رؤية مثقف

الإنسان: الشيء الوحيد الذي نسيته مدارسنا !

كتبت الأستاذة أروى التل مقالًا تحت عنوان “ثورة تعليمية” تدعو فيه إلى ثورة تعليمية كبديل للحالة التعليمية في هذه الأيام، أسجل فيه اعتراضي على نقطتين مركزيتين طرحتا: الأولى هي اختصار السنوات التعليمية الاثنتي عشرة، بالإضافة إلى تقييم الطالب ومساعدته في اكتشاف نفسه في سنوات مبكرة وتوجيهه إلى مهنة المستقبل الأكثر ملاءمة له مع إعادة الأهمية والاعتبار لجميع المهن بما في ذلك الصناعية أو الفنية كالحدادة والنجارة. 

لدي اعتراضان جذريّان تجاه هذا التوجه قبل أن أبدأ في عرض تصوري الخاص حول المدارس النموذجية التي نطمح الى ابتداعها أو اعادة ترميمها. الاعتراض الأول يتعلق بقضية “الاستعجال” أو “شطب” جزء من الاثني عشر عامًا الى ما هو أقل من ذلك، ينبع هذا من حقيقة أن قسما لا بأس به منا يعتبر المدارس في الوطن العربي والتي تخرجنا منها لم تكن سوى إضاعة للوقت، ندرس الكثير من المواد المحشوة بالمعلومات التي “نرميها” ساعة الامتحان ثم لا نعود نتذكر شيئًا على اثرها. إن تحفظي الرئيسي هو تجاه قضية الاستعجال هذه، وذلك انطلاقًا من الاعتبارات النفسية والنضوج النفسي الذي يحتاج منا الصبر والتريّث، وعدم حشر الطالب في قضايا مصيرية تخص حياته وهو بعد لم يستقر نفسيًا، ولم يصل إلى مرحلة تؤهله إلى اتخاذ قرار متزن ويكون لديه الاستعداد لتحمّل نتائجه. الطالب حتى عمر ثمانية عشر لا يزال ينفض نفسه من تبعات جيل المراهقة، وإن كان البعض يتحفظ على الاسم، الا أن المضمون هو ذاته، يعيش الانسان في هذا الجيل تخبطًا كبيرًا بين عالم الطفولة وعالم البلوغ كونها مرحلة انتقالية لا يحسب بالقطع على أحد منهما، تجده أيضًا يمر مرحلة فطام “عنيفة” عن والديه،  يريد أن يثبت شخصيته المستقلة عنهما، فتجده كثير العناد والمعارضة والسخرية من محيطه المعتاد، لا يعجبه شيء،  ليس بالضرورة أن يكون هذا موضوعيًا وانما ليعزز مطلبًا نفسيًا داخليًا لديه أنه انسان قائم بحد ذاته ولديه رؤيته الخاصة في الحياة. يعاني الشاب في هذا العمر أيضًا ممّا يعرف ب”التمركز الذاتي” بمعنى أنه يعتقد أنه في مركز كل حدث، يخجل من التورط في الأماكن العامة أو الدخول إلى مقهي على سبيل المثال لأنه يظن أن الجميع ينظر اليه ومهتم به. يعتبر المراهق “شلّته” أمرًا مركزيًا آخرا في حياته أو على الأقل أكثر من ذي قبل، حتى أنه ربما يبديها على أسرته، يهتم لرأيها ويقلد الإجماع في الشلة من مظهر خارجي إلى آراء شخصية. كل هذا بالطبع عدا عن بداية اهتمامه بالجنس الآخر وتولّد مشاعر وميول تجاهه. تفاصيل أخرى كثيرة متعلقة وصلت إليها الأبحاث في علم نفس النموّ، لهذا فإنه يصعب برأيي تجاوز هذه المعطيات وإقحام إنسان يمرّ بهذه الزوبعة النفسية في ما هو أكثر من اهتمامه بدروسه ومدرسته وتحصيله العلمي لأجل مستقبله.

من الجميل أن نبني لدى الانسان توجه فيما يتعلق بمهنته المستقبلية، لكن من الظلم أن نحسم أمرها بسرعة البرق كما عرضت الأستاذة أروى في مقالها، أو نضطره إلى اتخاذ قرار لا يشبه بالتأكيد قراره بعد تحصيله ملكات الهدوء النفسي، والوعي والنضج. وقد استشهدت الكاتبة بحديث الرسول “علموهم على سبع” وفي اعتقادي أن التعليم هنا هو ليس المعنى الحرفي الذي استنبطته، فأنا شخصيًا أعتبر أن التعليم المقصود هنا، وأهميته حتى هذا الجيل هو “إكساب العادات السليمة”، التي من الصعب أن يكتسبها الإنسان في جيل لاحق ولو أراد أو نوى ذلك حقا.. إن العادات التي يكسبها إيانا أهالينا مصيرية في جيل مبكر لأنها تحكمنا حتى مماتنا -حتى لو كانت سيئة في حقيقة الأمر-، كالاستيقاظ باكرًا، الصلاة، ممارسة الرياضة، الاستماع الى الآخرين، الطموح وغيرها الكثير.. أنا أعتبر المدرسة في شكلها الحالي فعلًا إضاعة للوقت، لكن ذلك لا يعني وضع بديل يختصره، إنما وضع بديل يستثمر هذا الوقت جيدًا، وتحويل المدرسة إلى مكان ممتع ومفيد في كل ساعة تمضي بين جنباته. 

أما الاعتراض الثاني، وهو قضية اختيار المهنة في جيل مبكر مع مرونة تسنح للتراجع عن ذلك. وهنا فإني أعتبر أن هذا المطلب ينفي حقيقة وجود ثورة في عالم التعليم، لأن هناك تبنٍّ واضح للتوجه القائم الذي يعتبر المدرسة مكانًا للتأهيل المهني وحسب! وبنظري فإن هذا توجه ماديّ بحت، يختصر المدرسة بكل أبعادها الاجتماعية والنفسية والثقافية كمدرسة تعلمنا كيف نتصرف بالحياة في المجمل وليس فقط قضية مواد دراسية نضعها في الجيب لنصرفها فيما بعد على شكل مهنة. بالطبع للمدرسة دور في هذا لكنها ربما بالنسبة لي الأقل أهمية، خصوصًا مع عالم متغير المهن وسوق العمل متقلب بوتيرة عالية. المدرسة يمكن اعتبارها اذا ما أردنا وضع توجه ثوري جديد على أنها مختبر صغير لقدراتنا العقلية والاجتماعية والنفسية، للتجربة والتطوير، نجرب فيها مهاراتنا الحياتية ونطورها، حتى التعاملات التلقائية منها، كالعلاقة بين الزملاء.. والتي يمكن للمدرسة أن تستثمر هكذا تواجد لتتدخل وإن بصورة غير مباشرة ببساطة لإعداد أجيال ناضجة، قادرة على الحياة وخلق مجتمع سليم.

ماذا يعني “أجيال ناضجة، قادرة على الحياة”؟ هنا اسمحوا لي أن أضع ولو لبنة من تصوّر غير مكتمل عن مدارس نموذجية يكون هدفها الرئيسي إعادة ترميم الإنسان دواخل أبنائنا في الوطن العربي. بالتأكيد أن للأهل دور رئيسي في صناعة هذا الإنسان، ولكني عندما أتجاوز دور الأسرة الى المدرسة ليس القصد سوى التحدث عن تغيير مجتمعي شامل، وتوحيد القاعدة التي ينطلق منها أبناؤنا حتى لو جاؤوا من خلفيات مختلفة وأسر متفاوتة الأوضاع.
من تجربتي الشخصية، وكثيرون هم غيري اختاروا تخصصًا جامعيًا شعروا بالندم تجاهه، أو العكس اكتشفوا روعته رغم أنهم لم يكونوا مقتنعين به من ذي قبل، هل تتوقف الحياة هنا؟ باعتقادي أن هذه مسألة جانبية جدًا، ليس من الصعب تدارك تخصص ندم عليه امرئ باختيار آخر.. الخ. كما أنني بجلسات عدة لدى إخصائي نفسي مهني، يمكن أن يكشف لي عن حقيقة رغباتي ومكنوناتي وميولي، والاعتماد عليها لاحقًا في اختيار التخصص، أو اختيار تخصص لدوافع مادية بحتة وإن كنت لا ترغبه على الإطلاق. بيت القصيد ببساطة ليس هنا. فإن قرار اختيار التخصص ليس سوى واحد من بضعة عشرات القرارات المصيرية التي نتخذها في حياتنا.

على المدرسة بالإضافة إلى مسؤولية المناهج التقليدية والتي بحاجة إلى تغيير حقيقة في توجهها الذي يؤثر “الحفظ” على “الفهم”، وهذا في الجانب “المادّي”. عليها أن تعلم تلامذتها كيف يتخذون قرارًا سليمًا في حياتهم، “آلية اتخاذ القرار” من جمع للمعطيات، مسح للآراء، الاعتبارات الرئيسية لأي قرار، ما هو لصالح وضد خيار معين.. أعتقد أن هذا غير موجود في وعينا بتاتًا، واذا ما أجريت إحصائية حول “كيف اخترت تخصصك الجامعي” فإن الغالبية سترتبك، ولن تعرف كيف تجيب بصورة موضوعية ودقيقة عن العملية، عملية اتخاذ القرار أقصد، “عملية” بمعنى أنها مركبة ومتعددة المراحل. نتخرّج من المدرسة بل ومن الجامعة ونعيد الكرّة في عملية اتخاذ قرار فيما يخص “الزواج”. أيضًا قرار عشوائي آخر، مرتهنا للصدف أو كما يكثر تداول المثل “الزواج بطيخة مسكرة” في محاولة جهنمية لإعفائنا من التفكير الموضوعي والأخذ بالأسباب وإجراء “عملية” اتخاذ القرار “المضنية“.

المدرسة أيضًا لا تلعب دورًا في إكساب أبنائها “وعيًا ذاتيًا”، أبناءنا يجدون صعوبة في التعبير عن أنفسهم، لا يعرفون من هم، ماذا يريدون، إذا طلبت منه أن يشرح عن نفسه، فإنك ستجده يشرح عن محيطه، عن كل شيء في حياته إلا هو. عاجز عن تقييم نفسه بصورة موضوعية، لا يستطيع الخروج من أناه (المهدد باستمرار) ليشرف عليه وينتقده أو يصوّبه، فهو بنظره على صواب مطلق. هذا الشخص بكل بساطة عاجز ليس فقط عن إدارة نفسه، بل وإدارة علاقته مع الآخرين. شخص متمترس خلف درعه، منشغل في الدفاع عن الضربات، هو في حالة حرب دائمة ودفاع استنزافي يعوق الوصول إلى “الوعي الذاتي”. طبعًا المدرسة ليست أخصائي نفسي، لكنها لا تتيح بكل بساطة لأبنائها التعبير عن أنفسهم وبشفافية، دون أن يؤخذ الموضوع بصورة شخصية وهزلية. المدرسة في وضعها الحالي مسرح، على جميعنا أن يمثّل حبّه للمواد، للمدرس.. على جميعنا أن نكون عباقرة في جميع المواد. نعيش المثال أو بالأحرى الزيف، فنخسر أنفسنا وفهم أنفسنا. 

من واجبات المدرسة اكساب أبنائها، أبناء الوطن، القدرة على “التفكير الموضوعي” أو “التفكير العلمي”، بعيدًا عن المبالغات، وقريبًا من المصادر الموثوقة للمعلومات المستقاة، تمييز الحقائق عن الرأي، الرضوخ للحقيقة وعدم المكابرة عليها، التمييز بين الواقع الموجود والقدرة والشجاعة على الإقرار به كمنطلق للتعامل معه ومحاولة تحسينه، وبين الواقع المنشود والذي نريده، التعامل مع المعلومة بشيء من الشك، أو القدرة النقدية. نعم على المدرسة أن تطوّر “الملكة النقدية” لدى أبنائها، وخاصة في عصر العولمة والاتصالات، فلا يكونون كالقشة في مهب الريح، لا يكونون ضحايا الإعلانات والموضة ومتلقيًا سلبيًا تجاه الرسائل الإعلامية الجشعة. على المدرسة مسؤولية أن تخرج أبناءها في عصر تعصف به ريح الاستهلاك درجة مجنونة من هذه الدائرة. عليها  أن تحوله الى إنسان منتم لمجتمع الإنسانية، يحمل همّه ومسؤوليته ويملك الأداة أو لنقل “العقلية” المؤهلة لذلك. أيضًا تطوير الفضول العلمي وحب المعرفة، توسيع رقعة الاهتمامات وطرح الأسئلة والدافعية للإنتاج..الخ.

“القدرة على حل المشاكل” خصوصا أن المدرسة بيئة تعجّ بالعلاقات الاجتماعية، تلاقحًا وتدافعًا وتصارعًا، فأنا عن نفسي لا زلت أذكر أني في الصف الحادي عشر، أي في السابعة عشر من عمري رأيت عراكًا بالأيدي بين طالبتين وسط ساحة المدرسة دون حياء. طبعًا هذا عدا عن أن قسمًا لا بأس به (مرة أخرى لا أملك إحصائيات وانعدامها جزء من العقلية التي تخشى الحقائق في مجتمعاتنا) من الأخوة في العائلات الفلسطينية لديها خلاف مستديم ومستميت على الميراث والأراضي والمال. 

سيسألني كثيرون بالتأكيد عن آلية تطبيق ذلك، ما أود أن أنفيه تمامًا أنه ليس بالموعظة وليس بإلقاء المثل اللانهائية، وأنه بإمكان الأخصائيين ابتكار برامج وفعاليات كثيرة تدرب أبناءنا على هكذا ملكات وتكسبهم إياها. شاهدت ذات مرة في إحدى برامج البي بي سي برنامجًا يتحدث عن مشروع “الوساطة” الذي بادر إليه مستشارو إحدى المدارس في بريطانيا، يعين فيه الصف ثلاثة أشخاص كل أسبوع أو شهر كـ “وسطاء” لحل المشاكل والخلافات التي تحدث بين أترابهم. يعطي المستشارون هؤلاء الوسطاء بعض النصائح في كيفية حل المشاكل بين طرفين مختلفين ومتخاصمين، كما أنهم يشرفون على جلسة الحوار التي يجرونها لحل المشكلة والحلول التي يقترحونها، ويقدم هؤلاء المستشارون “تغذية رجعية” للـ “وسطاء” حول أدائهم.

أي تأهيل للحياة أفضل من هذا وأي توسيع لرقعة تأثير المدرسة وحيويتها في حياتنا أهم من هذا؟  لاشيء..!!

زر الذهاب إلى الأعلى