دراساتدراسات وأبحاث عربيّة

البيئة المدرسية

تُرى هل يمكن أن نتصور حجم الكارثة، عندما نعلم بأن حوالي 43% من انحراف الأحداث هو ناتج عن عدم رضا هؤلاء الأحداث عن وضعهم في المدرسة! وهو ما قد يدفعهم إلى أن يسلكوا سلوك العنف داخل المدرسة خاصة و المجتمع عامة؟!

في هذا التقرير، نواصل  عرض كل ما يتعلق بقضية العنف المدرسي، ونعرض دور البيئة المدرسية وعلاقتها بالعنف المدرسي. وأنا أعد هذا التقرير اطلعت على دراسة ميدانية أجريت في مدينة بعقوبة، بمحافظة ديالى العراقية، تقدمت بها الباحثة العراقية “زينب عبد الله محمّد”، إلى جامعة بغداد عام 2005م. تبحث الدراسة في دور البيئة المدرسية في سلوك “العنف”. عندما يبدأ التلميذ حياته الدراسية الأولى يحمل معه عددًا من السلوكيات التي اكتسبها من البيئة الاجتماعية الأولى وهي الأسرة فضلًا عن اعتقاده إن جميع سلوكياته مقبولة وأنه حر التصرف كما لو كان في البيئة الأولى إلى أن يدرك إن المدرسة عالم آخر له قوانين وتعليمات عليه أن يحترمها وهو يتفاعل مع مكونات المدرسة الرئيسة وهي (المدرس، المدير، المنهج،الإقران) وعن طريق هذه البيئة يكتسب الطفل خبرات الحياة الاجتماعية كافة وتساعده المدرسة في تكوين الاتجاهات والأنماط السلوكية خلال تفاعله مع مكوناتها.

فدور المدرسة هو دور مكمل لدور الأسرة وهذا ما أكده الإمام الغزالي وكان يرى أن عملية تنشئة الحدث لم تقتصر على الأسرة فقط بل هي مسؤولية النظم الأخرى لا سيما المدرسة فهي مسؤولة عن تهذيب الطفل وبناء شخصيته. فالحدث يدخل المدرسة وفي عقله تجارب اجتماعية سابقة ويتعرف داخلها على أفراد ممكن أن يكون كل واحد منهم مصدر راحة أو تعب بالنسبة له، فالمدرسة ميدان صراع آخر إذ يربح أو يخسر هناك وإما أن تغني شخصيته بالاحترام والثقة أو يعمق لديه الإحساس بالذنب والنقص فالمدرسة هي الصرح الشاهق الذي يمكن أن يشكل حاجزًا في وجه المد الانحرافي المتزايد بين جموح الشباب. وكان يرى العالم ولير، أن هناك صراعًا داخل المدرسة بين الطلبة و المعلمين، فالطلبة يرفضون الأحكام و القوانين واللوائح المدرسية وهذا يولد نوعًا من حالات الصراع والعنف داخل النظام المدرسي الذي هو جزء من النظام التربوي. والمدرسة هي نسق اجتماعي يخضع لحالات الصراع و العنف والقسوة. وتعد فترة الانتقال من المدرسة الابتدائية إلى المدرسة الثانوية من المراحل التي قد يكون لها تأثيرات عميقة وكثيرة في شخصية الطفل و أن المدرسة بالنسبة للكثير من الشبان تحتل المرتبة الثانية بعد البيت كمؤسسة تحدد تصور الشخص النامي لنفسه واتجاهاته نحو قبول نفسه أو رفضها. ويرى الباحثون،بأن المدرسة بدلًا من أن تؤكد على النجاح تؤكد على الفشل ونرى ذلك في دخول الأطفال إلى المدرسة بتشكيل عقلي ناجح ومتفائل وقلما يذهب الأطفال الفاشلون إلى المدرسة أو يطلق عليهم فاشلون ولكن الواقع أن المدرسة وحدها هي التي وصمت الطلاب بالفشل و هذه من أصعب المشكلات التي يواجهها المعلم.

بعض الباحثين يؤكدوا أن العنف والعدوان يترتبان أوتوماتيكيًا و بشكل طبيعي عن المؤسسة المدرسية بوصفها مؤسسة تربوية، معتمدين في تفسيرهم هذا على أن جوهر العملية المدرسية يكمن في بنية السلطة التربوية فعندما يكون الشخص تلميذًا عليه أن يتلقى المعلومات والنصائح وأن يواظب على التدريبات التي ينبغي عليه القيام بها ويترتب عليه الخضوع لإدارة معلم يمسك مقاليد السلطة. وقد انعكست مشكلات الواقع المجتمعي على الواقع المدرسي وبدلًا من أن تكون المدرسة وسيلة تفعيل وتنوير في المجتمع أصبحت وسيلة لتفريغ السلوك الشائن وتكريس السلوك السيء وأسهمت في تلويث البيئة التربوية بدلًا من تجسيد القيم السليمة، فالذهاب إلى المدرسة يعني الانفصال عن الأهل والابتعاد عن جو كان هو سيده والخضوع لنظم وضعتها جماعة غير الأسرة ومن هنا كان إخفاق المدرسة في تحمل مسؤولياتها وفي تحقيق غاياتها الهادفة إلى تنشئة الفرد وتنميته جسميًا و قليًا واجتماعيًا كما أن اضطراب العلاقة وانعدام التعاون بين الأهل والمدرسة قد يسهمان في سوء التوافق المدرسي. فالمدرسة أكبر مؤسسة اجتماعية تؤثر في الطفل بعد الأسرة بل وقد تكون في كثير من الأحيان المؤثر السلبي الوحيد في حياة الطفل لا سيما في حالة الأسر المتصدعة و الفقيرة، خاصة عندما يواجه بيئة شبيهة بالوسط الأسرى الذي كان يطمح للخروج منه فيشعر بإحباط كبير ينعكس عل سلوكياته في المستقبل مما يكون له أكبر وصمة في حياة الإنسان وأسلوب العقاب الذي تتبعه البيئة المدرسية قد يولد الانحراف على المستوى البعيد المدى ، كما أن لهجة التعامل اللفظي يجب أن تخلو من العنف والأوامر والتوعد لأن هذه اللهجة تشيع التوتر و الخوف بين الطلبة مما يؤثر على شخصياتهم.

وقد أشارت دراسة في ذات الموضوع أعدها الباحث وعد إبراهيم إلى أن 44.2% من انحراف الأحداث هو ناتج عن عدم رضا هؤلاء الأحداث عن وضعهم في المدرسة وأن طبيعة المحاسبة داخل المدرسة هي التي تؤدي إلى ردود فعل الحدث وأن شعور المتعلم بعدم المساواة في التعامل داخل المدرسة والإحساس بظلم من يتعاملون معه و الإحساس بتقييد حريته وفقدان قنوات الاتصال بين المتعلمين والفريق التربوي داخل البيئة المدرسية وفقدان الأمن والطمأنينة هذه العوامل مجتمعة تؤدي بالطالب إلى الإحباط والحرمان مما يصل بتصرفاتهم السلوكية إلى حد العنف واللجوء إلى التمرد لتحطيم النظام المؤسساتي الذين يعتقدون أنه المتسبب فيما هم عليه، فالبيئة المدرسية بما تنطوي عليه من نظام صارم قد يكون نظامًا جامدًا يستند إلى العنف و القسوة وتوقع العقاب كوسيلة علاجية مما يؤثر على الطفل وتصبح عادات أساسية يقوم عليها سلوك المتعلمين مما يكون له تأثير مستديم في وجهتهم الأخلاقية. وفي دراسة لأحد الباحثين، عدّ الخضوع لنظام البيئة المدرسية له تأثير أكبر كونه مصدرًا من مصادر سوء السلوك الصفي. فالمدرسة نظام اجتماعي تختلف عن غيرها من النظم من حيث بيئتها الاجتماعية التي تعكس نوعًا خاصًا من التفاعل الاجتماعي بين أفرادها أي مكوناته الأساسية (المدير – المدرس – الطالب -المنهج) وهذه كلها مؤثرات تنعكس على العلاقة بين الطلبة وتلك المكونات مما قد يولد عنها علاقة سلبية أو إيجابية بين الطلبة والبيئة المدرسية المتمثلة بمكوناتها المذكورة سلفًا.

 مهتم بأمور التعليم

طه العاني

صحفي ومهندس عراقي، مهتم في أمور التعليم. مدير قسم التحقيقات في “شبكة زدني”، مراسل الشبكة في العراق، وضمن فريقها في تركيا حاليا.
زر الذهاب إلى الأعلى