إلى أي مدى تصلح قوائم الإنجاز كمنهاج حياة؟
لا تكاد مادة مما تتناول تنظيم الوقت وتخطيط سير الحياة تخلو من ذكر مصفوفات زمنية وقواعد إدارية شهيرة، جلّها من مُستوردات علوم الإدارة وتطوير الذات. وليس في ذلك من بأس لو أننا نتعامل معها كأدوات تنظيمية بحتة، تستند لخلفية فكرية قوية عندنا بالأصل منها نستقي قواعد السلوك. لكننا نستورد تلك النماذج المجتزأة على أنها مناهج حياة متكاملة غير واعين بالمنظومة الفكرية الكامنة ورائها والتي نستوردها في أذيالها. تأمل في هذا النموذج الشهير:
قائمة الإنجاز To-Do List
ترتكز فكرة هذه القائمة على ترتيب ما تود إنجازه من مهام في يومك بحسب أولوياتها عندك، بدءًا بالأهم فالأقل أهمية وهكذا.
ووفقًا لقاعدة “باريتو” Pareto Principle، فإن 80% من (قيمة) إنجازك و(معيار) نجاحك في يومك، يتم تحصيله بإتمام 20% من المدوّن في القائمة. فإذا كان على القائمة 10 مهام مثلًا مرتبة بأولوية، وأنجزت أول اثنتين فحسب في يومك، تستحق أن تنضم لمصاف الناجحين في استثمار أوقاتهم!
لندع القائمة جانبًا قليلًا، ولنلق نظرة أعمق على أبعاد الفلسفة الفكرية والتصور الكامن وراء ذلك المنهج. إذا تخيّلنا اليوم على هيئة خط مستقيم، وتطلعاته أو أهدافه تمثل منحنيات على طول الخط، على النحو المرسوم أدناه، ماذا تلاحظ بين كل منحنى والذي يليه؟ ثغرات أو فراغات.
والآن، لنتخيل أن الخط المستقيم تمثيل لعام كامل، والمنحيات هي “أهداف الإنجاز” في ذلك العام. ثم لنتخيل أن الخط المستقيم يمثل عمر المرء كاملًا، والمنحنيات هي “أهداف الإنجاز” في حياته. فما الذي نلاحظه على المدى الأطول؟ فراغ إلى فراغ إلى فراغ .. فإذا بها .. كارثة!
إن الذي ينفق أيامه وفق ذلك التصور المستورد حرفيًا يعيش على شكل قفزات أرنبية، منتقلًا من هدف للذي يليه، ومعياره الأوحد للنجاح مدى تحقق أهدافه وتقدم إنجازاته، هذا الشخص ينجز لا ريب، لكن هل هو يحيا حقيقة؟!
وفي تصورنا الأصيل، هل الحياة التي نريد أن نحياها ونعمر نفوسنا فيها بقدر أنفاسنا، هي مجرد “كومة” من الأهداف أو قفزات من الإنجازات أو محطات مهام؟ أم هي خط متصل من العمران المستمر، في أوقات الفراغ وأوقات العمل وأوقات الترويح وأوقات الانتظار، وحتى أوقات النوم ودخول الخلاء؟! هل الحياة بالنسبة لنا هي محطات أهداف متباعدة، أم رحلة بنائية متكاملة؟
ثم إن الذي يعيش بنفسية الأهداف المتجزئة والإنجازات الأرنبية، سيعاني في كل مرحلة إنجاز من حشد أعتى طاقات العزم والتركيز والمثابرة ليتم هذا الهـدف أو ذاك، فإذا تم عاد لسيرته الأولى وطبعه الأصلي المعاكس لكل هذه المعاني السامية.
وبالتالي ينقلب الإنجاز عملية معاكسة مستمرة للنفس وطبائعها وعاداتها. أما الذي يأخذ الحياة بالتصور الكلي والخط المستقيم، تصير تلك المعاني بالنسبة له مفردات حياته اليومية، ويكون هو في طبعه وتصرفاته تجليًا طبيعيًا لها. فمن جاهد نفسه حتى استقامت وصار العزم والجد طابعه، لا يحتاج لتكلفهما كل حين والآخر، بل شقاؤه الحقيقي يكون في الفتور والخمول والتبطل.
ولتقريب المثال تخيل الفارق بين غطّاس ماهر، الغطس رياضة يومية له، وبالتالي يصير بدنه ونفسيته في وضعية استعداد دائم وتفاعل طبيعي مع الماء؛ وأحد الهواة ممن يمارسه كل عام مرة، أو كل بضعة أشهر، بالتأكيد سيستغرق وقتًا أطول ليستعد قبلها، ويتأقلم أثناءها، ويسترخي بعدها؛ لأن النشاط ككل فيه استفزاز لعاداته البدنية والنفسية. أو تخيل الفارق بين تنفس الهواء على اليابسة والتنفس تحت الماء. إننا لا نكاد نشعر بالأول – ناهيك أن نتكلفه – لأنه صار طبعًا وجزءًا من التكوين، بخلاف التنفس تحت الماء لمن لم يعتده.
الهدف من هذا التنبيه إعداد نفسيتك للتعامل مع نصائح ومقترحات تنظيم الأوقات على أنها أدوات تنظيم بحتة، تعين على حسن اسثمار الأوقات المتاحة وتوسعتها حيث أمكن، لكنها وحدها لن “تخلق” فيك العزم والهمة والجدية والمسؤولية وحس الأولوية وموازناته. هذه طباع تتطبع ونفسية تتشكل بإعمال الفكر واليقظة والعي بغاية الوجود وسننه وشرع الله فيه وفيك.