الأنانية الفردية، العقد الاجتماعي والروح فيما بينهما
فكرة.. لكل الأفكار خارج صندوق زدني وأهدافها، لأن كل فكرة هي فكرة قابلة للتعلم منها وبالضرورة ستُصبح ضمن أهداف زدني… مريم عيتاني من لبنان تفتتح معنا بمقالها الأول في زدني، أيقونة “فكرة” ولكل من لديه فكرة أي فكرة فليقدمها لنا في مقاله ونحن على استعداد للنشر
–
السيرُ فُرادى والقطيع..
تحثنا على السير فرادى، لا تتبعوا سير من قبلكم، لا تكونوا كالخراف، السعادة ليست في الزواج من امرأة جميلة ولا في شراء منزل ولا في إنجاب أطفال، السعادة هي في عشق ما تفعلونه، في أن تكونوا متميزين، في أن تقدموا شيئًا جديدًا، أن تعيشوا حياة تسعدكم أنتم لا غيركم.
هذا مثال على الكثير مما بات يطالعنا اليوم بصور مختلفة في وسائل التواصل الاجتماعي والمجتمع والإعلانات وحتى في محتوى دورات التطوير البشري، ابحثوا عن ذواتكم، لا تقيدوا أنفسكم بالوظيفة، الدوام الطويل المتعب الذي يستنزف أوقاتكم، الراتب ليس مهمًا، السعادة هي أهم شيء.
–
–
هذا الجزم القاطع المتأكد أن السعادة لا يمكن أن تكون في الزواج أو الوظيفة أو في شراء منزل، هذا الجزم القاطع أن ذاتكم ليست هناك مع القطيع (أي عائلتكم وأهلكم وأجدادكم) وهذا الجزم القاطع والمتأكد أن حياة هانئة أو مستقرة ليست إنجازًا، أنكم لن تكونوا سعداء إلا إذا تركتم وظيفتكم أو أزواجكم وهربتم فجأة في لحظة من التنوير وحاربتم المجتمع بثبات لتحققوا ذاتكم…. والأهم أن تحققوا ذاتكم بطريقة مبتكرة وجديدة كالرقص على الحبال المشتعلة مثلًا، أو البحث عن دين جديد، أو الزواج من سحلية لطيفة في غابات الأمازون، أو تربية فيل أليف في وسط بيروت، ستكونون أبطالًا، أما أن تكبروا وتذهبوا كل يوم إلى أعمالكم، وتتزوجوا وتنجبوا أطفالًا وتمضوا أوقاتكم معهم، أن تصلوا خمس صلوات (لماذا خمسة وليس أربعة؟)، وتصوموا شهرًا في العام وترتدوا قطعة من القماش على رأسكم، ما هذه الحياة التقليدية المملة؟ (والأمر نفسه من الانتقاد ينطبق على كل الأديان والعادات والدول في العالم).
اذهبوا إلى المجتمعات المتطورة، انظروا كيف يحيا البشر، استمتعوا وعيشوا حياتكم، خصصي وقتًا لنفسك وحيدة. اذهبي إلى النادي أو اهتمي ببشرتك وبنضارة جسمك، ليذهب أولادك إلى الدروس الخصوصية أو الحصص الرياضية بعد المدرسة أو إلى الجحيم.. لا يهم، ما يهم هو أنت ونفسيتك وسعادتك، لا تضيعي وقتك في إعداد الفطور والغذاء والعشاء لعائلتك وزوجك، لماذا لا يقوم الرجل بإعداده مثلًا (من قال أنه لا يعدّه؟ ☺)؟ لا تضيع وقتك وجهدك وتعبك في السعي مثل “الحمار” لتجلب المال وتنفقه على “الحفاضات”.
كم أنت بائس أيها الرجل الأب الموظف وكم أنت بائسة أيتها الأم منكوشة الشعر العالقة في المطبخ بين صراخ الأطفال.
العقد الاجتماعي والمقارنة المستمرة
يستند تعريف المجتمعات وأنظمة الحياة البشرية بشكل عام إلى مفهوم “العقد الاجتماعي”، وهذا العقد الاجتماعي المتوارث عادة والذي يتغير تدريجيًا مع تغير الحياة يتضمن الكثير من الموازنات المتبادلة بين أطراف هذا النظام الاجتماعي (compromises).
فالزواج مثلًا هو عقد اجتماعي لعائلة تقوم على تشارك الأدوار وتوزيعها، وهذا العقد تطور في الغرب إلى مفهوم المشاركة القصوى بجميع صورها (المادية والجنسية والعائلية والتربوية الخ)، لكنه في مجتمعاتنا يتدرج ما بين التوزيع الكامل (المرأة مسؤولة عن المهام داخل المنزل بأكملها والرجل خارج المنزل بأكملها) والتوزيع الحصري بصورة أوبأخرى (سواء بالغصب أو بالتراضي).
وأفضل هذه العقود طبعًا هو ما يكون بالتراضي، لكن هذا التفكير على المستوى النظري هو عند الكثيرين ترف فكري أو فذلكة (وإن كان أمرًا ضروريًا في أي علاقة زواج). فنحن إذن أمام صنفين من الأفراد، صنف يرث حرفيًا العقد الاجتماعي، وصنف أكثر وعيًا يأخذ من العقد الاجتماعي ما يرضيه، والصنفان غالبًا ما يكونان متصالحين مع نظرتهم للمجتمع ومع حياتهم، خاصة وأن الصنف الأول يمتلك تعريفًا مختلفًا جدًا عن السعادة والإنجاز، وهو تعريف بسيط وموجز غالبًا ما يقوم على “السترة والرضى وعدم الاعتماد على أحد” (للمفارقة يشابه ما يدعو إليه الفرديون، الرضى وعدم الاعتماد على أحد”). وهذا الأمر ينطبق بصورة موسعة على علاقة الأهل بالأولاد والعكس، وعلاقة الأقارب ببعضهم البعض والجيران وغيرهم؛ مثلًا الرعاية الاجتماعية، والدعم والرعاية عند المرض، دفع تكاليف الدراسة، الخ… وهذا الأمر لا ينفي بالضرورة استمتاع كل من الأطراف بما يقوم به واستشعاره لمعنى أو لآخر أو إحساس شخصي خاص به.
–
–
أما المقارنة المستمرة، فهي ليست جديدة في مجتمعاتنا، فكما أننا نسمع الدعوات إلى التمرد على واقعنا، نسمع منذ الصغر دعوات إلى عدم “اللهاث خلف الغرب الفاسد” بدءًا من لبس المرأة للبنطال وليس انتهاء باختيار عدم الزواج أو الطلاق، هذا التطرف بوصف مجتمعات الغرب بأنها مجتمعات فاسدة وأن نساء الغرب يتمنين أن يعشن حياة النساء في دولنا ويرغبن كثيرًا بالأمومة والاستقرار وغيره، ينتج – وأنتج بالفعل – تطرفًا مقابلًا يفترض أن جميع النساء في الشرق سيكنّ سعداء لو تحررن من هذه القيود وخلعن الحجاب ولم يتزوجن وخرجن إلى العمل وأصبحن في حياة الغرب، والمقابلات من الطرفين غير عادلة وغير منطقية، لأنها تنسف العقد الاجتماعي القائم في الجانبين. وبما أن الحياة قائمة على تنازلات، فإن كل عقد فيه إيجابيات وسلبيات وفيه مكاسب وتنازلات للطرفين، والانتقال بين العقدين أسهل مما يعتقد الكثيرون، وإن كنا نغلفه بالكثير من القشور غير الضرورية، وهذا لا ينفي أن كل عقد بذاته قابل للتطوير.
البحث عن الذات والسعادة
إن البحث عن الذات أساس الإنجاز والسعادة في الحياة، لكن هذا البحث لا يرتبط بالضرورة بالصخب ولا بالانتقال إلى كوكب آخر أو البحث عن زوج آخر أو مجتمع آخر، إن أجمل ما في هذه الحياة هي الروح، أرواحنا التي هي روح الحياة، فالحياة هي حياة الروح، والإنسان ليس “حيواناً اجتماعيًا” كما يرى عدد من الفلاسفة، بل هو إنسان أولًا وأخيرًا، وإن تشاركه بعض الاحتياجات الحيوانية (والنباتية) لا يعني أنه بات حيوانًا أو شجرة متحركة مثلًا. فالإنسان مميز بالعقل، والعقل هو ما يضفي على حياة الأفراد والمجتمعات السياقية اللازمة context and perspective لجعل الحياة سعيدة أو حزينة، جيدة أو غير جيدة، رائعة أو مزرية، وغيرها.
وجوهر الأمر أن هذا يعتمد على تعريف الإنسان لنفسه ولغاية وجوده في هذه الحياة، فإن كانت غاية وجوده السعادة أو الراحة المتمثلة في عدم الشعور بالمسؤولية أو الارتباط، فهذه أسهل الغايات الدنيوية لأن التخلي أصعب بكثير من المشاركة، والحياة الفردية أسهل طبعًا من الحياة المشتركة، وعدم الالتزام أسهل بالطبع من الالتزام، وحياة بلا مسؤولية أسعد بمعايير هذا الشخص من حياة بمسؤوليات.
–
–
أما الأصعب فهو التمسك، والمشاركة، والتطوير المستمر. فالحياة مع زوج وأطفال أصعب، وإسعاد عائلة أصعب من إسعاد فرد، وكذلك الحياة مع حب أكبر ومسؤوليات أكبر (مثلًا الزوج والأولاد والأهل والأقارب والجيران) أكثر تحديًا لكنها أيضًا حياة أكثر غنى وإنجازًا لأنها تحمل أبعادًا أكثر وتعني أفرادًا أكثر.
ولعل أجمل ما في مجتمعاتنا هي روحها، وهذا لا يعني أنها مجتمعات خالية من النفاق أو المجاملة أو السلبيات أو الضغوط المجتمعية، وهذه جميعها من المشاكل التي يمكن العمل على حلها سويًا بتطوير تدريجي للعقد الاجتماعي.
فلا يمكن فجأة أن تطلب من امرأة معنفة لم تكمل تعليمها أن تبدأ بناء حياة جديدة لوحدها في مجتمع سيضطهدها لأنها بهذا ستصبح عالقة بين اضطهادين، لكن يمكن مساعدتها على التعلم وعلى إدارة علاقاتها واحتراف مهنة وتقدير ذاتها وتدريجيًا ستستطيع هي مواجهة التعنيف والاضطهاد سواء أتى من زوجها أو من المجتمع.
والأمر نفسه ينطبق على الرجل، الذي يقاس على قدر فلوسه ووظيفته، فلا يمكنك أن تقول له اتبع شغفك واترك وظيفتك حالًا ودعك من مسؤولية الأسرة والإنفاق وتعال ارسم معي، لأنك بهذا تنكر حق التزاماته تجاه أناس آخرين هم أطفاله، تخيل مثلًا أنك وخلال الخضوع لعلاج طويل، تنبه الطبيب إلى شغفه الرئيسي وتنصل من مسؤوليته في العلاج وتركك وسط علاج لا يمكن لطبيب آخر أن يقدمه لك في هذه المدينة (كذلك هي الامومة والأبوة، حب وفطرة لا يمكن لأحد آخر تقديمها بنفس الجودة والمستوى).
وهذا لا يعني أنه لا يستطيع البحث عن وظيفة جديدة أو الانتقال إلى مجال آخر يحبه لكن هذه الصبغة الفجائية الثورية اللحظية التي تكون بها الأشياء أو لا تكون ليست منطقية بحق أنفسنا ولا بحق الآخرين والحياة، وأتكلم هذا من تجربة إنسان غير تخصصه ومهنته عدة مرات وتنقل بين العديد من الوظائف، وهي ليست مسيرة سهلة لكنها لا تتم بغمضة عين.
كما أن مفاهيم الإنفاق والمسؤوليات المالية هي – شئنا أم أبينا- وسيلة تحكمنا للحصول على أساسيات حياتية تساهم في جعل حياتنا أكثر سعادة أو راحة، لأنها تساعدنا في استشعار الحياة (لا يمكن مثلًا لرجل يموت من الجوع أو الألم أن يستشعر المعنى في القول أن المال ما هو إلا ورق لا قيمة له في تحديد جوهر الأفراد، خاصة في دول لا توجد فيها حقوق أساسية من تعليم وطبابة وعيش لائق).
ولا بد أولًا من توفير هذه الأساسيات لتحقيق تغيير في العقد الاجتماعي نحو الأفضل، ولهذا كانت هناك دائمًا حاجة إلى قوانين ومبادئ، لأن المبادئ وحدها لا تكفي، فالقوانين هي من تحمي الأطراف من علاقات مستغلة أو غير عادلة، والمبادئ هي ما يجعل المشاركة أفضل وأجمل ويعطيها معنى.
إن الثورة الحقيقية والبطولة الحقيقية هي في الاستمرار والمضي قدمًا على طريق مليء بالتعب لكنه أيضًا مليء بالإيمان والحب والقدرة على التغيير التدريجي إلى الأفضل.
وحيدًا يمكنك السير أسرع، لكن سويًا يمكننا السير أبعد.
If you want to go fast, go alone. If you want to go far, go together