اثنا عشر عامًا خارج صندوق الذاكرة…متخصصون لا موسوعيون
مازحتني ( ست جوليت) معلمة الرياضيات يوما متعجبه “كيف تحبين الفيزياء وتفهمينها وتعجزين عن فهم الرياضيات وحبها”،”ببساطة يا مس لأننا إذا ضغطنا على الزر فتح لنا الضوء نراه ونشعر به، وفي نهاية المطاف يضيء لنا الطريق. أنا أحب أن أرى رسمة التيار الكهربائي على اللوح بخط (الزكزاك) وهو يمر عبر الدائرة الكهربائية نغلقها فينقطع ونفتحها فيسري الدفء في عروقنا، أمَّا إن قلنا ق(س)= ع(2ص+8س)، فأننا ندخل في عالم المجردات، لا لون ولا طعم ولا رائحة، كم كنت أكره الرياضيات حاولتُ كثيراً فهمه، حاولتُ كثيراً التصالح معه، أن أتذوق لمعادلاته وبراهينه نكهة الحياة، لكن ما كان بيننا هو عداء مستحكم، ومن طرائف العداوة أنك لو ضربت رأسي بالحائط ثمَّ أعدته إلي أدراج العلم ما نزف دماغي مصفوفة واحدة ولا تكسر بالضرب أو تأثر بما تقاسمه مع الحائط من دوي خبط .
أما الأحياء والفيزياء فلا يعلو عليهما في متعة دراستهما شيء، اللغة العربية حبيبة القلب، أما اذا سألت عن التاريخ والجغرافيا في ذلك الوقت فإلى الخلف در ربما هروباً الى الفرع العلمي، أما أين إنتهى بي المطاف؟ ففي بحث علمي إجتزت به درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية، الدراسات الإسلامية، يا إلهي كنت أنوي دراسة الطب، ولما لم أحصل على المعدل الكافي والحمد لله أنني لم أفعل حتى أتورط بالطب، وبواسطة عربية أصيلة دخلت الصيدلة، الصيدلة ما لي أنا وللصيدلة، الكيمياء جميلة نعم ، لقد حاولت أنْ أُتمم رغبة أبي بدراسة الصيدلة لكنها لم تكن ضمن مزاجي، مزاجي مختلف ولغتي الإنجليزية الضعيفة آنذاك لم تشجعني أيضاً، كان لابد من البحث عن كلية إنسانية، قررتُ علم النفس ولكنني حوَّلتُ بإرادة الله الى كلية الشريعة، طريق طويل بين حب المواد وبين الإختيارات، جن جنون الأهل بصمت طويل وتفهم عجيب وصبر من إمتلك الحكمة وكتم غيظه، كيف يحوِّل من يدرس الصيدلة كليته ليدرس الشريعة، هي أسماء تلك الكليات ونشوة الحصول على مقعد فيها، مع أن طلباتي التي قدمتها للجامعة كانت تتضمن إختيارات مختلفة تماماً، اللغات، الصحافة، وهوايتي الأولى والأخيرة هندسة الديكور، وكم رغبتُ في لحظة ما عندما خيَّرني والدي بين الصيدلة وهندسة العمارة أن أدرس هندسة العمارة لكن ماذا عن الرياضيات! هو صراع العلم الذي كنت أعشقه وما أزال، وفي خضم تلك المشاعر والخيارات، كان لي إهتمام أكيد لا ينقطع هو الأدب…عربيتي، وقلمي الذي أستلهم وحي أدبه من شغفه بالحياة وعشقه لعلومها وفنونها، ومما كان يقرأه لنا أبي حول مدفأة البيت في فصل الشتاء من دفء الأدباء ووحي أقلامهم.
هو في النهاية خيار واحد علينا أنْ نلتفت إليه ونؤكد وجودنا فيه، ربما لأنه قد انتهى زمن الرجل الموسوعي أو المرأة الموسوعية، وصرنا الى عهد التخصص والتخصص الدقيق. انتهى زمن ابن سينا الطبيب الفيلسوف الفلكي الرياضي العالم العلامة الشيخ الرئيس. فإذا كنا نعيش عالم التخصص وتخصص التخصص في العلوم .فالسؤال الذي يطرح نفسه ما الذي نفعله في اثني عشر عاماً في دراسة الكتب المتنوعة والمتشعبة في المدرسة؟
واليوم وأنا أنظر الى الوراء ما زلت أحمل في قلبي نفس العشق لكل تلك العلوم والتخصصات التي أحببتها يوماً، ومع ذلك لم أصبح ذلك الشخص الموسوعي رغم كل قراءتي، حتى في كتب الفيزياء الإنجليزية، أنظر الى أبنائي وأرى فيهم قدرات متفاوتة ورغبات متناثرة، ما أردت فعله معهم بحكم تجربتي، لا أن يدرسوا ما يحبون فقط، بل أن يعرفوا ماذا يريدون، وأين يمكن لهم أن يبدعوا، ما هي مشاريعهم المستقبلية؟
حتى لا ترهق مشاعرهم في البحث عن تلك النقطة التي ينطلقون منها، فما فائدة أن تدرسَ كل شيء في مدة زمنية طويلة الأمد لتخرج بشيء واحد لن تتعداه. من طرفي أنا احاول جاهدة بالنقاش والحوار الدائميين والمستمريين، واللذين أشعر بثمارهما بلا شك، ومن طرف الدولة والمسؤولين والمتخصصين لا جواب ولا إبداع، إثني عشر عاماً تتوج بعام الرعب (الثانوية العامة) وكأنه نهاية المطاف، أو كأن الطالب بعد كل تلك الأيام والليالي في سنوات عمره الإثني عشر عاماً في مدرسته وجهده فيها يساوي جهد ثلاثمائة وخمس وستين يوماً فقط لا غير أو ربما أقل، لعل مرض ينتابه، لعل أنهياراً نفسياً يصيبه، أو حتى لعله يغرق يوم الإمتحان في سبات عميق فيضيع عليه مستقبله كله، ويغدو ابناً لحلم! أي نظام أبله هذا الذي يُقيَّم الطالب المجتهِدُ عمره كله على أساسه، ومن قال إنَّ اثني عشر عاماً هما الفترة الزمنية التي يحتاجها الطالب لتعلم العلوم الضرورية لتكوين شخصيته العلمية؟ الا يمكن لنا خلق الدافعية لحب العلوم في نفسه في زمن أقل؟ وهل عليه أن يتفرع في كثير من العلوم للوصول الى نقطة بدايته؟ وهل حِفْظ العلوم عن ظهر قلب هي هدف الدراسة أصلاً؟ في تفكيرنا خطأ ما، وفينا تقصير كبير في إيجاد حل يتسم في تطوير حقيقي يختصر الزمن ويختصر تردي المجتمع بالبحث عن حاجته، وحاجات سوقه.
الا يكفي مثلاً عشرسنوات من الدراسة المدرسية أو حتى تسع، يتهيأ فيها الطالب بالمعارف الضرورية ليتأهل بعد ذلك للتخصص الذي يرغب به، لا شك أنَّ في الأمر بعض إرهاق، لأن الدولة ستبدأ في العناية بالطلبة طالباً طالب بتوفير الإداريين والأخصائيين النفسيين والخبراء لدراسة كل طالب على حده ومتابعة إهتماماته لتساهم في إدراكه لنفسه ولرغباته ومعرفته بتوجهاته، غير أن نشاط الدولة هذا سيعود عليها بالنفع ابتداء من توظيف كثير من العاطلين عن العمل في المدارس من المؤهلين طبعاً لمثل هكذا مشروع وهو ما يوفر عليها غضب الشارع، ثم إنها بعد ذلك لن تُخرِّج عاطلين عن العمل بل ستُخرِّج مبدعين في مجالات مختلفة أضف الى تخريجها لطلبة يغطون حاجات السوق، ويوفرون إجتماعياً وهذا هو الأهم عمراً ووقتاً زمنياً يدرسون فيه تفاصيل سينسونها بعد فترة وجيزة، تصبح خارج صندوق الذاكرة، ولكنهم سيتخرجون بعمر أقل أكثر شباباً وطاقة وعملاً مما يعني زيادة الإنتاج، ومما يعني أيضاً زواجاً مبكراً وإنجاب يهيء مجتمعاً شاباً تزيده شبوبيته رخاءً وتطوراً وسعادة، يصبح فيها الأب والإبن أبناء مشروع واحد شركاء في الفكرة والإنجاز، لا نريد للطالب بهذا النظام أن يبقى موظفاً أمام الكتاب وأمام المعلم، أمام الإمتحان وأمام العلامة لمدة طويلة تنهك قدراته الشخصية، وهو في النهاية لا يعرف الى أين يتجه، وتجعل من مجتمعه بعد تخرِّجه محتاراً مثله، وعاجزاً لا يعرف في أي دائرة أو مشروع سيحتضنه، مجتمعاً كهلاً عقيماً قد إمتلأ بالشيب.
هذا بالضرورة لا يعني أن الدراسة ستصبح أكثر سهولة وأقل جدية، على العكس تماماً، فالدراسة الجادة هو عنوان هذا الإقتراح، لقد أثبتت التجربة العمليِّة أنَّ أولئك الذين تعرضوا لدراسة أكثر جدية، كانوا دائما أكثر عطاءً، وأكثر اجتهادًا وإخلاصًا من أولئك الذين كانوا يلهون بالتعليم ويُسلَّمون نماذج أسئلة الإمتحان من قبل نظام الدولة في التعليم مراعاة لها لكسلهم بما أنهم يملكون المال، أو يعتبرون المدرسة مكاناً لإستعراض طاقاتهم في قيادة سيارات اللكزس بعد إزاحة السائق الهندي عن مقعد القيادة، ولبس نظارات (ريبان) التي تحميهم من رؤية منافع الكتاب المشع ! بل لقد أستطاع الجادين أن يثبتوا وجودهم في كل الأماكن والظروف التي وضعوا في إطارها، وبعد هذا وذاك شعروا دائماً بالسعادة والرضى عن النفس في الوقت الذي كان يشعر فيه الآخرون ممن تم التساهل مع تعليمهم الأولي في المدارس بعقد النقص وأنهم مصنفون ضمن دائرة المهابيل ” كلٌّ على مولاه أينما يوجهه لا يأتِ بخير” (76) سورة النحل.
إننا إنْ بدأنا التفكير بالتعليم الذي مبدأه التخصص لا الموسوعية، سنصل به الى أرقى مستوياته، ونحن بذاك أيضاً نختصر الزمن، أما كيف؟ فذاك أمر آخر لا بد من دراسته من أهل الإختصاص ولكن يمكن وضع صورة أوليِّة عن تقسيم السنوات الدراسيِّة…مع ملاحظة أمرغاية في الأهمية ولعله الركن الأول الذي يمكن الإنطلاق منه في مثل هذا المشروع: وهو العمر الأنسب للطفل لإبتداء الذهاب الرسمي للمدرسة، تجد ذلك واضحاً في موروثنا الثقافي ومرجعيتنا الخاصة، فقد أُلزم الطفل رسمياً بأداء أول عمل متواتر(الصلاة) في سن السابعة مع ملاحظة أنَّ فترة التدريب لإتمام هذا العمل على أكمل وجه كان بمثابة ثلاث سنوات، واعتبرت العاشرة السن التي يمكن لنا أن نمارس شيئا من عقاب إثر عدم الإلتزام، كما أعتبر أنَّ سنِّ السابعة هو سن التمييز حتى في القضاء والمحاكم الجنائية اليوم، وقد كانت سن السابعة أيضاً هي السن التي تؤهل الطفل للسماع منه في حالة الحديث النبوي الشريف وتناقله واعتماده، وفي الأثر من أقوال أحد الصحابة الكرام رضي الله عنهم ” لاعبوا أولادكم سبعا، وعلموهم سبعا، وصادقوهم سبعا” مما يصور لنا تلك الرؤية الحكيمة، وبإمكاننا عرض مثل هذه الحكم التربوية لمقاييس الدراسات الحديثة قبل تبنيها لرؤية مدى مطابقتها صحيًا ونفسيًا على أرض الواقع وملاءمتها له، فلا تتعدى التجربة العلمية في مرحلة الطفولة (المدرسة) أكثر من سبع سنوات تبدأ من سن السابعة وتنتهي في سن الرابعة عشر.
ثم إنَّ مشروعاً كهذا لا يعتمد فقط على ملاحظة الحكم المتوفرة في موروثنا الثقافي فحسب، بل لعل البيئة التعليمية وأنماط الحياة الإكترونية المتعددة الأوجه التي نعيشها اليوم، وتدفق العلوم عبر الشبكة العنكبوتية مما يجعلها في متناول اليد، لتفرض جواً دراسيًا مختلفًا، ورؤية تعليمية أكثر نضجًا تتلاءم مع نضج أبنائنا ووعيهم الحديث بما يدور حولهم بسبب ما يتوفر لهم من إمكانات هائلة، سواء في الوثائقيات المتداولة التي تعرض العلوم بأبهى حلة حتى سِيَر حياة الشعراء، أو بألوان برامج الشبكة العنكبوتية المتعددة ووسائطها، أكثر من ذلك لقد وفَّرت الدراسات المنتشرة اليوم على المواقع التعليمية الغربية والتي تقوم بها أرقى الجامعات وفرت لنا النسب التي تتحدث عن نسبة الأداء المتفوقة لطلبة الشبكة العنكبوتية والتي يدرسون من خلالها ويحصلون على شهاداتهم العلمية، هذه الدراسة التي بينت تفوق الأداء لصالح الطلبة الإلكترونيين على حساب الطلبة العاديين، تعيدنا جديِّا للتفكير في الدراسة عن بُعد، أضف الى ما توفره الدراسة الإلكترونية كإحدى إيجابياتها من خصوصية فردية للطالب بحيث لا تضعه في جو عام بين الطلبة في الصفوف يفقده قدراته وإبداعاته؛ بسبب من حصره بالذكاء الجمعي المتوفر في الصف المدرسي أو الجامعي في الوقت الذي تنطلق إبداعاته عندما تترك حرة في دراسة فردية طليقة لا تعيق نشاطه الذهني وتقوم بتنميطه في حالة الدراسة التقليدية في كثير من الأحيان، غير أنَّ هذا لا ينفي أهمية المدرسة أو الجامعة كمكان إجتماعي يؤدي دورًا وظيفيًا إجتماعيًا يختلف عن دور التدريس فقط وإكتساب العلوم.
وأذكر في تجربة جنوب إفريقيا يوم جن جنوني لعدم إعتيادنا على التغيير ورفضه، عندما رفضتْ المدرسة تسجيل إبني في الصف الأول الإبتدائي إثر صدور قانون آنذاك لا يقبل الطفل في الصف الأول إلَّا في السابعة من العمر بعد تجربة عملية تبين من خلالها أن الطفل يُظهر من الإبداع والذكاء في المراحل المبكرة من تعليمه ما يظهره، ولكن ذلك ينعكس علي دماغه بالإرهاق الشديد في المراحل المتقدمه وإستصعاب المواد لأنه يدخل المدرسة الإبتدائية وهو في سن غير مؤهل أصلاً لها ولبرامجها. وعلى فرض أننا بدأنا الدراسة في سن السابعة وتركنا هذه الفترة للتركيز على اللغة والحساب لمدة ثلاث سنوات كما هو المفروض، واعتبرنا أنَّ تعليم ما قبل السابعة هو تعليم عن طريق اللعب لا أكثربحسب لاعبوهم سبع وبحكم تلك الدراسات العالمية التي تظهر أنَّ أولئك الأطفال الذين تعرضوا لحياة ثقافية تعليمية سواء في بيوتهم أو في الحضانه كانوا من جانب آخر أكثر إستعداداً من الذين فقدوا الأهل الأكفاء ليعرضوا عليهم المعارف الأوليِّة البسيطة .
اذاً هي سن السابعة، ثلاث سنوات متروكة للتعليم الأساسي ويمكن عامين قبلها كتمهيد غير مكثف أو مرهق فينهى الطالب مرحلة الثالث الإبتدائي وهو في العاشرة من عمره، وهي مع ملاحظة الحكم النفسية في حالة الأمر بالصلاة فترة تدريب يومي، بما فيها من حفظ وتكرار والتزام ليس فيها أية حالة ردع أو عقوبة كذا التعليم في تلك المرحلة تعليم بلا إمتحانات أو واجبات بيتية تعمل على توتير الأعصاب ولكنها دراسة مُثابِرة ومؤكَّدة في داخل حقل المدرسة، لمحو أمية القراءة والكتابة والحساب يضاف إليهم ثلاث سنوات أخرى تبدأ المواد فيها بالتزايد كإضافة لمادة العلوم والإجتماعيات وما يراه الإختصاصيون ضرورياً، مع زيادة جرعة الجدية والإمتحانات التي من المفترض أنَّ الطفل قد بدأ التأهل لها، أضف الى إحتمالية العقاب إعتماداً على نظرية الصلاة في الإسلام، وبعكس النظم البريطانية التي توصل الطالب الى مرحلة السادس الإبتدائي وهي تعامله ذات معاملة الثالث الإبتدائي فلابد من ملاحظة أنَّ ثلاث سنوات من عمر الطفل قادرة على تأهيله لمرحلة أخرى مختلفة يعاقب عليها ويحمل فيها على محمل الجد، يصل الطالب إذًا الى الصف السادس الإبتدائي بعمر الثالثة عشر، وقد توفر لديه من العلوم وبناء الشخصية العلمية ما توفرولعل هذا هو الهدف الأساس، ثم يتخصص بعد ذلك من الأعوام سنتين الى ثلاثه سنوات تعتبر فترة ليست كما تسمى في هذا الوقت المرحلة الثانوية بل لعل أقرب تسمية صحيحة لها هي المرحلة التأهيلية، فهي ليست مرحلة ثانوية لا لزوم فيها للعلوم بحكم فك الأمية في المراحل الأولى، بل هي بالذات المرحلة الضرورية لتحديد تخصصه وتوجهه، فهي التي تؤهله الى المرحلة الجامعية المتقدمة بما توفره له وبما تَوفَّر له أصلا من متابعة إهتماماته في المرحلة السابقة، من معالجة حقيقة لمعرفة رغباته واهتماماته وقدراته الأكاديمية والتي رصدت جميعا في تقارير خاصة بكل طالب تماماً كبطاقات التطعيم التي نحتفظ بها لنعرف الجرعات التي تناولناها في طفولتنا فلا نصاب بشلل البطالة لاحقاً، بل لعل هذه الجرعات التي تعرفنا بأنفسنا أكثر أهمية، فاذا تبين أنَّ طالباً في المراحل السابقة المهيأة بطريقة صحيحية يعشق مادة إسمها (علم الأرض) على سبيل المثال لا الحصر، وليست لديه رغبة في (الأدب العربي)، ما هي الحكمة من تدريسه الأدب العربي في المراحل المتقدمة بكثافة مطلقة بكل ما فيه من شعر جاهلي ومعلقات ومدارس نقدية وبلاغة وقواعد وما الى ذلك، الا يكفي في تلك الحالة أن يأخذ الطالب الحد الأدنى في مثل هذا العلم، حتى لو كان في الفرع الأدبي ، وهل هذا التقسيم (أدبي ــ علمي) تقسيم فعِّال وناجح والى أي مدى؟ ومن ثم ليتوسع هذا الطالب في مواد تختص بعلم الأرض، بطرق وأساليب تعليمية إضافية تتعدى الكتاب صاحب المرتبة الأولى والأهم في عملية التعليم بلا شك، فيتعلم عن طريق مشاهدة البرامج الوثائقية المختصة بالبراكين والزلازال وطبيعة القشرة الأرضية وما الى ذلك، أضف الى الرحلات العلمية وغيرها من الطرق المبتكرة، ويبدأ التكثيف في مادة تخصصه التي يحبها وتوفر له الدولة عن طريق المدرسة ــ كما قلنا سابقا مع تعاون الأهل بعد مساعدته بمعرفة توجهه ــ مشروعه الذي سيبدأ بالعمل به ويتابعه حتى خلال دراسته الجامعية فتصبح لديه مع الكتب تجربة عملية تساعده على توسيع مداركه، طالب بهذه الرغبة مثلاً علينا أن نوقفه على أطلال الكرة الأرضية وجبالها وسهولها ومعادنها ومعامل الفحم الكربوني وتتبع آثار الإنسان الأول، لا على أطلال الشعراء وأوزانهم وقوافيهم التي لم تطرب لها إذنه يوماً، كذا الحال فيما يسمى الفرع العلمي فاذا كان بعض الطلاب يعشقون مادة الأحياء بكل تفاصيلها ويتفوقون فيها، فما هو ضرورة أن يُرهقوا بمادة الرياضيات المكثفة، فمهما بلغت أهمية الرياضيات في كلية الطب وعلم المختبرات والتحاليل الطبية فلن يصل الحال الى ضرورة معرفة الجذر التربيعي للكلى أو حساب لوغاريتم الكبد!
ولا بد من ملاحظة تلك الحالة التي تظهر في المجتمع من تأثيرالبيئة المحيطة والأجواء العلمية والثقافية السائدة في الأسرة المحيطة على رغبات الطلبة فكم شاهدنا أن أسر السياسيين خرَّجت سياسيين، وأسر الأطباء خرَّجت أطباء، وكم شاهدنا تلك البرامج الوثائقية التي ترصد هذه الحالات، كذا حالة الأقدار عندما تتدخل بعلمها وتقديرها في تخصصاتنا ومشاريعنا فتلك حالة أخرى تشي بحقيقة أن كل خلق لما هو ميسر له، ففي حالة مشروع كهذا لا بد من إدراك كافة الملابسات المصاحبة له، ونجاحه لا يعتمد على الإستثناءات والظروف بقدر ما يعتمد على الحقيقة العامة.
وكما رفض الكتاب المشهور ” تعليم المقهورين” لمؤلفه البرازيلي “باولو فرير”هذا التعليم البنكي الذي يقوم على استلاب القدرات وتخزين المعلومات في عقول الطلاب ” لنسيطر على عقولهم بجعلها بنوكاً لودائعنا المعرفية من أجل استيلابهم ” أو كما قال “إنَّ النظام التعليمي كله مكرس لخدمة ثقافة الصمت” والصمت بمفاهيمه المتعددة قد يعني قتل الإبداع وفي أحايين كثيرة قتل المجتمع ليدخل في السبات الشتوي وهو يعيش دفء الشباب، في حين دعا في نظرياته وكتبه الى ” التعليم الحواري”، فإنَّ رؤية التعليم الحديث يجب أن تأخذ كل الأوصاف فيما عدا هذا التعليم البنكي، فهو تعليم حواري كما قال باولو، وهو تعليم من ثمَّ تخصصي، فبالحوار أولاً ندرك كيان هذا الإنسان المسمى طالب وندرك رغباته وقدراته ونتعرف عليها جليَّة واضحة، كما أننا نعطيه لاحقاً فرصة للإبداع لعدم إنسياقه في منظومة تغلق عليه النوافذ، وبالتخصص ثانياً نتدرج معه الى أهدافه بذكاء أكبر وزمن أقل، وهو أيضاً تعليم يعتمد على تعلم مهارات التفكير جنباً الى جنب مع تعلم ملكة الحفظ التي تم الإعتماد عليها لعقود طويلة خلت. ثم إننا إنْ تتبعنا القول المأثور في طبيعة علاقتنا مع أبنائنا سنرى أن سنوات اللعب الأولى في علاقتنا معهم هي ذاتها في حالة العلم تأخذ نفس الطابع الضحوك أي العلم عن طريق اللعب، وأنَّ السنوات السبع الثانية في تعليمهم وتأديبهم تأخذ الطابع الجاد، وأن صداقتهم في السنوات السبع الأخيرة حتى الواحد والعشرين من العمر تأخذ طابع التعليم الحواري، وهو التعليم الجامعي القائم على المشاركة والمشاريع.
إنَّ التعليم الحالي عملياً هو ترتيب لمجتمع خاضع ولمواطن يوافق الحاكم وحكومته لأنه تعليم لا يشارك فيه الطرف الأهم الا بالسماع والطاعة، والتوقيع على ما يسمعه بالبصم التلقائي، تعليم تتعطل فيه الجوانح عن العمل، وآلة العقل عن الحل والربط والملاحظة والتنقيب والإستنتاج والتفكير.
لنعود أدراجنا ونبدأ بالتفكير بطرق وأساليب مبتكرة تختص بالشكل كما تختص بالجوهر، ونقدم إقتراحات لمناهج تعليمية جديدة نختلقها من صلب هذا الصندوق ولنترك التقليد، فما هي الحكمة الحقيقية في النظام البريطاني من تدريس الطلاب برنامج كبرنامج (IB) والذي يستهلك من العمر ثلاث عشر عاماً في داخل صندوق المدرسة وداخل صندوق الكتب لتجتمع كل هذه الصناديق داخل صندوق ذاكرة منسيِّة.
إنَّ إختصار الزمن مسألة مهمة للغاية وليست مسألة ثانوية بنفس قدر أهمية التخصص في السنوات التأهيلية الأخيرة للطالب في مدرسته، لأجل من ولصالح من تضيع طاقات الشباب خلف أدراج الحفظ والإنتظام في طوابير الولاء والطاعة للدولة، أوهكذا تُخلق الدافعية نحو العلم والبناء ونحو الإنتماء للأوطان؟ واذا كانت الدافعية هي الشرط الأول لإنتاج العلماء والمفكرين في المجتمع فلتكن الهدف الذي تؤسس عليه المدارس والمناهج.
عشر سنوات في التعليم أو تسع أو حتى ثمان بحسب المصلحة داخل حدود الإنتاج والإبداع وإنارة الطريق للطلبة ورعايتهم ورعاية مصالحهم ومستقبلهم خير وأبقى من اثني عشر عاماً سيتسربون خارج صندوق الذاكرة، خارج صندوق الأدمغة الفاعلة، يتخرج بعدها الطالب من المدرسة بعمر لا يتجاوز الخامسة عشر ومن تخصصه الجامعي بعمر لا يتجاوز العشرين أو الواحد والعشرين وينطلق مع أبيه الثلاثيني شريكاً في العمل والإنجاز.
ثم إن السؤال العميق الذي يجب أن نقف عنده كيف تعلم القدماء، وكم سنة احتملوا في تعليمهم، ولماذا رأينا آثار علومهم تصدح لليوم، ولم نكن نحن إلا جماعة الغائبين في زمننا الحاضر رغم سنين التعليم الطويلة هذه، وهل ينتهي تعليمنا بمجرد تقدمنا للإمتحان؟ هل صحيح أنَّ ابن خلدون أتم دراسته في اثني عشر عامًا؟ وكم عامًا درس ابن الهيثم؟ هل كان إختراعه بسب الحفظ للمواد العلمية في الكتب أم أنها الملاحظة سر إبداعه والحرية في التحري والإكتشاف والتنقيب دون قيود الأستاذ والإدارة! وكيف بنى شخصيته العلمية بالأساس؟ وما الذي خلق لديه الدافعية للعلوم؟ هل حِفْظ المصطلحات العلمية باللغة الإنجليزية جعلته سيد الموقف؟ أم أنه هو كان الموقف كله بعقله وحريته للتعبير عن ذاته العلمية بلغته هو، وهويته هو، دونما عمليات مسخ تشوش عليه رؤيته لنفسه اولاً فيتعطل تفكيره العلمي بالبحث عن ذاته وسؤاله المتشدد في دواخله، من أنا؟ فيصل الى ما وصل اليه بيسر وسلام !
إنَّ هذا الصندوق الذي تحمله جماجمنا هو الكنز الذي يجب أن يموت لأجله الرجال دفاعاً عن حقه في البقاء على قيد الحياة، على قيد العلوم، لا مقيدًا بالعلوم نفسها مُعطَّلاً بها مستنزفاً بسببها