصة، وحاولت نشر علومها.

لم يكن موت هيباتيا أقل تراجيدية من الطريقة التي قُتلت بها، فقد انحدرت الثقافة والعلوم في الإسكندرية بعد موتها، وشهدت الإمبراطورية بأكملها تحولات سلبية ملحوظة، خصوصًا أن نفوذ الكنيسة أخذ في الازدياد بالتزامن مع فرض رجال الدين آراءهم المتشددة.

وقد وصف كارل ساجان في كتابه “كوكب الأرض: نقطة زرقاء باهتة“ أن هيباتيا كانت آخر بريق لشعاع العلم بجامعة الإسكندرية القديمة، لأن العلماء بدورهم تأثروا بموتها وخشوا من بطش الكنيسة فرحلوا عن المدينة، كما رأى بعض المفكرين أن موتها كان نهاية للعصر الكلاسيكي القديم، الذي بدأ بعده العالم حقبته المتوسطة المظلمة، بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية.  

كانت هيباتيا هي شهيدة العلم الأولى في تاريخ البشرية، ورغم أن هناك الكثير قبلها من العلماء والفلاسفة قد لقوا حتفهم نتيجة آرائهم، إلا أنها تعتبر السيدة الأولى التي تلقى هذا المصير السيء، حيث كانت الند الأول للمسيحيين في ذلك الوقت.

لكن رغم ذلك فهي بطريقة ما، استطاعت أن تترك بصمتها بالعالم، وتصبح واحدة من الرموز القوية التي يتأثر بها النساء.

فيلم وكتب عن حياتها:

في عام 2009 م، تم إنتاج فيلم “آغورا – Agora” الدرامي الذي يحكي قصة حياة هيباتيا السكندرية، ويتحدث عن أهم إنجازاتها وآرائها، ويصور أيضًا شكل الحياة في الإسكندرية آن ذاك، ومدى تشدد الكنيسة والفئات الدينية. وهو ترشيح ممتاز لمن يريد معرفة المزيد عنها، ومدى ما قدمته للعلوم والبشرية. وقد حصل الفيلم على العديد من الجوائز الأوروبية، نتيجة تخليد ذكراها.  

كما كُتب عن هيباتيا العديد من الكتب الإنجليزية، التي تفوق الكتب العربية في عددها، حيث يتم تدريس قصتها في الكثير من المناهج الأكاديمية في الخارج.

أبرز الكتب الأجنبية التي كُتبت عنها هو كتاب “Hypatia of Alexandria” ويحكي عن قصتها بعيدًا عن الأساطير والقصص المشوّهة التي تُروى عنها.

ومن يريد الاستزادة يمكنه قراءة الكتب التالية أيضًا: 

– Of Numbers and Stars: The Story of Hypatia

– Selene of Alexandria

– The Beacon at Alexandria

وقد كتب عنها أيضًا عدد من الكتب العربية أهمها كتاب “هيباتيا والحب الذي كان“ حيث يحكي به الكاتب قصتها في قالب روائي.

نبذة عن آراء هيباتيا

تحدث عن هيباتيا الكثير من العلماء في كتبهم مثل كارل ساجان، وذكرها آخرون في وثائقياتهم العلمية، وما زال يجري الاستشهاد بها حتى الآن مثالًا للنضال من أجل العلوم والتنوير، كما كان لها العديد من الآراء والمقولات، أهمها:

“الخرافات يجب أن تُدَرَّس كخرافات، الأساطير كأساطير، المعجزات كخيالات شعرية .. تقديم الخرافات على أنها حقائق هو شيء فظيع؛ لأن عقل الطفل يقبلها ويصدقها وفقط بعد ألم عظيم وربما مأساة يمكنه أن يتخلص منها“

“حافظ على حقك في التفكير، فحتى أن تفكر بشكل خاطئ أفضل من عدم التفكير على الإطلاق“

عمر طارق

“أهتم بقضايا العلم والتقنية والتعليم في المقام الأول، كما أعشق البحث والكتابة”
زر الذهاب إلى الأعلى