صوت المعلم

الأستاذ “دفتر” وصديقه “القلم”

ما زلتُ أتذكر ذلك الدفتر المزَرْكش ذا الرائحة العطرة المليءَ بالرسوماتِ الصغيرة على الأطراف، ومعه ذلك القُفل والمفتاح الصغير؛ حين كانت تعطيني إياه صديقتي في آخر أيام الفصل الدراسي، لأكتب لها بعض الكلمات لتبقى بيننا ذكرى جميلة، وكان من براءة الطفولة أننا كنا نكرر كلمات كتبها غيرنا، نسترقها من صفحات ذلك الدفتر، وقد كانت هذه أكثر العبارات التي ما زالت مرسومةً أمام عيني، تنبعث منها رائحة زكية:

أكتبُ لك للذكرى، فإن الذكرى تدق في عالم النسيان”.

أبتسمُ الآن وأنا أتذكر هذه العبارة التي ربما كنا نكتبها دون أن نعي معناها أو المراد منها، إنما نفرح لأن لها نغمة رنانة وعبارتها متناسقة أخَّاذة.

لكوني معلمةً أجد فرحةً عظيمة عندما تأتي طالباتي بالدفتر نفسه في نهاية العام؛ لأكتب لهن، وكم أتمنى دائمًا أن يبقى هذا التقليد شائعًا فهو يشعرك أن العالم ما زال بخير، وأكاد أجزم أن كل معلم يفرح عندما يرى طلابه يكتبون، ويحثهم على الكتابة التي تنمى مواهبهم المختلفة، وتكوِّن شخصياتهم..

ولكن هل الكتابة تجعل الذكرى تدق في عالم النسيان حقًا؟

في الحقيقة إن الكتابة اليومية أو ما يسمى “بالمذكرات” تذهب إلى أبعد من مجرد أن تذكرنا بالماضي، صحيح أنني أحب أن أعود لما كتبته من مشاعر وأفكار وأمور مهمة وتجارب مختلفة مررت بها في حياتي، لأدرك الفرق الذي حدث بمرور السنين، والتطور الذي اكتسبته على مر الأيام، إلا أن ما يدفعني إلى الكتابة أجمل من ذلك بكثير!

كانت الكتابة في كثير من الأحيان صديقي الوحيد الذي يفهمني، أفضي له بما لا أفضي به لأحد، والأعجب من ذلك أنه على الرغم من عدم قدرة ذلك الصديق على الرد على كلماتي أو مبادلتي أطراف الحوار إلا أنني كنت أشعر بالراحة والسعادة في نهاية كل لقاء كتابيّ، أيضًا وفي كثير من الأحيان كان يساعدني على أن أرتب أفكاري المبعثرة التي شكلت لي صداعًا شديدًا، لأني بين كل دقيقة وأخرى أتلقى إنذارًا من دماغي مفرط المسؤولية أن لدي الكثير من الأمور لأقوم بها، وكان السحر هنا أنني إذا دونتها مُسحت من دماغي تمامًا وشعرت براحة عجيبة لم أكن لأشعر بها لولا رفيقاي “الأستاذ دفتر” و صديقه القلم!

أتذكر أيامًا غضبت مني والدتي لتصرفاتي الصبيانية، وأعلم أن الكثير مثلي في هذا العالم، ولكن هذا ليس موضوع حديثنا، المهم أنني كلما اقتربت من المطبخ لأعتذر منها؛ خانتني الكلمات والأعذار، وكنت أبحث عن جرأتي التي كانت تسير أمامي منذ قليل فلا أجدها؛ ففي كل مرة كانت تختفي، وعندما أعاتبها على ذلك كانت تضحك ضحكة طفولية مستفزة تزيدني اشتعالًا وحرقة وقهرًا!

ثم كانت أن لمعت تلك الفكرة في رأسي؛ فأمسكت القلم، وبدأت بكتابة كل اعتذاراتي البريئة على الورقة، وأرفقتها بدمعة في نهاية الكلام وأخرى في الوسط وركضت قبل أن تجف وأعطيتها لأمي، كان اطمئنانًا لا مثيل له في تلك اللحظة التي علمت أن كلماتي وصلت ودمعاتي كذلك، وأصبحت هذه عادتي كلما خانتني الكلمات.

أحيانًا كنت أقرأ كتابًا جميلًا وأشعر أن رأسي سينفجر من كمية المعلومات الجميلة التي أسرتني والعبارات التي أتمنى اقتباسها، في الحقيقة لقد تكرر ذلك معي كثيرًا، صحيح أن ألم الرأس هذا هو الوحيد الذي نستطيع أن نقول عنه أنه لطيف أو لذيذ! إلا أنه كان يجب أن تُفَرَّغ تلك اللطافة الهائلة في مكان ما، غير أنه قد قيل يومًا “العلم صيد والكتابة قيد”، فلا بد أن نمسك هذه الكلمات والمعلومات الجميلة بشباكنا ونضعها داخل أوراقنا ونغلق عليها بحرص، جميل هو تلخيص الكتب والروايات وعلاوة على جماله، فإنه يجعل منك شخصًا ذكيًا بارعًا في تنسيق الكلام و تنميقه مستقبلًا.

إن الرِّحْلات الجميلة يجب أن تحفظ في عقولنا ؛ وبعضنا أحيانًا يحب أن يلتقط لكل مكان زاره صورة، ولكن أرى أن الجمال هنا ناقص الملامح يفتقد لعنصر صغير جدًا، تخيل أن نرفق بجانب الصورة أو خلفها بعض الكلمات التي تصف مشاعرنا في لحظة التقاط الذكرى، أتخيل تلك الابتسامة التي سترتسم على وجوهنا في كل مرة نقرأ تلك الكلمات!

لا أدري إن كنت قابلت ذلك الشخص الذي عندما أراد أن يعود للمنزل تذكر أنه لم يشترِ أهم شيء خرج من المنزل لأجله، فعاد إلى أول السوق وضيع بذلك الوقت الكثير والجهد الكبير، عن نفسي أصادف الكثير منهم من حولي، وهنا طبعًا أدلهم على السلاح الفتاك السري الذي أتقنه ألا وهو ” الكتابة ”

فأقول بثقة: “لو أنك دوَّنت كل ما أردت قبل نزولك للسوق لما حصل معك ما حصل “، وأنا أقولها لك الآن بلغة الناصح المحب.

للكتابة وخاصة المذكرات اليومية نكهة خاصة تبرز معها شخصيات الأفراد، وتصقل فيها مواهب العديد من الناس، باختلاف أهدافها وأسبابها إلا أنها تترك روعة في قلوبنا ولمسة لا تكون إلا بها، سواء كانت كتابتنا لنفرغ بعض المشاعر أو نرتب أفكارنا أو ندون ذكرياتنا أو حتى الكثير الكثير غير ذلك، لنتذكر دائمًا أن الأستاذ دفتر وصديقه القلم لا يخذلاننا أبدًا.

زر الذهاب إلى الأعلى