أيتها الطالبة! وقعي تعهّدًا، وسوف ننسى، ولن نخبِر أباك بما جرى!
لا تستغربوا العنوان، فقد كان توقيع التعهدات أحد إجراءات التأديب أو الضبط المتبَعة في المدرسة الخاصة التي التحقت بها في المرحلتين الابتدائية والإعدادية. كانت المدرسة ذات تعليم مختلط في المرحلة الابتدائية ورياض الأطفال فحسب، لكن المرحلتين الإعدادية والثانوية مقصورتان للبنات.
في مدرستنا تلك، كانت تحصل الكثير من المشاكل التي تحدث مثيلاتها في المدارس الأخرى من قبل الطالبات: مثل التطاول على معلمة، أو الإهمال في الدروس والواجبات، أو الهروب من إحدى الحصص، أو من المدرسة بالكامل أثناء الحصص …إلخ.
المشكلة الأساسية:
إلا أن أبرز المشاكل على الإطلاق كانت تَفد من طالبات نهائي المرحلة الإعدادية وربما أوائل الثانوية، وكانت معظمها تتعلق بعلاقات مع الشباب! فحين كان يتم اكتشاف أن إحدى البنات تتفق مع أحد الشباب للقاء بعد المدرسة، أو أنها هاربة من إحدى الحصص لتضع المساحيق في دورة المياه وتهيء نفسها للقاء، كانت تُستدعى فورًا للإدارة.
(تعليقنا هنا ليس على فكرة استدعائها للإدارة، فإبراز الخطأ والتحدث عنه واحد من أدوار المدرسة، خاصة وإن حدث الأمر في “ساعات” المدرسة. إنما النقد الأساسي يتعلق بالإجراء الذي تتخذه الإدارة لحل المشكلة).
الإجراءات المتبعة للتأديب وإصلاح الخلل:
الإجراء الأول: استدعاء ولي الأمر:
كانت الإدارة في البداية تستدعي ولي الأمر الذي غالبًا ــ مع الأسف ــ لا يكون متفهمًا بالمرة، ويجعلونه هو يقرر الإجراء المناسب مع الابنة. من المواقف التي شهدتها بنفسي مصادفة، كان استدعاء أحد أولياء الأمور لأجل أن يتخِذ مع ابنته “الإجراء المناسب”.
فقد تم العثور على الطالبة “متلبسة” وهي تجهز نفسها وتبدل ملابسها في دورة المياه، بعد اكتشاف غيابها عن إحدى الحصص رغم التأكد من مجيئها في ذلك اليوم. فما كان من الوالد ــ إن صح تسميته والدًا ــ إلا أن انهال عليها ضربًا وشتمًا. وبكيت زميلاتها الأخريات شفقة وفَرَقًا، حتى أن إحداهن أوقعت مكتب واحدة من السكرتيرات عندما رجعت بظهرها للوراء من هول الموقف!
ما زلت أتذكر صراخ الفتاة وبكائها واستجدائها لأبيه بأن يتركها. وأذكر كذلك كيف أن بقية الموظفات وعضوات الإدارة المتواجدات حينها في الغرفة كنَّ “يتفرجن على المشهد” بلا حراك أو اعتراض. وبعد أن انتهى الأب، أحضرن له كوب ماء ليشرب! أحد المسؤولات قالت للبنات الأخريات الواقفات: “ما حدث الآن لهذه الفتاة هو عبرة لكنَّ لتتعِظْنَ.” وفهمتُ من دموع الفتيات ونظراتهنِّ وقتها أنهن يتوقعن نفس “المصير” من آبائهن.
ما الخطأ في هذا الإجراء؟!
قد يبدو السؤال في غير محله، كما قد تظهر الإجابة واضحةً كذلك للوهلة الأولى. ولكن الحقيقة هي أنه قد مضى على الموقف السابق عشرون عامًا تقريبًا، وما زلنا نشهد الكثير من التصرفات المماثلة من قبل المعلمين والآباء تجاه الطلبة والأبناء عند حدوث أي خطأٍ، من قبيل: الضرب والشتم والسب والإهانة، ثم نتساءل عن أسباب انهيار جيل بأكمله، وتفشي الأمراض والعقد النفسية!
شدَّ ما أحزنني أنني لم أسمع صوت “حديث” الفتاة في الموقف كله، فلم يظهر من صوتها إلا النحيب! لم يفكر أحد أن يتحاور معها أو يسألها عن سبب ما قامت به! ألا يعرف هؤلاء أنه حتى المجرم الذي ثبتت عليه التهمة يُقدَّم للمحاكمة، وله الحق في تعيين محامٍ بل والدفاع عن نفسه حتى يتم إصدار الحكم؟!
الإجراء الثاني: توقيع الطلبة على تعهدات:
والذي صار الإجراء الرسمي والبديل عن استدعاء ولي الأمر إلى أن غادرتُ المدرسة. فكانت الطالبة التي يصدر منها مثيل تصرفات مشابهة لما سبق ذكره آنفًا، تُخيَّر بين أن تمضي على تعهد أو يتم استدعاء ولي أمرها. وغني عن الذكر أن معظم الفتيات ــ سيما بعد ما جرى لصاحبتنا المراهقة ـــ كن يخترن الإمضاء على تعهد. وينص التعهد على امتناعها وعدم عودتها لتكرار ذات التصرف “السيء” مستقبلًا، وأنها إن قامت به مرة أخرى فيستم استدعاء ولي الأمر “دون نقاش معها”!
حلٌّ غير عمليٍّ أو تربوي:
وللأسف لا يختلف هذا الإجراء كثيرًا عن نظيره من الناحية التربوية على الأقل، اللهم إلا في البعد عن “العنف” من ضرب أو شتم.
ذلك أن الحوار والتوجيه معدوم في كلا الإجرائين. وهذا يعتبر أمرًا مرفوضًا تمامًا خاصة في تلك المرحلة الحساسة من العمر. فمعلوم أن أكثر مشاكل البنات، سيما العاطفية منها تظهر في تلك المرحلتين (الإعدادية والثانوية). فإذا لم يتم التحاور والتفاهم والنقاش والإقناع بالحسنى في هذه المرحلة من العمر فمتى إذن بالله عليكم؟! أعندما تأتي الفتاة وقد صارت طالبة جامعية، ويفاجأ والدها أنها في علاقة عاطفية مع زميلها في الكلية، وأنها تلقاه سرًا خوفًا من والدها؟! أم حين تتخرج من الجامعة وتقرر الزواج من شاب بعينه ــ قد لا يكون مناسبًا ــ ودون موافقة أسرتها؟!
أترك إجابات الأسئلة لجميع مسؤولي التربية والتعليم في عالمنا!
إن الكثير من المربين والمعلمين يتهمون الآباء بالتقصير في تربية أبنائهم، وكثير من الآباء يتهمون الأبناء بالتقصير في الطاعة وسماع النصح، ولكن ماذا عن الأبناء الذين يندر أن يسمع أحد لومهم أو يستجيب لندائهم أو يتعامل مع شكواهم بطريقة منصِفةً وسوية؟!
في الختام، أرجو منكم أيها الآباء والمربون والمعلمون أن تحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا أبناءكم وطلبتكم!